هيثم مناع
كتب فقيد القلم الحر أندريه فولتشيك André Vltchek قبيل وفاته في 2020:
”من لندن إلى واشنطن، يعمل مروجو البروباغندا ”المحترمون“ على حماية الناس في جميع أنحاء العالم من “الحقائق المزعجة”. يتم تصنيع الرأي العام والإيديولوجيا والتصورات. مثل السيارات والهواتف الذكية ذات الإنتاج الضخم، يتم تسويقها من خلال البروباغندا والإعلام… لقد سيطر الخوف والعدمية على الكوكب بأسره. الخوف من أن تكون هدفاً لـ “عقاب” أسياد العالم الغربيين. الخوف من أن يتم وضع ”الوصمة“، المقاطعة والتهميش، وصمة ”العدمية“ يتم حملها أيضًا من قبل الدعاة les propagandistes الراسخين في وسائل الإعلام والجامعات في الغرب، الأباراتشيك المستأجرون لمهاجمة أية فكرة تقدمية ومستقلة، بغض النظر عن شكلها أو أصلها. التفاؤل والحماسة المتشددة والحلم بعالم أفضل تتعرض للهجوم والتشويه وفقدان المصداقية، وفي أحسن الأحوال التهكم والسخرية“.…
هذا ما نعيشه بشكل مفضوح منذ السابع من أكتوبر 2023، في العالم المسمى زورا وبهتانا بالحر. عالم يصنف كل من يخالفه معسكرا للشر، “عالم ديمقراطي” لم يعد عنده سوى العنف والكذب وسيلة للبقاء: صناعة العدو ثم شيطنته بقاموس رمادي التعاريف، ضرورة للاستمرار (الحرب على الإرهاب، حماية النظم الديمقراطية، القضاء على كل من يهدد أمن إسرائيل…) لا يهم، المهم أن المهمة تصبح بكل بساطة، تحطيم وإبادة هذا “الشر”، وبما أن هذا الشر لا يمكن أن يكون من عالم “الحضارة الغربية”، يصبح نزع الإنسانية عنه شرطا واجب الوجوب لاستباحة حقه في الحياة والأمن والكرامة، أي إبادته.
مهما كشفت الحرب الأوكرانية من أساليب كذب وخداع وتضليل البروباغندا الغربية، إلا أنها لا تعادل بحال من الأحوال ما نشهده اليوم من مواقف يتخذها “مجرمو الكلمة” من الإبادة الجماعية في وضح النهار للشعب الفلسطيني وقطاع غزة. يخرج علينا الفلاسفة الجدد-القدامى، ببكائيات وروايات عن عمليات اغتصاب منهجية وقطع رؤوس الأطفال وحرق المستطاع منهم… وكما يذكّر بلينكن الدبلوماسي الأمريكي بأنه يهودي، يذكرنا فنكلكراوت وبرنار هنري ليفي وزيمور وآرثور بأنهم يهود أيضا، بعد أن حدثونا دهورا بالعلمانية النقية التي تجعل من الدين قضية شخصية لا قضية عامة! يستنكرون وجود 48 بالمئة من مسلمي فرنسا لا يعتبرون حركة المقاومة الإسلامية منظمة إرهابية؟ علما بأن النسبة في مختلف القطاعات والأديان لا تختلف اليوم، بعد أكثر من 70 يوما من المجازر الجماعية، لا تختلف كثيرا عن ذلك. وعندما يقول الرئيس السابق لمنظمة أطباء بلا حدود روني برومان (وهو من عائلة يهودية) أنه “لا يمكن قبول تصنيف المقاومة الإسلامية للاحتلال كمنظمة إرهابية .. هناك ازدواجية معايير واستبعاد متعمد لجرائم موصوفة وموجودة على أرض الواقع مثل نظام الأبارتايد (الفصل العنصري) والتهجير الجماعي والقتل العشوائي”، يصدر الحكم على أهم شخصيات أطباء بلا حدود بالمنع من أهم القنوات التلفزيونية الفرنسية. وتصل التفاهة المضحكة المبكية أن يدفع صحفي مقرب من الأوساط الإسرائيلية ثمن ظهوره الإعلامي لقوله جملة معروفة للقاصي والداني: “ليس بالإمكان مقارنة حماس بداعش أو القاعدة، لأن حماس منذ ولادتها لم تقم بعمل عسكري واحد خارج الأراضي الفلسطينية”.
أين الصحفي النزيه الذي يقول بأنكم تتهمون مسلمي فرنسا بازدواجية الانتماء وتحدثوننا ليلا نهارا عن جنود وضباط مزدوجي الجنسية ارتكبوا جرائم جسيمة في الضفة الغربية والقدس وفي غزة، ويحملون بحربهم على الشعب الفلسطيني وزر أفعالهم لكل الفرنسيين والبريطانيين والألمان إلخ؟
نعم، هناك إرهاب فكري وثقافي وإعلامي، إرهاب نجد فيه في حلقة نقاش تلفزيونية ثمانية متدخلين كلهم من معسكر واحد: المعسكر الذي يدعم أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفا. ويجري فيه تهديد رؤساء تحرير أصوات تقدمية بأنهم يعرضون أنفسهم لتهمة العداء للسامية والصهيونية؟ ونسمع فيها المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي كل يوم أكثر من أي مسؤول فرنسي، من الموالاة أو المعارضة، ويحظّر فيه نشر صور المستشفيات المهدمة ولائحة قوائم قرابة 90 صحفيا وصحفية استشهدواـ وأكثر من 150 موظفا للأمم المتحدة ضحية القصف العشوائي، وقرابة 300 من الطواقم الطبية والإسعاف والدفاع المدني موزعين بين الاعتقال عراة قرب بئر السبع أو بين الجثث التي جرفتها جرافات الاحتلال للبشر والشجر والحجر من أمام المستشفيات.
“نحن نمتنع عن نقل صور عديدة مما يحدث في غزة حرصا على عدم نقل الصراع إلى فرنسا”؟ يقول محرر الأخبار في محطة LCI التلفزيونية التي يملكها الملياردير بويغ، أما القناة اليمينية الشعبوية CNews، فتستقدم أشباه المثقفين للحديث عن “صراع الحضارات” باعتبار نظام الأبارتايد الإسرائيلي استمرارا للحضارة الغربية أو البيضاء في معركتها مع الظلامية العربية والإسلامية.
لقد نجحت شبكات التواصل الاجتماعية المنعتقة من مقصات الرقابة والحجب في اختراق احتكار الإدارة العولمية للتوحش التي سيطرت منذ احتلال العراق على أهم الفضاءات الإعلامية الدولية وسخرتها لخدمة الحروب الأمريكية المباشرة وغير المباشرة. وكان من المثير للسخرية مثلا، أن يخرج في فرنسا خمسة محطات تلفزيونية في ثلاثين ساعة، تدّعي كل منها، أنها الأكثر استماعا والأكثر مشاهدة في البلاد!! في لحظة هجر فيها مستمعوها التقليديين قنواتهم للبحث عن معلومة أو خبر يقربهم من حقيقة ما يجري.
أسقطت غزة ورقة التوت عن عورات الإعلام الغربي، ولعل النتيجة الحتمية لذلك، نهاية حقبة الإمبراطوريات الإعلامية الكبيرة التي انحطت إلى درجة لا تختلف فيها عن وسائل البروباغندا في أكثر الدول دكتاتورية في العالم.
————
مفكر وناشط حقوقي