أبريل 26, 2024

من أين نبدأ

أظهرت التراجيديا الكيميائية مدى هُزال وتخبط الدول الكبرى والأطراف المتصارعة داخل سوريا. وأظهرت بوضوح حالة الفصام عن الواقع التي تعيشها الأطراف المصرة على استمرارLavrouff المواجهات المسلحة العبثية وديمومتها في البلاد.
فقبل 21 آب الماضي بشهر، أعلن رئيس «الائتلاف السوري» احمد الجربا أنه بحاجة لشهر واحد لإعادة موازين القوى بعد القصير والخالدية. رئيس «أركان الجيش الحر» سليم إدريس كان يتحدث عن تغيير استراتيجي على الأرض قبل نهاية العام. السلطات السورية كانت تتحدث عن انتصارات مهمة وخطة موضوعة لاستعادة السيطرة على الأراضي التي يسيطر المسلحون عليها.
أخبرني أحد الصحافيين الذين التقوا الرئيس بشار الأسد أنه يعيش في حالة انفصال كاملة عن الواقع، ويتحدث عن نجاح تاريخي في مواجهة ستين دولة. أما «الدولة الإسلامية في العراق والشام» فكان في برنامجها السيطرة على منطقة الجزيرة، امتدادا إلى مشارف حلب لإعلان إمارتها بعد احتلال المناطق الكردية. الواضح لكل مراقب أن المعارك الدامية في سوريا هي موضوع «انتصارات» عند كل الأطراف، وليس هناك أي طرف على استعداد للتخلي عن إنجازاته وتصوره الذاتي لنصر عسكري وشيك.
إن كان لإعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما ضرورة توجيه ضربة عسكرية تأديبية للنظام السوري من إيجابية ففي كونها كشفت أن المسلحين المدعومين من إدارته غير قادرين على إحراز أي تقدم من دون تدخل خارجي عسكري. أي انهم في نهاية المطاف غير قادرين على لعب دور مركزي بقدراتهم الذاتية. كذلك أظهرت للعيان أن السلطة السورية، مهما تبجحت، تشعر بأن هناك هشاشة بنيوية في أطروحاتها وفي وضعها الميداني لم يكن بالإمكان تجاوزها جزئيا إلا بالتدخل المباشر لمقاتلي «حزب الله»، ليس فقط في القصير وإنما في حمص وريف دمشق، حيث خسر «حزب الله» قبل أيام سبعة من مقاتليه فقط في الهجوم على قرية شبعا في ريف دمشق.
وبغض النظر عن حجم المقاتلين غير السوريين في صفوف النظام، فلا شك بأن المسؤولية القانونية والسياسية والأخلاقية عن وجودهم على الأراضي السورية والدور الذي يقومون به للعودة بسوريا إلى النظام الدكتاتوري الذي أوصلنا لما نحن فيه، تتعدى مسؤولية دعم طرف محدد إلى تورط حكومة في قضية التدخل العسكري الخارجي، مع كل ما يترتب عن ذلك من شرعنة لوجود المقاتلين غير السوريين في صفوف المعارضة، بما في ذلك المشروع الطالباني المدمر الذي يحمله التكفيريون الأجانب.
ليس من المفاجئ لنا والحالة كذلك أن يستمر الجيش السوري، وفق التعبير الرسمي، «بالقيام بمهماته وفق الخطة الموضوعة سلفا»، وأن تسود حالة بلبلة في صفوف المعارضة المسلحة بين مؤيد لمؤتمر جنيف بشروط وبين رافض له باعتباره انحرافا عن طريق الثورة.
هذه الحالة الفصامية التي مزقتها تصريحات 13 فصيلا مسلحا أعلمتنا في بيان لها ما قالت هذه الفصائل قبل أشهر من أن المشروع الذي تحمله ليس ديموقراطيا وليس مدنيا بل إسلامي صرف، في فهم مختزل ومنغلق للدين والدنيا، ثم تبعتها فصائل أخرى أعلنت رفضها «الائتلاف» وحكومته وقيادة الأركان (طبعا وبالمعية الفصائل الديموقراطية المؤيدة لجنيف 2 حتى لا يشعر أحد بالسعادة!) ورفض الحل السياسي.
يمكن القول من دون مبالغة إن السياسة التي عبر عنها مسؤول أميركي كبير بالقول «حرب الاستنزاف السورية في مصلحتنا»، تعطي نتائج كهذه. فقد فشلت الوصاية الخارجية في وضع سياسة بناءة وقابلة للنجاح للمعارضة الواقعة تحت سقفها. ومن هنا لا نستغرب تصاعد المواجهات بين «الجيش الحر» والمتطرفين التكفيريين. مواجهات توقعناها منذ أشهر، وقيل فينا، لصدقنا في قراءة الوضع ما لم يقل مالك في الخمر.
