هل يمكن لمجتمع يدعي احترامه للكرامة الإنسانية أن يغلق العين عن حقوق الطفل؟
إن كانت الحكومات العربية تتقن خطاب الدفاع عن الطفولة وحمايتها، فإن واقع الطفولة في العالم العربي في غاية القسوة ومن الصعب تجميله بالخطابات. فكيف يمكن الحديث عن حق الحياة ونسبة وفيات الأطفال العرب أعلى منها في بنجلاديش؟ كيف يمكن الحديث عن التربية وهناك أكثر من 10 ملايين ( 15 مليونا وفق بعض المصادر ) طفل عربي محرومين من التعليم؟ هل بالإمكان نسيان سوء التغذية في البلدان العربية وأن هناك حوالي 20 مليون طفل معاق لا يلقى سوى 25% منهم العناية؟ هل بالإمكان عدمالتأثير بالتفاوت الهائل بين الطفل العربي في بلدان الذهب الأسود وأخيه في مدن الصفيح العربية وكيف يمكن أن نبصر حقوق الأطفال دون التطرق لغياب فرص التغذية والعلاج والتعليم وجرائم البالغين من تسلط عائلي واجتماعي والتمييز بين الجنسين والعقوبات الاقتصادية التي تصفع أولاً الطفولة ونادراً ما أثرت على الحكام؟
لا نهرب بهذه المحاولة من المعاش الثقافي وإنما نحرص على تعزيز الرأسمالي الثقافي التنويري للأشخاص باعتباره أحد الأسلحة الأساسية للخروج من هذا المستنقع لقناعتنا بأن الحل لا يهطل من السماء ولا ينزل من قصر الحاكم بقدر ما يعني كل فرد في المجتمع وبهذا المعنى يشكل اتقاء الوعي الجماعي واحداً من سبل الدفاع عن حقوق الطفل.
** مقدمات منهجية
تذكر الأفكار التنويرية بعلاقة الجمال باللاوعي الإنساني لا يتذوقها إلا العاشق الراغب والقادر على الإحساس بنوع من اللذة في التعاطي معها لذا لا يمكن لهذه الأفكار أن تأخذ مكانها بالعسف أو أن تنتشر بالعنف كما أنه لا يسمع سجين الأحكام المسبقة أن يستنشق رحيق الحرية في أحشاء التقدم إن لم ينجح في إعادة ترتيب الخزان الثقافي الذي أوجد هذه الأحكام ورسخها من هنا كانت قناعتي منذ أكثر من عشرين عاماً بضرورة اكتشاف الذات وخيراتها وسمومها كمعبر لا بد منه لإنعتاق الذات إلا أن محاولة الاكتشاف محفوفة بالمخاطر ومحاطة بأسياج أشكال أخرى للتعامل مع التاريخ والثقافة المحلية أولى هذه المخاطر الإحساس بتفوق الماضي على الحاضر وثانيها صمت المثقف الانتهازي عن هذا الإحساس باسم الدفاع عن الهوية والثالث هو رد الفعل المعاكس على هذه المقاربة بنظرة عدمية تطالب بإلقاء الجعبة وما فيها إلى مستنقع التاريخ الواجب طمره.
بعيداً عن هذه المقاربات يحاول القلم أن يسطر رباعية هامة لربط الخاص بالعام بالعالمي والتاريخ بالحاضر والمستقبل هذه الرباعيةمكونة من:
1- حقوق الإنسان في الثقافة العربية الإسلامية.
2- حقوق الطفل في الثقافة العربية الإسلامية.
3- المواطنة في التاريخ العربي الإسلامي.
4- الحريات في فكر النهضة (1. (
وهي ليست عملاً موسوعياً بقدر ما تبتغي فتح النوافذ نحو آفاق جديدة وليست أيضاً محاولة لفهم عصري للدين أو قراءة حقوق إنسانية للتراث فأنا لست بحال من الأحوال من أنصار إثبات أية قضية من القضايا بإثبات ورود نص بصددها سواء كان ذلك عند النبي محمد أو العم ماركس وليس لدي هاجس إثبات أي شيء سوى أن التاريخ العربي كغيره عملية غير رومانسية ومحصلة صراعات فكرية ومجتمعية أعطت الغث والثمين والصالح والطالح وهي درس ضروري وتراكم معرفي لا غنى عنه بل وجزء من معاركنا الراهنة وأن المستقبل يحتاج إلى تجاوز الماضي بالمعنى الذي يطرح الفكر النقدي العالمي فيه تجاوز الفلسفة أي عد الإلغاء بشطب قلم، “الثقافة العربية الإسلامية” مصطلح يشمل في هذه الرباعية العطاء الثقافي المعرفي والديني والشعبي ولذا يتعايش في استعراض التاريخ وتاريخ الأفكار الصعاليك والحنيفيون، غيلان الدمشقي والمرجئة ابن الراوندي الملحد والحجاج المتصوف وأبو بكر الرازي الفيلسوف وأبو نواسالماجن أبو حنيفة الفقيه الرسمي وآراء الخوارج فنقطة الانطلاق المنهجية هي:
-1 قناعتي الحقيقية بأن حقوق الإنسان عالمية بكل معنى الكلمة كما هو حال مفهوم التقدم الذي نشأ في الشرق وليس ثمة باحث جدي واحد قادر على القول بأنه مشرقي. فإن كانت نشأة مصطلح “حقوق الإنسان” غربية فهي لم تعد مثلها مثل الكمبيوتر حصراً على من اخترعها وليس السؤال برأي عن عدد العرب الذي شهدوا إعداد أو توقيع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإنما في الرد على سؤال ساذج وبسيط: هل تلبي هذه الحقوق حاجات وضرورات فعلية عن شعوبنا أم أن مجتمعاتنا بحاجة أمس إلى إتقان فنون قطع اليد والرجل والرقبة احتراماً لتقليد قانوني قديم؟
– 2منذ 1980 حين بدأت كتاباتي النقدية الأولى للتراث كنت أتلمس الصراعات الكبرى في هذا التراث بين
أنصار العقل وأنصار النقل بين المعرفة الحكمية والمعرفة السلفية بين أنصار السائد والبائد ورواد التجديد فكلما اكتشفنا ثقافة شعب اكتشفنا معها خلفيات نظرته إلى المفاهيم الإنسانية الكبرى كالمساواة والحرية والتسامح وأحسسنا أكثر بأهمية تتبع شجرة الحريات والحقوق في الثقافات الإنسانية كافة باعتبارها قد ساهمت في التكوين الثقافي لفرنسيس بيكون وجان جاك رسو أو باعتبارها إن لم تفعل ذلك مباشرة قادرة على إغناء وتطوير ما قدماه ففي الحقوق كما هو الحال في العلوم التراكم هو الشرط الضروري لإنتاج المعارف وإن لم يستطع الخوارزمي اختراع الكمبيوتر فقد كان لعلوم الجبر باعها غير المباشر في هذا الاختراع.
