أبريل 26, 2024

العداء للسامية والحقوق الإنسانية

semitisemفي 16/10/2004، وقع الرئيس الأمريكي على قانون مراجعة معاداة السامية 2004 (Global Anti-Semitism Review Act of 2004) وبعد ذلك بيومين قدم الكاتب الفرنسي جان  كريستوف روفان Rufin تقريره حول العنصرية والعداء للسامية  لوزير الداخلية الفرنسي.

 إن كان بوسع أي مراقب القول بأن ما جرى هو محض صدفة، فمن المؤكد أن ثمة حالة استنفار وتعبئة تعيشها مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل من أجل إعادة رسم إستراتيجيات الحماية لدولة توسعية لم يعد بالإمكان الدفاع عن سياساتها العدوانية تجاه شعب فلسطين.

 وازداد ذلك الاستنفار منذ نجاح الولايات المتحدة وإسرائيل في 16 ديسمبر/ كانون الأول1991 في إلغاء القرار 3379 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10/11/1975 والذي يعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.

 معاداة السامية أم تغطية إسرائيل

لقد شهدت التسعينيات العديد من الندوات والتحركات التي وظفت مرحلة اتفاقيات أوسلو في إعادة تجميل صورة الدولة العبرية ومقاومة أشكال النقد والشجب المختلفة لسياستها.

 واكب ذلك نشأة اتجاه صهيوني يعتبر انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة انتصارا لإسرائيل، وهو بالتالي يفترض أن يتم توظيفه في كل المجالات، بما في ذلك توسيع مفهوم معاداة السامية ليشمل كل انتقاد لدولة إسرائيل.

 ويضاف إلى ذلك قراءة وتحليل كل ما يتعلق بالتاريخ اليهودي المعاصر وتحجيم دور كل مجموعة أو جالية أو دولة يمكن أن تشكل خطرا بعيد المدى على إسرائيل.

 لقد لعب نتانياهو وعدد من السياسيين الإسرائيليين دورا في ذلك، وتبع خطاهم أشباه المثقفين -أشباه الحقوقيين- الذين يتعاملون مع منظومة القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان من خلال نظرة إثنية وطائفية ضيقة.

 وإن كان للانتفاضة في انطلاقتها أن تضع أمام أنظار العالم هشاشة وتعارض الممارسات الإسرائيلية منذ أوسلو مع القانون الإنساني الدولي والحقوق الأولية للشعب الفلسطيني، فقد جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول لتبني كل صمامات الوقاية للتطرف الإسرائيلي من قبل الإدارة الأميركية.

 ففي الوقت الذي مورست فيه أبشع الجرائم بحق الفلسطينيين، أعطت الإدارة الأميركية الحماية السياسية الضرورية للدولة العبرية ضمن ما سمته الحرب على الإرهاب.

 إلا أن هذا الغطاء السياسي لإسرائيل جاء في خضم تشكل جبهات مقاومة جديدة لمناهضة السيطرة الأميركية، بعضها قدم من خلفيات يسارية ومن أنصار البيئة، وبعضها الآخر من حركات السلام والدفاع عن حقوق الإنسان، وقطاع واسع منها تحدر من التيارات الديمقراطية المختلفة التي وجدت في السياسة الأمنية الأميركية وإعلان حالة الطوارئ على الصعيد العالمي تهديدا مباشرا لكل المكتسبات الحقوقية والديمقراطية التي جنتها البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

 هذه الاتجاهات أصبحت أيضا مع التعنت الإسرائيلي قوة دعم معنوية كبيرة للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، فلم يعد من الغريب الحديث عن إسرائيل كدولة عنصرية معتدية ومحتلة بل واعتبارها المصدر الأول للخطر على البشرية اليوم عند شرائح واسعة من الرأي العام الأوروبي.

 لقد تركزت سياسة اللوبي الموالي لإسرائيل على إعادة تعريف العداء للسامية ليشمل العداء للصهيونية.

