ديسمبر 06, 2024

وماذا ستكتب عن ضربة الحذاء ؟

shoesسألت نفسي هذا السؤال، خاصة وأن عشرات آلاف المقالات كتبت بأكثر من ستين لغة عن حذاء منتظر الزيدي، الصحفي العراقي الذي صفع مجرم حرب عجزت وسائل العدالة الدولية والإقليمية والوطنية عن التعرض له قبل نهاية حكمه، واستقبله أمراء النفط وملوك الطوائف والنحل  بالصقور واللحم المشوي والكبسة بل وعشرات مليارات الدولارات نجدة كلما احتاج. الرئيس الأرعن والأحمق بآن الذي أصبح مع رامسفلد وديك شيني الرمز الأقوى في ثلاثية ابتذال القتل خلال أعوام. قبل أن يبدأ المواطن الأمريكي يشعر بالخجل من نفسه عندما يلتقي أي كائن غير أمريكي.

ماذا سأكتب وقد كنت في لجنة صياغة خمسة مواثيق شرف لاختصاصات مهنية ونضالية متعددة.. ماذا سأقول وأنا أعرف معنى الضيافة “العربية” ومعنى الحذاء في اللغة العربية؟ هل سأقف بجوار “الغوغاء” و”البرابرة” الذين يحملون الأحذية على رؤوس أشباه هروات لم يستعملوها إلا لضرب زوجاتهم وأبنائهم؟ هل سأنسى معنى الحضارة والمدنية إكراما للعواطف الشعبية؟ هل يمكن الاعتقاد أن من حقوق الإنسان أن يلقى الحذاء على إنسان كرمه الله كغيره من البشر؟ أليست إهانة رئيس جمهورية منتخب تعني إهانة شعب وأي شعب؟

إن كنت ستصفق له فبلاغتك أقل من صاحبك عبد الباري عطوان، وإن كنت ستهجي، فقد أكل من خير البوشية خيرة أقلام الضاد وهم لرد الجميل لسيدهم أكرم وأحزم. لقد طلب مني أحد الصحفيين تشريح الحدث من وجهة النظر القانونية فضحكت واعتذرت، وطلبت محطة أخرى أن أشارك في حلقة مباشرة عن الموضوع فاعتذرت بأدب. كان عندي رهبة من ترهلٍ أو ضعفٍ في التخيل والتأمل يحولني إلى مجرد معلق روتيني على حدث استثنائي  وغير نمطي بكل معاني الكلمة. فما هو السؤال الذكي أو الاستجواب المحرج الذي يندمج الصحفي معه في أكذوبة الحياد التي ينصبون علينا بها منذ طبعت أول صحيفة ورقية على سطح البسيطة؟ وهل يليق بصحفي يحترم نفسه أن يساوي بين الضحية والجلاد؟  أليست الكلمات أعجز من أن تكون وسيلة التعبير الأنسب في كل زمان ومكان؟ ألم يطلب رامسفلد شخصيا من السلطات الإسبانية إعادة تيسير علوني للمعتقل تأديبا على ما فعل في أفغانستان كما أعلمني مسؤول إسباني حينها؟ ألم يقل ديك شيني لمسؤولة أوربية كبيرة ليست المشكلة أن يكون سامي الحاج بريئا، وجوده في غوانتانامو مفيد لنا؟ هل احترم هؤلاء مهنية الصحفي ليحترمهم الصحفيون؟

دخل جورج بوش العراق سرا وانتقل من المطار للمنطقة الخضراء بالمروحية ونظٌّم المشهد الإعلامي وراء كل أشكال الحماية من المرتزقة الجدد الذين تدفع رواتبهم من الذهب الأسود العراقي، وتحدث عن انجازاته في التحرير والديمقراطية والبناء.. وقف أمام الجزار مجموعة من الصحفيين الذين يعرفون حقيقة كل ما يجري، ويلعبون اللعبة “الحضارية” للمؤتمرات الصحفية الرسمية، وفي اللحظة المناسبة جدا، جاء من حوّل لحظة النفاق الأكبر والكذب المعمم والهزء بالعقول والاستخفاف بالمشاعر إلى نقيضها.. لم يذكر بأن الزيدي كان فنانا ساخرا، ولم يقل أحد بأنه كان صوفيا، بل أغلب الظن أنه من أوساط حزب العمال الشيوعي العراقي، لم يتهم بالبعثية إلا من بعض الشوفينيين الأكراد والطائفيين العرب، واتهم بالعمالة لإيران من أشخاص عاشوا فترة منفاهم القسري في طهران، واتهم بالتخطيط الجماعي لغزوة الحذاء ممن نظموا عمليات إرهابية في صالات السينما في بغداد بدعوى ضرورة زعزعة حكم صدام بعد حرب الكويت، واتهم بافتقاد الحس المهني من صحفيين تلقوا مرتباتهم لأشهر مباشرة من البنتاغون كما اعترف رامسفلد نفسه، وبغياب الحس المدني ممن جعل من وسائل الثقب الكهربائية وسائل تعذيب للجسد الآدمي، وبالعمالة للنظام السابق ممن أعاد انتاج المقابر الجماعية…