– 3 إن من أهم مشكلاتنا الثقافية المعاصرة ليس اكتشاف الأبعاد المختلفة للتاريخ وإنما في جعل الماضي سيد الحاضر والقراءة السردية والتلقينية والإجتزائية لهذا الماضي في غياب للنظرة النقدية والاستلهامية والاستنباطية من هنا إصرارنا على إعادة الاعتبار لمقومات النهضة المشرقة: الإبداع والعقل كخصمين غير مساومين للإتباع والنقل إنسانية النحن مناهضة شطب الأنا في النحن اجتماعية كانت أم عقيدية والتأكيد على أول درس لعصر الأنوار الغربي: “التعامل مع التاريخ بوصفه حدثاً لا باعتباره الحكم” (2).
إذن لا تسعى هذه المحاولة ولا تعتبر من مهماتها البحث عن السند والمرجع لهذه المادة أو تلك من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو من صحيح البخاري إنه يطمح لدخول غابة معرفية أسهم رحيقها في تكوين العسل الثقافي للإنسانية فبرأي أن القطيعة السلبية مع التاريخ هي رد فعل على تقديسه يسمح لأنصار التقديس باحتكار الحديث عن مقوم أساسي من مقومات الشخصية الإنسانية: هو المقوم الحضاري والعمق الحضاري أي اللحظات العملاقة في ثقافات وخبرات الشعوب ودورها في التفاعل ما بين الحضاري تمييزاً عن الهوية التي يدخل فيها الحفاظ على ختان المرأة واستبداد بني عثمان والعشائرية باعتبارهم من مقومات الخصوصية.
. من المجتمع العربي قبل الإسلامي
لاحظ البشر ومنذ آلاف السنين وفق المعطيات التي نعرفها حاجة الطفل إلى الطمأنينة والحماية والحب واللعب ولكن العديد من المجتمعات القديمة وضعت فوق أو عبر هذه الملاحظات ما يحطم فحواها نفسه فالخوف مثلاً على استبعاد الطفل من قبل خصم أو اغتصاب طفلة من عدو قتال أدى ببعض القبائل إلى التضحية بأبنائها للآلهة أو وأد البنات حفاظاً على كرامة الجماعة ونجد عند الجماعات المحاربة تقاليد مرتبطة بإلحاق العار بالخصم عبر أبنائه ونسائه، ورغم أن الشحنة الغريزية عند الأهل كانت دائماً تعبر عن محبة تصل إلى الإفراط بالتملك والحماية حتى المبالغة فقد عرف البشر أيديولوجيات قبلية وعقيدية تربط الطفولة بالجماعة ومصالحها واعتقاداتها أكثر منه بهذه الرغبة الغريزية.
لقد وصلتنا نصوصاً عديدة عن مكانة الطفل في الثقافات الشرقية قبل الإسلامية في مصر والرافدين وسورية ولبنان وفلسطين إلا أن هذه الصفحات ستنحصر في الحقبة التي سبقت الإسلام مباشرة وإلى عصر الازدهار العربي الإسلامي باعتبار هذه القرون الأربعة ما زالت تجد امتدادها في العقول والعادات بل والقوانين حتى اليوم في أكثر من عشرين بلداً إسلامياً.
إن تعريف الطفل في أي ثقافة يرتبط بعناصر ما لهذا الطفل وما عليه سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر وقد ارتبط تعريف الطفل في اللغة العربية بالبنان الرخص الناعم والصغير من كل شئ كما في لسان العرب و المحكم(3) ويعطي اللغوي أبو الهيثم تعريفاً محدداً يقول: “الصبي يدعى طفلاً حين يسقط من بطن أمه إلى أن يحتلم”(4.(
وقد طرحت مسألة كفالة الطفل حتى اشتداد عوده وأعطيت للأم ولو طلقت إلا إذا تزوجت أو توفيت (حيث تقوم أمها أو أختها بحضانةالطفل) ولا يحق لها الاحتفاظ بالابن بعد ذلك إن كانت غريبة كون العرف يقضي في الأوضاع العادية بترعرعه في كنف أبيه (أو من يقوم مقام أبيه من عصبته في حال الوفاة: ابنه، أبوه، أخوه) إلى حين مشاركته الكاملة في كل النشاطات والتبعات والحقوق داخل القبيلة والعصبة(5) وقد عرف العرب قبل الإسلام بيوت الأيتام لكل من فقد أو توفي أبوه أو قتل في حرب يشرف على تربيتهم الرؤساء والسادة وينفقون عليهم من صندوق تضامني كبير يجمع من سادة القوم وتبرعات القبائل وغنائم الحرب مثل أيتام غطفان.
