من عناصر بؤس الحضارة الغربية السائدة شمولية التشفير والترقيم. فكل شئ يمكن ترقيمه: العامل، المدير، السائق، السجين، السجان الخ. ومع الترقيم يتم التعامل مع الظواهر الإنسانية والتراجيديا بطريقة حسابية يقشعر منها ما تبقى في الإنسان من ضمير وقيم . ما يزيد الطين بلة،أن هذا التجريد الغربي يصبح له عين وأذن وأنف عندما يتعلق الموضوع بالصديق والعدو، بالحليف والمخيف، بالمحبوب والمكروه.
عندما نقرأ عدد الفلسطينيين الذين قضوا على المعابر، الذين ماتوا لغياب المعالجة الضرورية والدواء، المحرومين من العمل والدراسة، الذين جرى تحطيم ورشات عملهم وحقولهم أو أقيم بينهم وبين أرضهم وأهلهم أكثر من حاجز وجدار، نتساءل عن معنى الرقم في هذه الحالة، ونحن لم نعد أمام “ولادة التراجيديا” كما يقول نيتشه، بل في صميمها؟
صحيح أن المادة الأولى من إعلان يحتفل العالم بعامه الستين تقول: “يولد الناس أحرارا ومتساوين..”، إلا أنها تحشم أن تكمل: ثم تبدأ الفوارق ويقوم التمييز. اعتقال فلسطيني أو إبعاده أو وضعه في إقامة جبرية يحدث منذ 11 سبتمبر 2001 في دول الاتحاد الأوربي بمعدل شخص كل شهر، ليس لأفراد بلا أوراق أو لأصدقاء لمنظمة القاعدة، وإنما بكل بساطة لكل من ينشط ويصبح مصدر إزعاج للدولة العبرية. لقد تم تصنيف عدة جمعيات مركزية في العمل الخيري الفلسطيني على قائمة الإرهاب الأمريكية، بضغط من الإيباك. فإذا بمنظمات تسمي نفسها “مدافعة عن حقوق الإنسان ومناهضة للسامية” في أوربة تستنكر عدم قيام الاتحاد الأوربي بنفس الإجراء؟ أي لعدم تسرع الاتحاد الأوربي بارتكاب الحماقة الأمريكية عينها بحق منظمات، مقرها في لندن وباريس وبروكسل وجنيف، معروفة بأمانتها وصدقيتها ومهنيتها. عند كلٍ منها مدقق مالي مستقل، وتقوم بعملياتها الإغاثية عبر بنوك أوربية وأمريكية بل وإسرائيلية. لحسن الحظ، انتصر عدد من هذه الجمعيات في معارك قضائية على هذا النشاط المشبوه باسم حقوق الإنسان لتجويع الشعب الفلسطيني. إلا أننا للأسف لم نجد معنا في صالة المحكمة أو حتى في “بيان رفع العتب”، منظمة حقوقية دولية واحدة في هذه المعركة التي لم تنته فصولها بعد.
لعل هذا الغياب في قضية تمس حقوقا اقتصادية واجتماعية، تسعف حياة عشرات الآلاف من الأشخاص، يستوقفنا اليوم لمعرفة مكان المنظمات الدولية لحقوق الإنسان من الانتهاكات الجسيمة المنهجية لحقوق الشخص الفلسطيني. سواء كان هذا الشخص أقلية في دولة تقول بأنها يهودية (ما يعرف بعرب 1948)، أو في ظل احتلال عسكري رغم تلاوين مناطق أوسلو، أو ضمن حصار مطبق على قطاع جغرافي بشري واسع.
