أبريل 26, 2024

حركة حقوق الإنسان وشروط المصداقية

hr رغم التقدم النسبي الذي حققته الحركة العربية لحقوق الإنسان، فإن هذه الحركة تعيش في نهاية القرن أزمة عميقة متعددة الأبعاد والجوانب، وبرأيي من الصعب تجاوز هذه الأزمة دون الاعتراف بوجودها أولاً ثم التقييم المعمق لمقوماتها ثانياً وعقلنة رغبة الخروج منها ثالثاً.

لقد دخلت حركة حقوق الإنسان العالم العربي كتعبير عن حاجة، الأمر الذي لا ينقص من أهميتها بل على العكس يعطيها شرعية البعد الموضوعي الهام لأية حركة، ولكن دخولها جاء في لحظة صعبة وحرجة من تاريخ المنطقة ومن جيل حرم من أبسط تعبيرات الحرية، ولعل نهاية “الدولة الكاست” (المغلقة) التي تسد الباب والنافذة على رعاياها مع اختراع موجات لا تعرف الحدود وصور تعبر القارات قد جعل من كل شخص في هذا العالم كائناً قادراً على تعزيز الثقافة الشعبية الشفهية المناهضة للعسف بأحاديث الإذاعة وبرامج التلفزة والتداول السري للكتاب الممنوع عبر الوسائل الإلكترونية، لقد عاد المفهوم اليوناني للإنسان كعالم صغير معززاً بتقنية حولت العالم برمته إلى قرية، وكل هذا التقدم كان يطرق أدمغتنا، ولم يعد بالمستطاع القول فقط أبوابنا، بعد حقبة أزمنت فيها السلطات التسلطية في الحكم وغيب فيها المواطن العربي عن كل ما يقرر مصيره الفردي والعام، كان الجو ومازال مهيئاً إذن لحركة منتجة وغنية قادرة على التأثيروالفعل.

إلا أن المفترض شيء والحياة الفعلية شيء آخر، فكل رأي مفيد أو فكرة نبيلة تشكل موضوع احتواء كما يقول ثيودور أدورنو، ولا تنجو فكرة حقوق الإنسان من أن تكون مستهدفة أو أن تستعمل من مختلف أشكال السلطات وبوسائل مختلفة، كذلك لا تعدم أن يكون في داخلها من يوظفها لغايات شخصية مالية أو سياسية أو غير ذلك، ولكي تحافظ حركة حقوق الإنسان على الحد الأدنى لمصداقيتها علينا أن نتذكر باستمرار أننا لسنا فوق البشر وأن حقوق الإنسان هي قضية التزام قبل أن تكون قضية امتياز، ومادة عطاء لا موضوع كسب، وبيئة تجاوز للأخلاق التي أنتجها الاستبداد لا إعادة إنتاج لهذه”الأخلاق”. لقد دخل عدد هام حركة حقوق الإنسان نتيجة الإحباط والفشل السياسيين، وللأسف لم يدرك البعض أنه يحمل كل عوامل الفشل عبر إعادة إنتاج أسبابه في العالم الحقوقي، ولم تأخذ حقها للأسف حتى اليوم قواعد منهجية أساسية اختصرها بخمسة: حق النقد، حق الاختلاف، واجب أخلاقية المحاسبة، ديمقراطية العلاقات والشفافية الكاملة، وفي العديد من موضوعات المؤتمر سنجد هذه القواعد ماثلة أمامنا بشكل أو بأخر.

إن حركة حقوق الإنسان سلطة مضادة جديدة ضرورية وحاسمة في عملية بناء المجتمع المدني . وهناك عدة نقاط ضعف في بيتها وأسلوب عملها سمحت ويمكن أن تسمح في المستقبل بإنهاك الحركة والإساءة لصورتها وفعاليتها . وسأحاول سريعاً التعرض لأمثلة عملية وأخرى نظرية تسمح بتوضيح نظرتي لبعض معالم الأزمة:

**  أولى هذه النقاط المسألة المالية:

 في حقبة العولمة، من المضحك أن نطالب بجمعية ليس لها أمين صندوق وتتعامل بالمال في مبيعاتها ومشترياتها ومشاريعها اليومية، وكما سبق وقلت دائماً إن السياسة المالية لأية جمعية يحددها المنتسبون إليها فقط وبخيار ديمقراطي حر، وأية قيود مفروضة من قبل السلطات الحاكمة تعني حرمان المنظمة غير الحكومية من حقها الطبيعي في استقلالية القرارات، ولكن لا يجوز لنا بحال أن ننسى أن المال لا يصنع حركة حقوق الإنسان ولا يفرخ مناضلين، وأن تلقي المساعدات للشأن العام وللعمل من أجل حقوق الآخرين شيء وتوظيف هذه المساعدات لأشياء أخرى شيء آخر، ولعل بارانويا الاغتناء السريع من أخطر الأمراض التي يمكن أن تعاني منها حركتنا، فالمال سلطة، وعندما يوضع مليون دولار بيد شخص لإدارة شبه جمعية أو مركز مكون من مدير وسكرتاريا ومجلس أمناء معنوي لا يعرف عن نشاطات المركز وليس مجلس يصله باستمرار تقرير معنوي وآخر مالي عن نشاطات المدير الفرد، يصاب هذا “المدير العام” بفقدان التوازن، وإن لم يكن لديه من الصلابة النضالية والأخلاقية السلوكية الرصيد الكافي فلا نستغرب أن يتحول الحفاظ على هذا الامتياز إلى غاية في ذاته ومن أجل ذلك إيذاء من يستطيع خوفاً من المنافسة على الغنيمة.  هنا يصبح مبدأ “من أجل القضية كل شيء مباح” قاتل للقضية ومشوه لسمعتها وليس فقط لسمعة أشخاص يسيئون. خاصة عندما تتشكل نومنكلاتورا بيروقراطية نفعية، بعقلية تآمرية قادرة على الإساءة لكل النويات الجديدة الخلاقة وإغلاق الباب عليها لتتكلس الصورة النمطية لحركة بأكملها في أشخاص محترفين لكتابة البروبوزال والاتصال بمؤسسات التمويل والمداومة على مصادر الرزق لا ساحات النضال. وللأسف فقد شوهت هذه الممارسات سمعة واحدة من أهم التجارب العربية (مصر) حيث أصبح قطاع منها تحت رحمة التدجين الحكومي أو أبواب السفارات لحماية نفسه من مخالفات وتجاوزات قانونية حقيقية لا تليق بحركة تعمل للصالح العام.