ويظهر اهتمام العرب بالطفولة كما ينوه الدكتور عادل جاسم البياتي، “أنهم إذا ما تصالحوا بعد حرب وتحالفوا بعد حرب وتحالفوا تبادلوا تربية أطفالهم ليكونوا رمزاً للود ورهائن ضد كل من تسول له نفسه التنكيل بالصلح والحلف وهو دليل يشير بوضوح إلى عمق ما يكنونه من الاعتزاز بهم بحيث أنهم لم يتحالفوا على مال ولا غيره من متاع الحياة، لأنهم قد يغدرون به إلا الطفولة فهي الوثائق الأمتن الذي يربطهم إلى حلفهم ويبعدهم عن الغدر لذلك كانوا إذا غدر أحدهم برهائنه من الصبية الصغار عاقبوه عقاباً صارماً وهو الموت(6) وقد كان عرب “دومة الجندل” يقدمون ضحية طفل ينحر كل عام لكوكب الزهرة الذي يرمز له بتماثل طفل عاري الجسد وكانت فكرة الغداء بحيوان من أولى علامات التخلص من هذا الاعتقاد وثمة قصص عديدة تشبه قصة النبي إبراهيم وفداء ابنة إسماعيل آخرها ما ينسب للحطيئة وفداء ابنة ببقرة وحشية ونجد في الشعر تعبيرات رائعة لعشق الطفولة كقول حطان بن المعلى:
وإنـــمــا أولادنــــا بيننـــا أكبـــادنـــا تمشي على الأرض
لوهبت الريح على بعضهم لا متنعت عيني من الغمــض
أو مفخرة عمرو بن كلثوم:
إذا بلغ الفطـــام لنـــــا صبي تخر له الجبـــابر ساجدينــــــــــا
وقد كان للطفلة مكانها كالطفل عند العديد من القبائل كذلك نجد أدباً شعرياً غنياً يتناول العلاقة الحميمة بين الأب وابنته ولعل في ديوان مالك بن الريب خير تعبير لهذه العاطفة الفياضة حيث عندما خرج مالك أمسكته ابنته وقالت: أخشى أن يطول سفرك أو يحول الموت بيننا فلا نلتقي فبكى وأنشأ يقول:
ولقد قلت لابنتي وهي تبكي بدخيل الهمـــوم قلبـــاً كئيبــــاً
وهي تذري من الدموع على الخدين من لوعة الفراق غروباً
عبرات يكدن يجرحن ما جزن به أو يدعــن فيــــه نـــدوبـــاً
حذر الحــتف أن يصيب أباها ويلاقي في غير أهل شعوبـــاً
فعسى الله أن يدافع عني ريب ما تحذرين حتى أؤوبا(7)
وكان العرب يرقصون بناتهم كما كانوا يرقصون الذكور ويذكر عن الزبير بن عبد المطلب أنه كان يرقص ابنته ويقول: إن ابنتي لحرة ذات حسب لا تمنع النار ولا فضل الحطب ومن القبائل والقرى من استعمل الكناية باسم الفتاة والفتى كيثرب حيث يكنى الأبوان باسم البكر على اختلاف الجنس.
** الإسلام الأول
نهى القرآن عن قتل الأطفال لأي سبب كان وجاء في سورة الإسراء “ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيراً” (آية 17) وقد انتقد القرآن الوأد عند بعض القبائل طارحاً التساؤل “وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت” (التكوير 81) وقد جاء أكثر من حديث الإصرار على العدل بين الأبناء والبنات وكبير الأطفال وصغيرهم: “اعدلوا بين أبنائكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف (الطبري الكبير) وروى أنس أن رجلاً كان عند النبي فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخذه وجاءت ابنة له فأجلسها بين يديه فقال الرسول: الا سويت بينهما؟ (8) وقد عزز القرآن فكرة مساواة الأطفال بغض النظر عن الجنس أو العمر فجاء في القرآن “وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ألا ساء ما يحكمون” (النحل 16) و”يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور” (الشورى 42) ويمثل هذا ربطاً للجنس بالإرادة الإلهية، وقد خلق هذا الترتيب تفاؤلاً عند بعض المسلمين بولادة الأنثى قبل الذكر من البركة واليمن لأن القرآن بدأ بهن.
وكما كان الزبير يرقص بالنبي محمد الطفل ويغني معه صغيراً كان النبي يلاعب الأطفال كما جاء في حديث جابر بن سمرة: “إن النبي رأى صبية يتسابقون فجرى معهم وكان يلقى الصبي في الطريق فيركبه ناقته ولا يزال يداعبه حتى يدخل السرور على قلبه” (9) ويورد الدكتور الشطي الحديث “من كان له صبي فليتصاب له شارحاً: “أي تصاغر له بلطف ولين في القول والفعل ليفرحه والصبي الطفل والولد ذكر أم أنثى” (10) وقد دخل على عمر بن الخطاب أحد ولاته فوجد عمر مستلقياً على ظهره وصبيانه يلعبون حوله فأنكر عليه سكوته على لعب الأطفال حوله، فسأله عمر: كيف أنت مع أهلك؟
فأجاب الوالي: إذا دخلت سكت الناطق.
قال عمر: اعتزل عملنا، فإنك لا ترفق بأهلك وولدك، فكيف ترفق بأمة محمد؟(11)
إن أول ملاحظة عن الأحاديث التي تعبر عن روح العصر والقرآن أنها تؤكد على بشرية العلاقة بين الطفل والبالغ وتضع حداً لكل ظلم يمكن أن يقع على الطفل باسم المقدس أو غيره “قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم” (الأنعام 6) فالأطفال باعتبار القرآن زينة الحياة الدنيا.
في حين تجد خلافاً كبيراً في الأحاديث حول أسلوب تربية الأطفال فمن جهة ثمة أحاديث ترسم أسلوب التربية خطوة خطوة ومرحلة مرحلة، ملزمة الطفل بالعبادات قبل البلوغ والاتباع قبل المحاكمة والإجبار لا الاختيار فيما يعبر عن الأيديولوجية التوتاليتارية التي تشكلت مع الأيام وبلغت مجدها في عصور الانحطاط وأحاديث تعطي الطفل هامشاً من الاستقلالية والحرية.