لقد أصبح واضحا لكل مبصر أن استمرار القتال سيكمل تحطيم المجتمع والدولة، ويحول الكيان السوري إلى أنموذج جديد للمأساة الصومالية، لكن أكثر خطرا وأكثر ضررا على الصعيدين الإقليمي والدولي وليس فقط في سوريا.
هل يحق لنا في وضع كهذا، ونحن نعلم بأن المعنيين بالمواجهات المسلحة لا يمثلون أكثر من عشرة في المئة من السوريين، أن نغمض العين عن الغالبية الحقيقية التي تدفع يوميا ثمن هذا الفصام الذي يعيشه أنصار الحل العسكري؟ هذه الغالبية التي لم يعد لها أي صوت منذ عسكرة الثورة عندما جعلنا القنابل بديلا للعقلانية والحكمة؟ هذه الغالبية تعتقد أن النصر العسكري أسطورة صنعها تجار الموت، وأن هذه الأسطورة أصبحت اليوم تمس مستقبل سوريا التي تواجه قضية وجودية مصيرية (to be or not be ) (أن تكون أو لا تكون أبدا). لدينا اليوم 50 في المئة من المجتمع السوري عاطلون عن العمل، و45 في المئة ممن يعملون لا يستطيعون أن يكسبوا عيشهم إلى آخر الشهر. نحن اليوم أمام تحطم 40 إلى 45 في المئة من البنيات التحتية الصناعية في البلاد، معظم مصانع الأدوية تم تحطيمها سواء من النظام أو من المعارضة المسلحة، لدينا قوائم حصرية بـ 110 آلاف ضحية، وأكثر من 600 ألف معوق، من جرحى المواجهات المسلحة والحل الأمني العسكري، و120 ألف معتقل ناهيكم بالمفقودين. هذا إذا لم نتحدث عن 2.5 مليون لاجئ خارج البلاد و4 ملايين نازح داخل البلاد، ومناطق كاملة لا تعرف ماء الشرب. لقد خسرت سوريا في مأساتها قرابة 350 مليار دولار. وأصبح من الضروري على الطبقة السياسية السورية والمجتمع الدولي تحمل مسؤولياتهما تجاه الشعب السوري والتاريخ.
إذا ما استمرت الحرب العبثية على حالها فليس هناك نصر عسكري، هذه أسطورة، بل مزحة دموية، يعتقد بها بعض أمراء الحرب «الجهاديين» أو بعض من قيادات النظام. يتوجب إبعاد الحالات الفصامية التي تقرر مصير السوريين اليوم عن دفة القرار.
لقد صار التدويل أمرا واقعا ولم يعد بإمكان السوريين تقرير مصيرهم بأنفسهم. وقد فشلت كل عمليات الترجيح الدولية في تعزيز قوة طرف على آخر.
لم تعد الحرب في سوريا بل على سوريا. العديد من الدول الإقليمية والدولية يسعى لتحميل الحراك الاجتماعي أكثر مما يطيق عبر تطييف الحرب وتعزيز التطرف بشكل مباشر أو غير مباشر. لم تعد المواجهات المسلحة تقدم سوى الدمار والقتل. ولعلنا في وضع مأساوي كهذا نعود إلى اللحظة الأهم في الدور الدولي، إلى 29 حزيران العام 2012 حيث للمرة الاولى تتفق كل الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن على إعلان واحد (إعلان جنيف) وعلى مؤتمر دولي من أجل سوريا.
اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، يبدو لنا مؤتمر «جنيف 2» النقطة المضيئة الأهم في قرار مجلس الأمن الرقم 2118. ومن الضروري أن تضغط الدول الفعالة على حلفائها السوريين والإقليميين من أجل الانتقال من لغة الموت إلى لغة التغيير السياسي وإعادة البناء.
ليس القرار الأممي ممكن التحقيق من دون قيام كل طرف، على الأقل ضمنيا، بقراءة تحليلية نقدية لتجربته السياسية خلال العامين الماضيين. ومن الضروري اليوم أن يكون هناك وفد مشترك للمؤتمر الدولي حول سوريا تحت لافتة «المعارضة الوطنية السورية». وفد يضم أنصار الحل السياسي قادر على الانتصار في المعركة السياسية للتغيير الديموقراطي.
في أعناقنا مسؤولية تتطلب أن نكون أكبر من الهياكل السياسية القائمة، وأن نذهب ببرنامج مشترك وطاقات قادرة على انتزاع مطالب شعبنا على طاولة المفاوضات حتى لا تتكرر المأساة العسكرية.
صحيح أن الفشل السياسي أقل كلفة، لكننا لم نعد في وضع يتحمل ترف الفشل. إن الكيان والإنسان في سوريا يضعاننا أمام الاختبار الأهم في وجودنا السياسي، وعلينا أن نكون أهلا لهذه المهمة التاريخية.

——————- 

 04/10/2013،