 وقد سنت معظم الدول الأوربية قوانين للحماية من معاداة السامية في الكتابة والصحافة والإعلام السمعي والبصري والتجمعات السلمية الخ.

 وهكذا فإن نجاح مجموعات الضغط الصهيونية يعني حماية دولة إسرائيل من نشطاء حقوق الإنسان والخضر والحمر وكل من تسّول له نفسه التعرض للانتهاكات الجسيمة والمنهجية التي ترتكبها السلطات الإسرائيلية.

 في هذا الإطار تقف الحركة العالمية لحقوق الإنسان اليوم أمام تحد جديد، تحد من نوع خاص توضع فيه مصداقيتها على المحك.

 فمن جهة، تستنكر هذه الحركة بكل أطرافها وتياراتها أي عمل مناهض للسامية، وترفض بنفس الوقت أن تعتبر المعضلة المركزية في العنصرية مشكلة العداء للسامية.

 إننا لسنا اليوم أمام حملة إبادة نازية أو أمام الجماعة المستهدفة الأولى والأهم في أوروبا والولايات المتحدة والعالم الإسلامي، ومن غير المعقول مطالبة المدافعين عن حقوق الإنسان بتصنيف دولة فوق الدول وفوق القانون، وتنصيب شعب في مرتبة أعلى من غيره.

 فالحوادث العنصرية الأساسية التي جرت في الولايات المتحدة الأميركية منذ 11 سبتمبر طالت الجالية المسلمة والسود وذوي الأصول الأميركية اللاتينية، ومع ذلك لم تحرك وزارة العدل أو الرئاسة الأميركية ساكنا لمناهضة العنصرية بشكلها الجديد في الولايات المتحدة.

 إن تصريحات بعض المسؤولين السياسيين المسلمين أو الشخصيات الدينية ليست بعنف كتاب “القضية اليهودية” لكارل ماركس، الذي لم يطالب أحد بعد بمنعه من الأسواق.

 ومن المثير للاشمئزاز، تفرغ بعض المهوسيين، من أشباه الباحثين لعقد المقارنة بين القرآن الكريم وكتاب “كفاحي” لأدولف هتلر؟

إنتاج أم مقاومة العداء للسامية

لا يمكن معالجة الظواهر المجتمعية والثقافية بمجرد مراقبة أعراضها، ومن الصعب كذلك في القضايا ذات البعد الأخلاقي والحقوقي اتباع وسائل ردعية وقمعية.

 فإذا كانت معاداة السامية (كمأساة عاشها اليهود في أوروبا عبر جرائم لاإنسانية ارتكبت بحقهم من الغيتو إلى المحرقة النازية) قد دخلت الوعي الجماعي الغربي بوصفها أهم التعبيرات العنصرية في قاموس المدافعين عن الكرامة الإنسانية، فهي لم تكن كذلك في الثقافتين العربية والإسلامية، وإلى حد كبير الهندية والصينية.

 بالتالي، لا يمكن الحديث عن مجازر جماعية أو ممارسات عنصرية بحق اليهودي في جنوب شرقي أسيا، وما كان اليهودي في فلسطين الطرف الأضعف في الستين عاما الأخيرة.

 وفي حين يملك الإسرائيليون أحدث أسلحة الدمار التي عرفتها البشرية، لا يملك الفلسطيني سوى جسده ورمزية صواريخ القسام التي تذكرنا بأسلحة الهندي الأحمر.

 إن في اعتبار معاداة السامية ظاهرة عالمية، تجن على التاريخ والحاضر، كما أن مساواة الضحية التي تعرضت لشكل ما من أشكال الأذى النفسي أو الجسدي لمجرد كونها تنتمي للدين اليهودي، بالجلاد الذي يمارس جرائم الحرب ضد الفلسطينيين، هو استغباء للعقل وتدنيس منظم للوعي.

 هذا الأسلوب، الذي يحاول توسيع جبهة المعادين للسامية لتشمل من يناهض السياسة العدوانية للحكومة الإسرائيلية، يفقد الكلمة براءتها الأخلاقية وعمقها التاريخي ومخاطرها المعاصرة.