بل ثمة أقوال جد متقدمة حول تعليم الطفل والعلاقة معه كمأثورة علي بن أبي طالب: “لاتعلموا أبناءكم على عاداتكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم” في تأكيد على أهمية الزمان في التربية، أو ما يروى عن معاوية بن أبي سفيان عندما غضب على ابنة يزيد وسأل الأحنف بن قيس فأجابه: “هم ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة فإن طلبوا فأعطهم وإن غضبوا فأرضهم فإنهم يمنحونك ودهم ويحبونك جدهم ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملوا حياتك ويتمنوا وفاتك”.
** ألم الأطفال والعدل الإلهي
يقودنا تتبع وضعية الطفل في المجتمع للتعرف على الفوارق الثقافية والاجتماعية بين الجماعات البشرية، ولعل من أهم النقاشات والصراعات التي عاشها المجتمع العربي الإسلامي، قضيتا تعذيب الطفل والعدل الإلهي من جهة، وحرية الطفل ومفهوم المسئولية من جهة ثانية ونلاحظ عن تتبعنا للصراعات الفكرية الحيز إلهام الذي احتلته قضية ألم الأطفال والحكمة منه عند الفرق والاتجاهات الإسلامية وقد برزت منذ القرن الثاني للهجرة آراء متعددة للإجابة على سؤال هام: إذا كان الطفل غير مسئول، فما الحكمة من أن يتألم؟ وقد أجابت الاتجاهات الأرثوذكسية بأن الله قادر على تعذيب الأطفال، ولو فعل ذلك كان عدلاً منه وذلك بالاعتماد على الآية “ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير” (الحديد 22) في حين رفض العقلانيون من المعتزلة هذا المبدأ وقال النظام بأن الله لا يستطيع أن يفعل الشر بالأساس ولا يقدر أن يظلم أحداً مضيفاً “إن الله لا يقدر أن يعمي بصيراً أو يزمن صحيحاً إذا علم أن البصر والصحة أصلح لهم” (13) في حين يقول العلاف بأن الله قادر على فعل الخير والشر ولكنه لا يفعل الشر ولا يريده لقبحه” ورأى بشر المعتمر: “إن الله لم يخلق لا القوة ولا الضعف، لا الموت ولا الحياة لا المرض ولا الصحة لا العافية ولا السقم، وكل ذلك هو فعل الأجسام التي وجد فيها هذه الأغراض” (14) وقد رد ابن حزم على بشر بالقول “اعلموا أن هذا الفاسق قد أخرج نصف العالم عن خلق الله” ويلخص عبد الله بن عيسى رأي العديد من الخوارج في ألم الأطفال: “إن المجانين والبهائم والأطفال ما لم يبلغوا فإنهم لا يألمون البتة لشئ مما ينزل بهم من العلل فإن الله لا يظلم أحداً” (15) وقد اعتمد من أصحاب هذه الآراء على الآية” ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله” (آل عمران 3) وبالطبع كان الاتجاه العقلاني الإلحادي في المعمعة حيث خصص ابن الراوندي كتاب التعديل والتجوير للحديث عن المرض والألم والفقر الواقع بحق غيرالمسئولين وأهل الخير من البالغين، ويقول الخياط بأنه يقول “من أمرض عبيده وأسقمهم فليس بحكيم فيما فعل بهم ولا ناظر لهم ولا رحيم بهم، كذلك من أفقرهم وابتلاهم” انقسمت الرافضة بين قائل بأن الطفل يتألم بفعل الله مباشرة، يتألم بفعل الله عبر وساطة مادة، يتألم بفعل الله حيناً وبفعل غيره حيناً آخر وهو رأي الإمامية.
وكما رأينا تعددت مواقف المعتزلة ويمكن إيجازها بالتالي:
– الطفل يتألم، الله هو فاعل الألم، ولا يعوض الله عن الألم ولكنه لا يعذب الأطفال في الآخرة.
– الطفل يتألم، الله هو فاعل الألم، السبب عبرة للبالغين، ويعوض الله الطفل عن الألم حتى لا يكون ظالماً.
– الطفل يتألم، الله هو فاعل الألم، بدون ألم يمكن أن يكون أحسن، ولكن الله غير مجبر على فعل الأحسن.
– آلام الأطفال هي فعل الطبيعة لا فعل الله.
– يجوز وقوع الضرر والألم بالأطفال من الله لأنه مجازي وليس فعلياً وهو رأي وأصل بن عطاء وقاسم الدمشقي.
في حين توزع الخوارج بين موقفين متعارضين تماما:
– حكم الطفل كحكم أبويه، وما يصيب الطفل يعود إلى أهله وهو عبرة للبالغين.
– لا ولاية على الطفل، ولا علاقة للطفل بأبويه، إن الطفل لا يتألم لأن الله غير ظالم وإن تألم عوضه الله عن ذلك.
وقد قالت السنة والشيعة الإثنى عشرية والأشاعرة بأن أمر الأطفال إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد، وإذا سبب الله الألم والمرض للطفل فهو عدل منه ولحكمة عنده، يقول الأشعري: “لا يخلو العبد من نعمة وبلية والبلايا منها ما يجب الصبر عليها كالمصائب من الأمراض والأسقام وفي الأموال والأولاد وما أشبه ذلك ومنها ما لا يجب الصبر عليه كالكفر وسائر المعاصي” (16) و يضيف في مكان آخر: “إن قال قائل هل لله أن يؤلم الأطفال في الآخرة قيل له: لله تعالى ذلك وهو عادل إن فعله” (17) وإن كان ظاهر الموقف الرسمي هذا ينسجم مع فكرة الإله كلي القدرة إلا أن هذه الموضوعة هي الإرادة النافذة” (18) ومن جهتهم جرد الأطباء المعرفيون سببية ألم الأطفال من أي بعد يتجاوز “بطلان أفعال الأعضاء أو نقصانها أو الوجع فيها أو اضطراب المزاج” (19) ويظهر الحرص على ربط مفهوم العدالة بالطفولة عند مختلف الاتجاهات كل من موقعه مدى التأكيد على مبدأ حماية الطفل في الثقافات المشرقية، هذه الحماية التي تتجاوز حدودها عند السلفيين بالجنوح إلى التملك والإكراه على إعادة إنتاج صورة الأهل، تتجلى في اتفاقالمعرفة الحكمية والمعرفة الدينية على المادة السادسة من اتفاقية حقوق الطفل المعاصرة أردنا القول الحق الأصيل لكل طفل في الحياة فبخلاف موقف الفلسفة والطب اليونانيين بشأن حق الحياة للمعتوه نفسياً أو جسدياً لم يقبل أحد من رموز المعرفتين العلمانية (من فلاسفة وأطباء وأدباء) والدينية (والمقصود المسيحية واليهودية والإسلام) بأي استثناء يسمح بالتصرف بحق الحياة للأطفال فيما وصلنا من مواقف في حقبة الازدهار العربي الإسلامي.
