أكتوبر 13, 2024

الشاهد قبل الأخير

Daraaوزّع في لقاء ضم جمعا من  أحبته وأصدقائه  في العاصمة الفرنسية  يوم الأحد 23 سبتمبر 2007، كتاب الفقيد سلطان أبازيد “ذاكرة الوطن والمنفى”.  وتأتي أهمية هذه الوثيقة، من كون كاتبها كما وصف نفسه ، ولا أظن أن شخصا يعرف أبو رشا ويحترم نفسه يستطيع أن يقول غير ذلك، بالقول: “كنت صادقا مع نفسي ومع الآخر”. هذا الصدق مع النفس، جعل من سلطان السياسي الأقرب لعالم حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية، وجعل منه أيضا، عنوانا للتضحية والعطاء في عالم شحيح بالقيم والكبار.

لن أستعرض اللحظات الوجدانية التي قاسمنا إياها أبو رشا في هذه الوريقات، كما لن أتوقف عند استرجاعه لطفولة عاشها مثلي في نفس المدينة (درعا) وجعلني أستذكر الكثير مما غيبته دهاليز ذاكرتي، فثمة من هو قادر على إعطاء هذا العمل المفعم بالإنسانية حقه أكثر مني. لكن سأتوقف بالتأكيد عند محطات كبيرة وهامة في العمل السياسي والمدني في سورية، محطات كان سلطان أبازيد فيها أكثر من مرة في قلب صناعة الموقف، واستطاع، رغم عشقه وانسجامه النفسي مع أنشودة مظفر النواب: “الحزب أمك الحزب أباك”، واعتباره لالتزامه الحزبي قضية تستحق كل تضحية وكل عطاء، أن يقف بكبرياء الإخلاص لقيم ومبادئ كبيرة، في وجه أية جنوحات حزبية وضعته الظروف في مواجهتها في الغربة، بعد اعتقال قيادة الحزب الشيوعي وكوادر أساسية فيه، وبقاء “الشرعية” الحزبية معلقة بين السرية والمنفى والضغوط من كل جانب.

كان سلطان أبازيد من أوائل من رفض الاستئصال والإبعاد في الحوارات التقدمية في صفوف المعارضة السورية. وكانت  منطقية الحزب الشيوعي- المكتب السياسي في درعا تستقبل بكل أريحية رموز الحلقات الماركسية. وأكثر من مرة، توجهت مع فاتح جاموس في السبعينيات إلى حي البلدة للاجتماع مع خيرة الكوادر التقدمية في المحافظة والنقاش معهم في مستقبل اليسار السوري في سهرات نظمها بنفسه وتركت بصماتها في وعينا الجماعي. أيضا هو من عرفنّي على رياض الترك وفايز الفواز ونخبة من أبناء الوطن.

جمعتنا أكثر من حادثة متميزة، وفي الثمانينيات كنت أحد من يسر لهم ما في أعماقه من ألم في أكثر من قضية، وكان الأصعب عندما يخبرني بقصة ويطلب مني في الوقت نفسه ألا أكشفها لأحد ما دام حيا، مثل قصة اجتماع المحامي أحمد محفل مع رفعت الأسد. التي لم استطع كشفها احتراما لطلبه قبل اليوم باعتباره تناولها في الكتاب. وحتى عندما جرى حوار ألمانيا بين قيادة المخابرات السورية وقيادة الإخوان المسلمين، وكتبت مقالة انتقد فيها ذلك الاجتماع وأي اجتماع يقونن دور أجهزة المخابرات في الحياة السياسية السورية، أو يبرر الحوار مع أشخاص ارتكبوا جرائم جسيمة بحق المواطن السوري، لم أسمح لنفسي بذكر ما أخبرني به رغم أهميته. ورغم كونني مع سلطان أبازيد وميشيل كيلو قد تحولنا في فترة ما إلى الشيطان الأكبر بنظر كل من تحالف مع السلطة العراقية آنذاك، مع ما ترتب على ذلك من تهميش ومحاربة يومية غير أخلاقية لنا، كان هناك اتفاق مبدئي على أن تكون معركتنا شريفة مهما كان الثمن. وأذكر يوم اكتشف الطبيب حصوة كبيرة في كلية إبي رشا جملة الطبيب لنا: “هذه الحصوة لم أر بحجمها في حياتي، كم من الآلام كتمتها في نفسك لتتشكل هكذا حصوة؟”