يتم ذلك بتوظيف للألم التاريخي والخطر الذي لم يختف بعد، في خدمة جرائم يومية ترتكب بحق شعب بلا دولة وبلا حقوق.

 لقد حرصت الحركة الصهيونية على تأصيل فكرة التفرد لكل ما هو يهودي، تفرد الغيتو وتفرد العداء للسامية وتفرد المحرقة وتفرد الوضع التاريخي لدولة إسرائيل.

 لكنها بهذا الحرص على التمييز خلقت مشاعر كارهة لهذا الغياب الصارخ لفكرة المساواة في الألم، والمساواة في المعاناة والمساواة في أسلوب التقييم والتناول.

 فالجريمة هي الجريمة والعنصرية هي العنصرية والقتل هو القتل والعزل العنصري هو العزل العنصري، أما الاستثناء فهو الذي يخصب براعم العنصرية في المجتمع.

 وعندما يأتي المثقف الموالي لإسرائيل بفكرة مفادها أن التعرض للدولة العبرية يمهد التربة لمعاداة السامية، فهو ينتقل من الحقل الثقافي النقدي لحقل الإرهاب الفكري لعالم بأكمله، عالم حقوق الإنسان الذي اعتبر نفسه، حقا أو باطلا، فوق الحدود والثقافات والدول، كما اعتبر مهمته شجب الانتهاكات التي يتعرض لها الأشخاص والشعوب دون تمييز، ودون معايير مزدوجة، ودون أبناء ست وأبناء جارية.

 هنا يتحول المدافع عن القضية اليهودية إلى منتج لمعاداة السامية باعتبارها رد فعل على هذا التسلط الفكري والسياسي، ومن المضحك أن يحاول المثقف نفسه الاختباء وراء جلباب مصطلحات علمية يمرر بها المبدأ العصبي القائل: انصر إسرائيل ظالمة أو مظلومة.

 لكن من المؤسف أن تجد حكومات دول غربية نفسها مضطرة إلى أن ترضخ للضغوط، معتبرة هذه الأطروحات أساسا للتعامل مع ظاهرة العداء للسامية.

 المعاداة الجديدة للسامية
ربما كان حزب الليكود أول من استعمل مصطلح معاداة السامية الجديدة (New Anti-Semitism) لكن لم يلبث هذا المصطلح أن أصبح موضوعا لندوات وحلقات فكرية وحقوقية، وقد تلقفته الـLICRA (رابطة مناهضة العنصرية ومعاداة السامية في فرنسا) و ADL (رابطة مناهضة التثليم الأميركية), والمراكز المتخصصة في معاداة السامية في الغرب، بحيث شمل معاداة الصهيونية باعتبارها شكلاً من أشكال العداء للسامية.

 لقد باشرت عدة مراكز ما يمكن تسميته إصدار تقارير سنوية عن مظاهر معاداة السامية في العالم تساوى في هذه الإصدارات بين الاعتداء على مقبرة يهودية، والهجوم على عالم اجتماع، والتشهير بمسؤول سياسي رفض استقبال مسؤول إسرائيلي.

 ولعل الكاريكاتير الأشبه بالمهزلة هو ما تقوم به MEMRI من برنامج مراقبة العداء للسامية في العالم العربي و Dhimmi Watch وغير ذلك بإشراف كولونيل سابق في الجيش الإسرائيلي تساعده زوجة وولفوفيتز.

تحاول هذه المراكز تقديم صورة سوداء عن علاقة العالمين العربي والإسلامي باليهودية، ونادرا ما تشير إلى مقالة معمقة أو جهد أكاديمي، باحثة في الصحف الصفراء والتصريحات العرجاء عن كل ما يخلق فجوة لأي تواصل مع العربي والمسلم.

 ولا يمكن القول إن تقارير بعض أعضاء الكونغرس أو مداخلاتهم أكثر دقة وجدية، فهي غالبا ما تكون مستقاة من مصدر للمعلومات كهذه المصادر المذكورة هنا.