** المسئولية والحرية
تشكل مسألة المسئولية، مسئولية الطفل والمسئولية تجاه الطفل أحد أركان الخلاف ما بين الإسلامي حول الطفل وضعه القانوني والموقف الاعتقادي منه فعليها يعتمد ما يعرف بالوراثة الدينية (ابن المسلم مسلم) من جهة ووضعية الطفل القانونية من جهة أخرى، وبعكس الفكرة السائدة حول بديهية انتماء الطفل نقرأ حتى في الكتابات المحافظة كما في شرح التوضيح للتنقيح مثلاً: “إنما جعل الصغر من العوارض مع أنه حالة أصلية للإنسان في مبدأ الفطرة لأن الصغر ليس لازماً لماهية الإنسان إذا ماهية الإنسان لا تقضي الصغر، فنعني بالعوارض على الأهلية هذا المعنى أي حالة لا تكون لازمة للإنسان وتكون منافية للأهلية ولأن الله تعالى خلق الإنسان لحمل أعباء التكاليف ولمعرفة الله فالأصل أن يخلقه على صفة تكون وسيلته إلى حصول ما قصده من خلقه وهو أن يكون مبدأ الفطرة وآخر العقل تام المقدرة كامل القوى والصغر حالة منافية لهذه الأمور فتكون من العوارض فقبل أن يعقل كالمجنون” (20) ولا نجد غرابة في آراء العديد من الفرق الإسلامية التي تعطي حرية الاختيار الاعتقادي للطفل وفي القرآن آية تقول “لا إكراه في الدين”؟
ولعل العجاردة من الخوارج أشهر أولى هذه الفرق وأكثرها وضوحاً حيث اتفق على قولهم “أن كل طفل بلغ فإنه يدعى إلى أن يقر بدين الإسلام وقبل أن يبلغ عنه ولا حكم له بحكم الإسلام في حال الطفولية” (21) يورد ابن حزم رأيهم بالقول “لا تتولى الأطفال قبل ولا نبرأ منهم لكن نقف فيهم حتى يلفظوا بالإسلام بعد البلوغ” (22) وعند أهل السنة الأوائل “لا تجب عليه العقوبات ولا العبادات وعند البعض تجب العبادات احتياطاً” (23) الأمر الذي تعارض مع سيل أحاديث ومواعظ تعج بها كتب الكبائر والترهيب والترغيب ومن أفصح النصوص في العلاقة بين النمو والحاجة والعقل ما يرويه الجاحظ على لسان حكيم قيل له “متى عقلت ؟ قال: ساعة ولدت فلما رأى إنكارهم لكلامه قال: أما أنا فقد بكيت حين خفت، وطلبت الأكل حين جعت وطلبت الثدي حين احتجت وسكت حين أعطيت يقول هذه مقادير حاجتي ومن عرف مقادير حاجاته إذا منعها وإذا أعطيها فلا حاجة به في ذلك الوقت إلى أكثر من ذلك من العقل” (24) يمكن تقسيم المسئولية تجاه الطفل إلى تلك المتعلقة بأبويه والمسئولية المترتبة على الدولة: فقد غطت الخلافة الإسلامية الأولى على الأقل في العاصمة نوعاً من العطاء للأطفال الذي تجاوز ذلك إلى حماية صحية واقتصادية أكبر في فترات الازدهار ونجد أعلى أشكال الضمان فرضاً لكل مولود مسلم في دار الإسلام منذ الفطام فصار الناس يستعجلون الفطام لينالوا الفرض فأمر عمر بن الخطاب بمناد يقول: “لا تعجلوا أولادكم عن الفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام” (25) ويعني مفهوم الحضانة عند معظم الفقهاء تربية الطفل ورعايته والقيام بكل مستلزمات حياته منذ ولادته إلى أن يصبح مميزاً وقادراً على الاستغناء عن خدمات أمه في قضاء حاجاته الضرورية ويتعرض لها القرآن بالقول: ” والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفساً إلا وسعها ولا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك” (البقرة 233) وليس في الأحاديث واحد يحصر حق الولاية على الطفل بعد انتهاء حضانة الأم له، وقد قال الشافعي أن الطفل يكون مع أمه إلى سبع سنين ثم يخير وهو أرقى الاجتهادات من جهة حق الطفل، ويؤيد مالك ذلك في إحدى روايتين عنه، ويقول أبو حنيفة بضم الطفل إلى الأب أو عصبة الأب (وبه أخذ المشرع السوري والمصري وأكثر الدول العربية) أما مالك فربط في حالة ثانية الضم بالجنس، الأنثى للأم حتى تتزوج والصبي للأب حتى يستغني أما تلاميذ ابن حنبل فيخلصون لسمعتهم الشمولية بفرض الخيار من الحاكم ويروي ابن تيمية عن أبوين تنازعاً عند الحاكم على ولدهما فخير الحاكم الولد فاختار أباه قالت الأم: سله لأي شئ اختار أباه فسأله الحاكم، قال الطفل: أميتبعثني كل يوم إلى الفقيه والفقيه يضربني وأبي يتركني ألعب مع الصبيان، فقضى الحاكم بالولد للأم(26)
أما من حيث مسئولية الطفل، فثمة تقسيم عام إلى طور قبل سن التمييز من الولادة إلى السابعة وليس في هذا السن مسئولية في حد أو تعزيز وهناك فقط مسئولية مدنية في أمواله حتى لا يضار الغير والثاني طور التمييز للفتاة حتى الحيض والاحتلام والحبل، والفتى حتى الاحتلام والإحبال وحكمه حكم المعتوه: فهو يطالب بالحقوق الواجبة بالإتلاف لا بالعقود ولا تجب عليه العقوبات ولا العبادات وقد تجب العبادات عند البعض احتياطاً ولكن ما في الأحاديث من إكراه عليها ضعيف ومتناقض فيما بينه ومتعارض مع المبدأ القرآني الرافض لأي إكراه في الدين ((27