** النقطة الثانية هي الشفافية

وهي كلمة للأسف استعملت من قبل ألد أعدائها لضربها، الأمر الذي لا يفقدها مصداقيتها بحال، في العالم السياسي المتعدد السلطات أو بلدان الديمقراطية الشكلية باستعارة تعبير المدارس النقدية الغربية لأنظمتها، رجل السياسة موضوع محاسبة دائمة، وكذلك حال كل من يعمل في هذا الشأن العام، وهذه القاعدة أساسية لديمقراطية ومصداقية حركة حقوق الإنسان، عندما يزّور رجل السياسة وثيقة يستقيل من منصبه ليمثل أمام القانون، وعندما يكذب شخص يعمل في وسط حقوق الإنسان فهو موضوع نقد كغيره. ولا يمكن أن نقبل بالمبدأ الجاهل والجاهلي (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما). هذه مسألة ضرورية لنا جميعاً، لن نكتسب مشروعية محاربة الفساد المجتمعي قبل إبعاد الفساد عن عالمنا، ولن نكتسب مشروعية محاربة سوء استعمال السلطات فوق رؤوسنا قبل أن نتجاوز سوء استعمال السلطة المضادة وبشكل خاص سوء استعمال السلطة في عالم حقوق الإنسان.

** أما النقطة الثالثة فهي نظرية وبنيوية

 وقد سبقنا ابن خلدون بالتطرق لها عندما تحدث عن ولع المغلوب في تقليد الغالب. ويسميها البعض “نحن ضعاف (كأبناء جنوب)وعلينا أن نتعامل بشكل ذرائعي وتابع مع الأقوياء في حركة حقوق الإنسان (المنظمات الغربية)” . حالة التبعية وهمّ الإرضاء والوهن أمام الغرب نظرة تذكرني بعقدة النقص عند الأحزاب الستالينية تجاه الرفيق الأكبر في موسكو أو بكين قبل عشرين عاماً. وفي عالم حقوق الإنسان تحمل إساءة لا حد لها لفكرة الإنسان نفسها. وقد أثبت بطلانها وجود كوادر جنوبية عالية المستوى أغنت حركة حقوق الإنسان على الصعيد العالمي وفرضت أسلوباً جديداً في التعامل قائم على الاحترام المتبادل وهزالة أداء جمعيات شمالية كبيرة. صحيح أنه في عالم قائم على غياب التكافؤ الاقتصادي والإعلامي والجيوسياسي بين الشمال والجنوب توجد عوامل نفسية وبشرية تفسر عدم انعتاق البعض في بلدان الشمال من عقدة التفوق الاستعمارية، إلا أن هذا لا يسمح لنا بحال أن نقبل بوجود شكل آخر للتبعية في أنبل تعبير عن المساواة.

** النقطة الرابعة التي تخيفني

هي دخول المنافسة بالمعنى السلبي للكلمة عالم حقوق الإنسان فالتنافس ليس جريمة في ذاته، خاصة في عالم يحتاج إلى أضعاف عدد المنظمات غير الحكومية في الكم والنوع،

أي بتعبير آخر عالم لم يستجب بعد للعلاقات التكاملية لتحقيق جزء من المهام التي يطرحها على نفسه. فكيف به والحال كذلك، يدخل في منافسة سلبية تحمل أمراض الشللية والعقلية التآمرية ورخصة الإساءة الخ؟!

أكتفي بهذا القدر، وأعود لأقول كلمة عن سياسة التحضير لهذا المؤتمر: لقد حرصنا ضمن الإمكانيات المادية والزمنية المحدودة على تعدد الكفاءات واختلافها، جمع الدم الجديد بالدم المخضرم، وإقامة حوار بين المثقف المناضل والمناضل الميداني، وسعينا أيضاً ضمن المتوفر، لدعوة من يمثل الاتجاهات الرئيسية في الحركة العربية لحقوق الإنسان، ولا شك بأن هناك طاقات هامة غائبة سواء لحرمانها من جواز السفر أو لعدم تمكننا مادياً من دعوتها لضيق الإمكانيات أو لعدم رغبتها الحضور، إن مكانها النضالي في القلب ومكانها الاعتباري فوق كل الشكليات، وسنسعى لإيصال باكورة أعمال المؤتمر لكل غائب.

لقد كانت نظرتنا ومازالت لهذا المؤتمر، كجزء من عملية تراكم طويلة الأمد بدأت قبلنا وستستمر بعدنا، وفي عملية التراكم هذه مهمتنا الاستفادة من كل حصاد ومن كل نضال ومن كل خبرة وتجربة كان لها الشرف في أن تدلي بدلوها في هذه المعمعة.

كلمة الدكتور هيثم مناع في الرباط في 3 ديسمبر 1999.