 كانت وحدها المؤسسات الصهيونية تتبنى علنا هذا المصطلح، وجرت مواجهات عديدة بين المثقفين الأوربيين وجماعات الضغط الموالية لإسرائيل، لكن بالإمكان القول إن تقرير جان كريستوف روفان هو أول تقرير من رئيس لجمعية غير حكومية عرف بتاريخه المؤيد لبعض قضايا الجنوب قبل أن يعيش انقلابا ذاتيا يعبر عنه في هذا التقرير، يتبنى أطروحات حزب الليكود.

 بالنسبة للكاتب، هناك ثلاثة أشكال اليوم لمعاداة السامية:

الأول غريزي Pulsion:هذا الشكل يراه عند “صناع العنف”، المصنفين من اليمين المتطرف أو من الشبيبة المنحدرة من المهاجرين الذين يفتقدون للجذور ونقاط الارتكاز ويعانون من الفشل الاجتماعي وضبابية الهوية، هؤلاء  سيجدون في معاداة السامية برأي الكاتب غذاء للروح، في اعتراف ضمني بأن المجتمع المضيف قد حرمهم من أية وسيلة للتعبير عن الذات.

 وها هو يعود ليصنفهم في عداد منتجي عنصرية هم أنفسهم ضحاياها بكل المعاني؟ هنا، نحن أمام توظيف تبسيطي لمصطلح Pulsionالفرويدي يخرجه عن معناه ومبناه.

 الثاني كإستراتيجية Stratégie بحيث نجد أنفسنا أمام جماعات منظمة لاحتواء وتوظيف الناس من اليمين المتطرف والجماعات الإرهابية. وهنا نحن أمام حالات سوسيولوجية كلاسيكية.

 الثالث بالوكالة Par procuration وهنا ندخل في صلب التعريف الصهيوني للعداء للسامية، فهو يتحدث عن الذين يسهلون، بوجهة نظرهم أو بصمتهم، القيام بأعمال معادية للسامية.

هذه المعاداة الجديدة للسامية، كما يقول، نشأت في أوساط النضال المناهض للاستعمار والعولمة والمدافع عن العالم الثالث والبيئة ومن اليسار الثوري والخضر، وكل من يجتمع حول ما يسميه رئيس جمعية (العمل ضد الجوع المعاداة الراديكالية للصهيونية.

 هذا باختصار ملخص أطروحة جان كريستوف روفان التي يخلط فيها مفاهيم فرويد بأطروحات الاستقصاء اليمينية المتطرفة. إنه يضع الجماعات المستهدفة عنصريا في المجتمع الفرنسي في حالة صراع غريزي فيما بينها، كما يصفي حساباته الشخصية مع وسط نشط فيه لسنوات طويلة على حساب قضية من أكثر الموضوعات حساسية في فرنسا.

 مناقشة العداء للسامية تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى للأمانة الفكرية والنزاهة الأخلاقية، ومناهضة العنصرية بكل أشكالها بما في ذلك معاداة السامية ورهاب الإسلام والتمييز العنصري.

 وهي أمور لا يمكن أن تحدث إلا ضمن منظومة أخلاقية وحقوقية ذات مصداقية عند الشخص المتلقي إذ لا يمكن استخدام أسلحة مشبوهة للدفاع عن قضايا نبيلة.

 فمن الصعب إقناع إنسان بسيط بأن الفضيلة يمكن أن تأتي من مجرم حرب، وأن أنصار هذا المجرم يمكن أن يكونوا على رأس مرصد عالمي لمناهضة العنصرية.

 لقد نشأ مصطلح “معاداة السامية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ليعبر عن إيديولوجية عنصرية نابذة للآخر المختلف والمقموع. أما إعادة تعريفها اليوم بشكل يغطي ممارسات القامع الإسرائيلي فهو أمر يخلط الحابل بالنابل، ويفقد الضحايا الفعليين لمعاداة السامية التخوم الضرورية للحؤول دون توظيف قضية عادلة في خدمة الآلة الجهنمية للعدوان.

18/7/2005