وأما بالنسبة للتأديب فلا يوجد نص قرآني بتأديب الطفل بالضرب، وهناك أحاديث ضعيفة اعتمدت كقواعد فقهية حيث صار من شبه المتفق عليه عند السلفيين أن للأب والجد والوصي والأخ الأكبر والمعلم أيا كان مدرساً أو معلم حرفة تأديب الصبي بما فيه ضربه دون سن البلوغ ويقول رأي ثان بأن ضرب الطفل من غير الأب أو الولي لا يكون إلا بإذن منهما ويقول ابن سينا باعتبار العقاب آخر ملجأ تربوي: “إنه من الضروري البدء بتهذيب الطفل وتعويده ممدوح الخصال منذ الفطام قبل أن ترسخ فيه العادات المذمومة التي يصعب إزالتها إذا تمكنت في نفس الطفل أما إذا اقتضت الضرورة الالتجاء إلى العقاب فإنه ينبغي مراعاة الحيطة والحذر فلا يؤخذ الوليد أولاً بالعنف وإنما بالتلطف ثم تمزج الرغبة بالرهبة وتارة يستخدم العبوس أو ما يستدعيه التأنيب وتارة يكون المديح والتشجيع أجدى عن التأنيب وذلك وفق كل حالة خاصة ولكن إذا أصبح من الضروري الالتجاء إلى الضرب ينبغي ألا يتردد المربي على أن تكون الضربات الأولى موجعة” (28) وهذا رأي ابن الجزار في ” سياسة الصبيان وتدبيرهم” وكلاهما يؤكد على ارتباط التربية بشخصية كل طفل وهناك رأي تربوي متقدم يركز على التصرف غير العنفي من التلطف والعبوس والتشجيع والمديح ولا يتجاوز التأنيب الكلامي، ويقول به عدة أطباء.
وهناك تركيز عند الأطباء منذ أبي بكر الرازي على ضرورة العناية بالصبية في فترة الانتقال إلى البلوغ أو المراهقة بمصطلحنا المعاصر ونكتفي بنقل رأي ابن سينا في ذلك يقول: ” يجب أن يكون وكر العناية مصروفاً إلى مراعاة أخلاق الصبي فيعدل وذلك بأن يحفظ كيلا يعرض له غضب شديد أو خوف شديد أو غم أو سهر وذلك منفعتان إحداهما في نفسه بأن ينشأ من الطفولة حسن الأخلاق ويصير ذلك له ملكة لازمة والثانية لبدنه فإنه كما أن الأخلاق الرديئة تابعة لأنواع سوء المزاج فكذلك إذا حدثت عن العادة استتبعت سوء المزاج المناسب لها… ففي تعديل الأخلاق حفظ الصحة للنفس والبدن جميعاً معاً” (29) .
** حق الرعاية
تجد في الكتابات العربية القرون وسطية حيزاً هاماً لحق الرعاية الطفل عند الأطباء والفلاسفة وعدد من الفقهاء ومن المعروف أن أبا بكر الرازي كان أول من فصل بين أمراض الأطفال والأمراض النسائية حيث كان الطفل باستمرار يدرس ويتناول من خلال الأم وبذلك بدأ محاولات تناول مسألة الطفل في ذاته وكان أولها رسالة الرازي في طب الأطفال في حدود سنة 900 للميلاد وهي موجودة اليوم بالعبرية واللاتينية والإنجليزية والإيطالية في حين أن الأصل العربي مفقود ومن أهم ما كتب الطبيب أحمد بن الجزار القيروانى صاحب”كتاب سياسة الصبيان وتدبيرهم” وتجد إرشادات الرعاية تبدأ عادة منذ الحياة الجنينية حيث النصائح للحوامل وطلب الغناء إليهن وملامسة الجنين، وينصح علي بن هبل البغدادي الحوامل بالقول: “يجب أن تحذر الحامل التعب الشديد وطول المقام في الحمام، والرياضة الرقيقة صالحة، وتعرض للهواء والسرور والتنزه وبكل ما يسر النفس وينشط الروح، وإن عرض الحوامل مرض عولجت برفق وتوقت الفصد والإسهال”(30) وقد خصص غريب بن سعد الكاتب بحثاً في “خلق الجنين وتدبير الحبالى والمولودين ” يربط فيه بين العناية بالأم وانعكاساتها على الوليد، وهو يحذر من كل ما يمكن أن يزعج الحامل مانعاً الصوم بالقول ” ولا تجوع الحامل ولا تلزم الصوم فإن ذلك يضرها ويضر الجنين”، ويتعرض ابن الجزار للعناية النفسية بالقول ” لا يمكن البكاء الكثير، فإنه إذا أكثر بكاءه عرضله أبلمبيسيا* فيجب أن يسكت كما ذكرنا بدءاً وبكل شئ يعلم أنه يلهيه به ويحول بينه وبين الكباء، مثل أن يحمل على الأيدي حملاً رقيقاً ليناً، ويحرك كذلك ويرفع له… أصوات لذيذة ويحرك بالغدوات بالحمل ويحسن له النغم بالتبين، وذلك أن الأصوات اللذيذة تلحق النفس الطبيعية الالتذاذ بها من غير تعب ومن أجل ذلك الأطفال أن نغم لهم حسنة يستلذونها سكتت وطبائعهم وهدأت وناموا من قريب ويقرب أيضاً إلى الصبي ما قد اعتاده من الأشياء التي تطربه وتفرحه ويجمع بينه وبين من نشأ معه من الصبيان، ويحذر سماع كل شئ له صوت وأن يتقى عليهم الجهم من