كان هذا موضوع جلسة نقاش حضرها مؤخرا ممثلون من عدة منظمات غربية (رغم تسميتها بالدولية)، دافعت عن فكرة بسيطة ولكن جهنمية. هذه الفكرة استطاع اللوبي الصهيوني تحويلها لإنجيل عند العديد من منظمات حقوق الإنسان في الغرب وهي: التوازن في عرض وجهتي النظر الإسرائيلية والفلسطينية والحديث عن انتهاكات من الجانبين. أي مساواة القامع بالمقموع والمستوطن بمن احتل بيته ووطنه، وحق العودة الديني لليهود بحق العودة في القانون الدولي للفلسطينيين إلخ. حاولت أن أكون هادئا ما أمكن وأن أطرح جملة أسئلة منها:
– كيف يمكن خلق حالة توازن بين جندي إسرائيلي واحد أسير و 8459 أسير فلسطيني مسجل في القوائم الإسرائيلية، منهم 52 وزيرا وعضو مجلس تشريعي ووكيل وزارة، وبينهم أيضا: 344 طفلا وطفلة يحتجز معظمهم في (قسم الأشبال) في سجن هشارون، معظمهم دون سن الثامنة عشرة، و69 أسيرة منهن 50 صدرت بحقهن أحكام؟
– كيف يمكن الصمت عن أعلى نسبة حواجز وحدود أمنية في العالم تفرضها الدولة العبرية على سكان الضفة الغربية عبر أكثر من 500 حاجز أمني وطريق التفافي، للدفاع عن جريمة ضد الإنسانية اسمها الاستيطان والاطمئنان على راحة المستوطن؟
– كيف يمكن المساواة بين دولة تتمتع بتسهيلات اقتصادية خاصة ومتميزة مع الاتحاد الأوربي وأمريكا الشمالية بل ومصر والأردن، والمصادرة الجماعية لحركة الأشخاص والبضائع في قطاع غزة المحاصر أو الضفة الغربية المقطعة الأوصال بجنود الاحتلال؟
– هل لديكم مثل واحد لمنع منظمة خيرية يهودية ترسل المساعدات لبناء المستوطنات لنتحدث عن توازن مع قرارات بمنع منظمات خيرية فلسطينية تصدر أحيانا إثر مقالة تافهة في صحيفة أتفه بدعم الإرهاب؟ هل استنكرت منظمة حقوقية غربية واحدة نشاطات الملياردير اليهودي المتطرف موسكوفيتش الذي يرسل بأرباح كازينوهات القمار في الولايات المتحدة لشراء منازل المواطنين العرب في القدس وإعطاء هذه المنازل ليهود؟ أم أن هذا ضمن قواعد البيع والشراء الحلال التي تعزز السلام في المنطقة؟
– كيف يمكن الحديث عن التوازن بين أكبر مستودع للسلاح النووي والكيميائي والجرثومي في شرقي المتوسط وأكبر حظر على استيراد أو دخول السلاح المفروض على الفلسطينيين؟
– كيف يمكن الحديث عن اهتمام الحكومة الإسرائيلية بحقوق البيئة، وقد أبادت قوات الاحتلال أكثر من مليون شجرة زيتون وحطمت أكثر من ثلاثين بالمائة من الأراضي الخضراء في الضفة والقطاع؟
– كيف يمكن أن تغيب إسرائيل عن قوائم منظمات مناهضة سوء المعاملة السجنية والإصلاح الجنائي، وثلاث خصائص تميز كل مراكز الاعتقال الإسرائيلية هي: التعذيب المقونن والإهمال الطبي المنظم والقتل العمد بعد الاعتقال. ألم تطلع هذه المنظمات على قائمة غير حصرية باسم 195 أسير قضوا منذ حرب 1967؟
– أليس من المأساوي أن معظم منظمات حقوق الإنسان الغربية لم تتحدث قط عن أكثر من 14 قانون يقر بالتمييز بين العرب واليهود في إسرائيل؟ أليس من المهزلة أن الدولة الوحيدة التي لا تسجل حدودا لها في الأمم المتحدة هي دولة إسرائيل؟
ثم أليس من المبكي أن معظمكم يعرف كل ما قلت ويلتزم الصمت عنه؟
بكل أدب، تجنب أكثر من ممثل لهذه المنظمات مصافحتي عند الخروج. وبكل أدب أيضا، اتصل بي هؤلاء ليقولوا بأنهم يتفهمون موقفي.. ولكن..
————————-
مفكر وحقوقي عربي يعيش في فرنسا
البديل المصرية 24/10/2008