وصلني خبر فقدان الوالد، يوسف ناصر العودات، وأنا أتحدث مع الصديق خلدون الأسود في ابتكار وسائل نضال ضرورية لاستمرار ونجاح انتفاضة الكرامة. كنا في اللحظات الأولى من اليوم الثالث عشر لحصار درعا ونوى وخناق حوران ودوما وتهديد بانياس وعسكرة شمال حمص… بحيث تتقاسم مشاعر الألم كل أبناء الوطن الذين خسرناهم في اليوم نفسه، نزلت دموعي بعد الظهر وأنا أنقل أسماء أحلام وليلى وباقي النساء اللاتي استشهدن في المرقب (بانياس) من أخ من بانياس، لم يعد بالإمكان إخفاء مشاعر الحزن عندما يصل المرء خبر إطلاق الرصاص على نساء يسألن عن قريب معتقل! أما آن لصهريج الآلام أن يغلق أبوابه؟
قست علينا الأيام، ولم أر والدي مدة ثمانية وعشرين عاما، وعندما قابلته بعدها في 2003، كان قد تقدم كثيرا في العمر، ولكنه لم يكن يأخذ حتى قرص أسبرين. كان يحب اختياري الدفاع عن حقوق وكرامة الإنسان ويعتز به. الأمر الذي يعطيني قوة إضافية لشعوري الدائم برضا الوالدين عني وعن نضالي.
كانت حياته صعبة وقاسية، سُجِنَ في كل الحقب والعهود ما خلا الحقبة البرلمانية بين 1954-1958 وفي زمن الوحدة السورية المصرية، وكان ضحية لكل وسائل التعذيب عندما اعتقل في 1970، عندما خرج من آخر سجن له، بعد 16 عاما، عاد للمحاماة واختار أن يكون محامي الفقراء ولم يتابع التزامه السياسي والحزبي. وقد عبر عن ذلك بالقول: “عندما عدت إلى المجتمع بعد طويل سجن شعرت بأن المطلوب إفساح المجال للشباب”. هذا الشباب لم يخيب ظنّه.
عندما اعتقل والدي في 1970، كنت أسلم الدعاوى القضائية في مكتبه لزملاء محامين أو أُعْلِم أصحاب القضايا بمآل ملفاتهم. وذات يوم دخل رجل في الخمسين تقريبا وسألني عن ملفه، فأعلمته بأنه أخذ حكما إيجابيا. دعوته للقهوة فجلس وشرب القهوة وبقي جالسا، فسألته إن أحب أن يشرب الشاي فشرب معي الشاي وبقي جالسا، سألته: هل تحتاج لشيء؟ فقال لي: الوالد، الله يذكره بالخير، كان يدفع لي أجرة الطريق. فاعتذرت منه ودفعت له أجرة الطريق.”
علمني والدي الصدق، وكان يقول لي مهما اختلفت معك في الرأي من حقك أن تقول أخطأت يوما ومن حقي ذلك، ولكن ليس من حقك أن تكذب مهما كانت الأسباب.
علمني أن الإلتزام غالي الثمن ولكنه يستحق التضحية مهما كانت كبيرة
في يوم من الأيام، وقف بي على طريق دمشق القديم، كنا نزرع شتلات الزيتون تحت المطر، أخي المرحوم همام وأنا ووالدي يقول لنا أين نضعها. نظر في الأفق وقال: “الحوراني يستقبل البدو في كل ربيع يقيمون مضاربهم عنده، فيرى في البداوة والصحراء الحرية، ويفلح الأرض ليطعم الناس القمح والعدس والبعير الكرسنة والشعير، فيتأصل في أعماقه عظمة الإنتاج.. هذا الحوراني اليوم زادت عليه قصة العلم والمعرفة، كانت حوران في نوى وخربة غزالة مركز لعلماء الدين، اليوم أهلنا يبعثون بنا للجامعة ولو باعوا أراضيهم وبيوتهم. لكن لازم تزرعوا قمح وخضار وتدافعوا عن الحرية وتتعلموا حتى نقدر نوحد العرب ونحرر فلسطين ونزور حيفا مثل ما كان والدي يزورها”.
علمت بأن الوالد استعاد الأمل بعد سنوات القحط والجفاف العربية بانطلاقة ثورة تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين وسورية وأيام الغضب في العراق. كان من نعم الله عليه أنه رأى انطلاقة انتفاضة الكرامة من درعا، وشاركنا لحظات العزة والفخر بهذا الشباب الذي كسر كل حواجز الخوف، وليشعر بالعزة بعد عقود موجعة.. وعندما اعتقل أخي معن، اتصلت بالوالدة والوالد أطمئنهم، فقال لي قبل أن أقول في أخي كلمة واحدة: يابا هذا مصيرنا.. الشهادة أو السجن أو الحرية.
08-05-2011