الوجوه التي تفزع الصبيان شبه البراقع، والأشياء البشعة، فإن هذا وشبهه مما يدخل الصبى النظرة الشديدة”(31)، وعند ابن سينا” من الواجب أن يلزم شيئين نافعين أيضاً لتقوية مزاجه أحدهما التحريك اللطيف والآخر الموسيقى والتلحين الذي جرت به العادة لتنويم الأطفال وبمقدار قبوله لذلك يوقف على تهيئته للرياضة والموسيقى أحدهما ببدنه والآخر بنفسه”(32)، ونجد عند عامة الأطباء ملاحظات تتعلق بالمشي والكلام والجري والنوم ونصائح تربوية تختلف باختلاف المؤلفين، فابن سينا مثلاً، ينصح بأن يكون الطفل مع أطفال حسنة آدابهم لأنه يأخذ الكثير من أترابه ويؤكد على اجتماع الأطفال بالقول: ” المحادثة تفيد انشراح العقل, وتحل منعقد الفهم، لأن كل واحد من أولئك إنما يتحدث بأعذب ما رأى وأغرب ما سمع، فتكون غرابة الحديث سبباً للتعجب منه سبباً لحفظه، وداعياً إلى التحدث, ثم إنهم يترافقون، وفي ذلك تهذيب لأخلاقهم وتحريك لهممهم وتمرين لعاداتهم” (33)، وقد انقسم العلماء بين من يطالب بتحديد سن لبدء التعليم كالعبدري المطالب بسن السابعة، من ترك الحرية للأهل والطفل والبغض يحدد سنين الكتاب وبعضهم يتركها أما خيار المهن فيؤكد الرازي والقيرواني والمجوس على ضرورة العناية بميول الطفل واحترام خياراته، ويقول الأخير: ” فإذا أتى على الصبي اثنتا عشر سنة، فينبغي أن يراض فيما يحتاج إليه من التعليم والتعرف”(34) أما ابن سينا فيقول برأي آخر: ” ليس كل صناعة، يروقها الصبي ممكنة هواتية، ولكن ما شاكل طبعه وناسبه ولذلك ينبغي لمدير الصبي إذا رام اختيار صناعة أن يزن أولاً طبع الصبي ويسر قريحته ويختبر ذكاءه فيختار له الصناعات بحسب ذلك” ويصر الجميع على ضرورة المرح واللعب والترويح عن النفس للطفل ويؤيد الإمام الغزالي هذا الاتجاه العام عند الفلاسفة والأطباء قائلاً في “إحياء علوم الدين”: “ينبغي أن يؤذن له (أي طفل) بعد الانصراف من الكتاب أن يلعب لعباً جميلاً يستريح إليه من تعب المكتب، بحيث لا يتعب في اللعب، فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه بالتعلم دائماً يميت قلبه، ويبطل ذكاءه وينغص عليه العيش حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأساً”.
وقد اتفق الأطباء وعدد من الفقهاء على أن أهم لحظات التربية إنما تكون في السنوات السبع الأولى، ويصل الأمر بابن الجوزي إلى القول في “الطب الروحاني”: “أقوم التقويم ما كان في الصغر، فأما إذا ترك الولد وطبعه ونشأ عليه ومرن كان رده صعباً” ويشاطره الرأي الإمام الغزالي وابن الجزار وعلي بن عباس المجوسي.
ومنذ عهد عمر بن الخطاب، كانت أول أشكال الكتاتيب وكان بيت المال، وفق روايات متعددة يدفع للمعلم والطفل المتعلم ثم انتشرت كتاتيب الأطفال بعضها مكاتب سبيل للأطفال الفقراء واليتامى أنشأها محسنون وبعضها من الدولة ويذكر سعيد الديوه جي وجود كتاتيب للبنات وأخرى للذكور وكتاتيب مختلطة (35) وكان التدريس يعهد للرجال والنساء ويذكر ابن حزم الأندلسي أنه كان تلميذاً نساء علمنه القرآن والشعر ودرينه على الخط واكتشاف المعارف حتى سن العشرين وثمة معلمات مشهورات مثل الشفاء بنت عبد الله العدوية وكريمة بنت المقداد وأم كلثوم بنت عقبة وعائشة بنت سعد، وقد عرفت مولاة أبي إمامة بتعليم النساء تطوعاً في مسجد حمص ومع التراجع الحضاري الذي شهده العرب والمسلمون بدأت تختفي الكتاتيب المختلطة وصارت الشيخات تشرفن على الأربطة الخاصة للنساء، لتعليم الفقراء والمعاقات كما في بغداد والنجف ودمشق والقاهرة.
استنتاجات أولية
من السهل أن نختزل التجربة العربية الإسلامية بتعبيرات مثل “أحكام الشريعة” أو “موقف الإسلام” ولكن في هذه الحالة لا نلغي وحسب الغني التراكمي الذي عرفته التجربة الإسلامية وإنما أيضاً خصوبة عطاء الصراع بينها وبين التجربة العلمانية في ديار الإسلام إن هذه الصفحات تعطي المثل على أن حق الاختلاف كان محرك الأفكار ودينامو التنوير، فالغزالي كان يأخذ من الأطباء الهرطقيين دون حرجفي ملاحظاته التربوية وكذلك استعار ابن سينا من مواقف أبي حنيفة والشافعي وإن كان بعض المتعصبين يأخذ على طب الأطفال عند العرب إدخاله الموسيقى إلى البيمارستان (المستشفيات) والحكواتية الذين يروون القصص للترويح عن الطفل فإن من مصادر اعتزاز كل عربي اليوم أن تكون مشافي بغداد قد مهدت للعلاج بالموسيقى والترفيه بحكاية القصص للأطفال.