لكي يتحطم الحدث الرمز، بدأت عملية محاكمة منتظر وإعدامه المعنوي.. ها قد استتاب، في عقله خلل، في نفسه مرض، سيكتب للرئيس الأمريكي معتذرا، سيعتذر من النوري، سيعتذر من نقابة الصحافيين المؤدبين.. لم يتوقف أحد عند واقعة بسيطة هي تعرضه للضرب والتعذيب أمام عدد من المسؤولين السياسيين والكلمة الوحيدة التي لفظت، أوقفوا الكاميرات.. لم يتدخل أحد لوقف ما تعرض له من ضرب وإهانة.. لسبب بسيط، هو أنه ضرب مجرم حرب بحذاء، فأين ذهبت المدنية التي تمنع المعاملة اللا إنسانية أو القاسية حتى للقتلة؟

في عام 1912 أنهى الكاتب المصري منصور فهمي أطروحة دكتوراه مع أستاذ الأنثروبولوجيا المعروف ليفي برول. كان عنوان الأطروحة “أوضاع المرأة في الإسلام”. وقد طبعت الأطروحة بالفرنسية وقتئذ في كتاب. في مصر، احتج عدد كبير من رجال الدين الإسلامي والأزهر على الأطروحة وطالبوا منصور فهمي بالاعتذار والتخلي عن كتابه. بعد مقاومة لم تطل تخللتها ظروف دولية وعربية خطيرة مهدت للحرب العالمية الأولى، آثر منصور فهمي الاعتذار عن أطروحته، فرحبت به الجامعة المصرية من جديد وصار يكتب بجوار مقالاته “البروفسور الكبير” وترقى في المناصب ودعي للأزهر أكثر من مرة. إلا أن إمام مسجد صغير قريب من الإسماعيلية قال في خطبة جمعة له على ذمة ملاحظة في أوراق الكاتب المصري الراحل لطف الله سليمان ضمن ما سلمني من أوراق ووثائق من تاريخ مصر: “منصور فهمي ضرب ثم هرب، سيذكر التاريخ أنه ضرب ولن يعرف إلا الراسخون في العلم أنه بعدها هرب”..

بالفعل، بعد سبعين عاما أعدنا نشر الكتاب الهام وترجمت أحد فصوله (التاريخ الاجتماعي للحجاب) للعربية قبل أن يترجم وينشر كاملا بلغة منصور فهمي الأولى، روينا قصة حياة الكاتب في الطبعة الفرنسية الأولى، أي قرابة ألف نسخة، بعدها قرر الناشر إعادة النشر دون هذه “الزائدة غير الضرورية”.. وأبقى على جملة مختصرة ومعبرة: هذا الكتاب هو أجرأ نصٍ كُتِبَ في نقد أوضاع المرأة في الإسلام فيما يعرف بحقبة النهضة العربية.

ربما طلّق الزيدي الصحافة وربما تزوج، ربما اغتنى وربما تشرد، قد يعتذر وقد يؤكد على ما فعل، قد يعتقه الجلاد، وقد ينتقم منه ما طال عمر المنطقة المسماة بالخضراء، لكن بكل الأحوال، سيبقى حذاء الزيدي بوصفه أول عقوبة رمزية وجدانية من مواطن عراقي لمجرم تسبب في قتل أكثر من مليون عراقي وتشريد أكثر من ثلاثة ملايين وهدم البنية التحتية في مناطق الأكثرية العربية في العراق..

———————————————

البديل المصرية 26/12/2008