الدرس الأكبر في تجربة سلطان أبازيد

سلطان أبازيد ابن تجربة سياسية متمردة على القوالب الجاهزة والإيديولوجية المعدة سلفا من قبل الرفاق الكبار في موسكو. فقد أصل انشقاق الحزب الشيوعي السوري لعدة مفاهيم جديدة في الحركة الشيوعية العربية أبرزها: مركزية فكرة الوحدة العربية، دور المقاومة الفلسطينية في تفعيل الحياة السياسية العربية، العودة إلى ألف باء الديمقراطية بدون رتوش ثورية أو شعبية، وكل هذا ضمن منطق الاستقلالية في الفكر والممارسة، أي اعتبار أي قرار أو توجه حزبي الابن الطبيعي لمناقشات داخلية لا يقبل الخضوع لمنطق التبعية أو التنازلات. وقد نزلت هذه المفاهيم كالصاعقة على المدرسة السوفيتية التي اتهمت هذه التجربة بكل الموبقات من الشوفينية إلى التطرف. وشنت السلطة التسلطية عليها الحرب منذ بداياتها خوفا من نشوء تيار ديمقراطي قوي في البلاد. وفي 1980، يوم هبة المجتمع المدني السوري الأولى في إضراب اليوم الواحد، تقاسمت السلطة القمعية وتنظيم الطليعة المقاتلة مهمة الحرب على الديمقراطيين السوريين، الطليعة المقاتلة  تطلب منهم العودة إلى جحورهم والسلطة القمعية تعتقل القيادات السياسة والمدنية الأساسية في البلاد. وفي خضم الصراع بين الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين والسلطات السورية، كان هناك صراع غير معلن، بين القرار المستقل للمعارضة الوطنية الديمقراطية، ومطالبات بالتنسيق بين المعارضة السورية والسلطة العراقية لتغيير الأوضاع في دمشق. ومع إعلان التجمع الوطني الديمقراطي، بلغ هذا الصراع الداخلي قمته، حيث أصبحنا أمام كتلتين متمايزتين في البنية والبرنامج الأولى مشكلة داخل سورية هي التجمع، والثانية في ظلال السلطة العراقية عرفت بالتحالف. وكانت نقطة التقاطع الوحيدة بين هاتين الكتلتين تكمن في شخص المحامي أحمد محفل عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي الذي عمل مع التحالف كعنصر ارتكاز فيه، وحاول أن يجعل من موقفه الشخصي موقفا للحزب الشيوعي داخل وخارج الوطن. وكان يملك الوسائل المادية لذلك، وعدة أوراق سورية-فلسطينية وضعتها السلطة العراقية بتصرفه. الدكتور سلطان أبازيد، بحكم صفته الحزبية المساوية لأحمد محفل، هو الذي حال دون خلط الحابل بالنابل وضم الحزب الشيوعي بالرغم عنه، لتحالف موال للسلطة العراقية.

السياسة أولا، السياسة أخيرا

كان أبو رشا يعتبر حياته الشخصية وحياته العامة متداخلتين ومندمجتين، وقد كرس جّل وقته لالتزامة السياسي، وطالما كرر لمن انتقد طريقته في الحياة القول: “الحياة خيار، ولا يوجد مكان لأنصاف الحلول عندي، ولو عدت غدا منذ البداية لن أختار طريقا آخر، ولا أندم على خياراتي الأساسية والمبدئية”. ورغم هذا الحزم، امتلك فن احترام من يخالفه الرأي، وأكثر من ذلك، عدم التمسك الأعمى بقناعاته الشخصية. وفي السنوات الأخيرة، نشأت بيننا عدة خلافات بعضها ثانوي وبعضها جوهري. وقد تناقشنا أكثر من مرة، خاصة فيما يتعلق بالصراع السياسي في لبنان، وأذكر أنه بعد جلسة سريعة معه في ساحة حقوق الإنسان في التروكاديرو، كتبت مقالة بعنوان “خطاب المحاور ومخاطره على الديمقراطيين العرب”، لشعوري  بتسرع العديد من المعارضين السوريين في الاصطفاف الداخلي اللبناني. ولعل نقطة الخلاف هذه برأيي، هي مركب الضعف الأكبر، في المعارضة الديمقراطية السورية اليوم، فهل نغض النظر مثلا، عن الاستقواء الكلي لقيادات لبنانية بالإدارة الأمريكية بعد تجربة الأخيرة المدمرة في العراق لمجرد عدائها للسلطة السورية؟ وهل يمكن قراءة تجربة اليسار الديمقراطي في لبنان خارج أطراف التحالف الذي تشارك به ؟

لقد شكل إعلان دمشق حدثا هاما في السياسة السورية المعاصرة، ولأول مرة منذ إعلان حالة الطوارئ، لم تكن السلطة السياسية سببا في الأزمة التي يمر بها، وإنما الهلامية السياسية التي سمحت مثلا، بتعايش الإخوان المسلمين داخله وخارجه في جبهة الخلاص، وتشكل أطر تستعمل الاسم على غاربها، وتوظيف الإعلان في صراعات ومواقف بعيدة عن روحه وغايته. ولا شك، بأن هذه الأزمة الحقيقية، تستوجب الخروج من منطق “ياساتر الستر استرها وما تفضحهاش” الذي غلب على المعارضة السورية، وجعلنا ننتظر مذكرات الفقيد، لطرح قضايا كان من المفترض أن تناقش بعمق منذ عشرين عاما، قضايا تجعل من الصراحة قاعدة للتواصل مع الشبيبة والمجتمع، ومن الفكر النقدي أساس للموقف السياسي، وبالتالي تسمح بولادة فضاء واسع للتأمل والابتكار في مواجهة سلطة سياسية قتلت الأم الشرعية للحريات (حرية التعبير) والوعاء الأمثل لرقيها (التجمهر الحر وحق التنظيم).

 24/9/2007