من الضروري أن تصيب هذه الصفحات بالإحباط كل من ينتظر قراءة تاريخية متكاملة لمحتويات اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، وإلا ما معنى التقدم وإن كان ثمة طفرات هنا وهناك فهل بالإمكان مقارنة وضع مازال حكم الإماء فيه أمام القانون يختلف عن حكم الحرائر مع عالم ألغى فيه كل شكل من أشكال الرق تجارة أو سبياً أو وراثة؟ وهل ننسى أن باب الاجتهاد قد أغلق قبل فتح ملف حقوق الإنسان بقرون لقد أسهمت ثقافتنا بدلوها في محاولة الإجابة على حاجيات الطفل ومتطلبات نموه ورعايته كما أسهم غيرها وأقرت جملة حقوق للطفل لا يمكن إلا أن تكون مصدر اعتزاز للبشرية جمعاء ونجحت بذلك إلى حد كبير لأنها فتحت صدرها لمعارف اليونان وروما وبلاد فارس والهند والصين دون خوف وحاولت أن تمضغ خيراتها دون تعصب وإن كان من مهمة على عاتقنا فهى الخروج من منطق المقارنة التي تفقد كل معانيها عندما توضع خارج الزمان والمكان إلى منطق العصر لنجيب على الأسئلة الأساسية التي تعترضنا ونرد على التحديات الوجودية التي تواجهنا بمنهج شجرة النهضة التي عرفت كيف تشرب من ماء التاريخ والمعاصرة وتغتني بسماد الثقافات الإنسانية الكبرى لتعطي جديد الثمرات لأجيال جديدة.
** المراجــع
1 من إصدارات مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان : حقوق الإنسان في الثقافة العربية الإسلامية، المواطنة في التاريخ العربي الإسلامي. وقد صدر الثالث عن الجنة العربية لحقوق الإنسان أما هذه الدراسة أول من نشرها مجلة رواق عربي، العدد الثاني، أبريل 1996.
2.هيثم مناع، علقم، منشورات النقطة، باريس، 1984.
3.ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، طفل.
4.نفس المصدر.
5.هيثم مناع، إنتاج الإنسان شرقي المتوسط، العصبة، القبيلة، الدولة، دار النضال بيروت 1986 ص53.
6.د.عادل جاسم البياتي: الطفولة ومشاهدها المتغيرة في التراث والأدب ، آفاق عربية، بغداد العدد 4 1979.
7.شعر مالك بن عريب، تحقيق د. نوري القيسي، مجلة معهد المخطوطات العربية، القاهرة، المجلد 15، ج1.
8.شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق : الطفولة في ظل الشريعة الإسلامية، الأزهر سبتمبر 1995 ص 31.
9.د. شوكت الشطي: الإسلام والطب جامعة، دمشق 1960 ص 73.
10.نفس المصدر ص 74.
11.د. محمود الحاج قاسم محمد: تاريخ طب الأطفال عند العرب، وزارة الثقافة والفنون، بغداد، 1978، ص 30.
12.جاد الحق: مذكور عن “الأسرة” للدكتور أحمد أحمد، ص 294-295.
13.عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق، الآفاق الجديدة، بيروت ط3، 1978 ص 166.
14.ابن حزم الأندلسي: الفصل في الملل والأهواء والنحل، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، القاهرة ج 4، 35.
15.نفس المصدر، ص71.
16.الأشعري: كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، بيروت 1952 ص 45.
. 17نفس المصدر، ص 71.
18.د.نصر حامد أبو زيد: الإتجاه العقلي في التفسير، التنوير، بيروت ط3، 1993، ص20.
19.هيثم مناع: الإسلام والمرض أطروحة دكتوراه في المعهد العالي للعلوم الاجتماعية، باريس 1983، فصل سببية المرض.
20.أحمد فتحي بهنسي: المسئولية الجنائية في الفقه الإسلامي، بيروت ط3 1988 ص 270.
21.أبو المظفر طاهر بن محمد الأسفرايين : كتاب التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن فرق الهالكين، مخطوط باريس 1452، ورقة 26
22.ابن حزم، الفصل (مذكور) ج5 ص 32.
23.بهنسي (مذكور) ص 223.
24.الجاحظ: الحيوان، القاهرة، 1943 ج 7، ص56.
25.أبي عبيد القاسم بن سلام: كتاب الأموال، الأزهر ودار الفكر، القاهرة 1976، ص 203-303.
26.إبراهيم فوزي: أحكام الأسرة في الجاهلية والإسلام، الكلمة ، بيروت 1983، ص 82.
27.كالحديث الذي يتكرر عند الإسلاميين عند التطرق للتربية “مروراً أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع” (يورده جاد الحق مذكور ص32) والحديث القائل ” الغلام يعق عنه يوم السابع ويسمى ويحاط عنه الأذى فإذا بلغ ست سنين أدب فإذا بلغ سبع سنين عزل فراشه فإذا بلغ ثلاث عشرة سنة ضرب على الصلاة والصوم فإذا بلغ ست عشرة سنة زوجه أبوه ثم أخذ بيده” (يورده محمد عطيه الأبراشي، التربية الإسلامية وفلاسفتها مراحل تربية الطفل، ص52).
28.ابن سينا: كتاب السياسة، عن محمود الحاج قاسم محمد، مذكور ص150.
29.ابن سينا: القانون في الطب، مكتبة المثنى، بغداد ج 1571.
30.حققه الدكتور محمد الحبيب الهيلة ونشر سنة 1968.
31.علي بن هبل البغدادي: المختارات في الطب، أنظر ج1.
32.ابن الجزار، مذكور، ص 68-69.
33.د.محمود الحاج قاسم محمد، مذكور ص 137 عن كتاب السياسة لابن سينا.
34.على بن عباس المجوسي : كامل الصناعة ج2، ص58.
35.سعيد الديوه جي: التعليم الإلزامي في الإسلام، آفاق عربية ، العدد 6، 1979.
4/8/2005