يعني الانتشار الأفقي للعولمة النيوليبرالية فيما يعنيه، تعدد اللاعبين وسيطرة الرأسمال المالي على جملة السياسات والخيارات الاقتصادية. وكونها غير قادرة، بنيويا ووظيفيا، على توفير الحد الأدنى من التكافؤ بين المندمجين في المنظومة العالمية، فهي تخلق تفاوتا كبيرا في الثروات بين مراكز قوتها والمكونات الأضعف فيها. الأمر الذي يُفقد كلمة التنمية في البلدان الأفقر معناها ومبناها. ويحكم أيضا بالضرورة، على عربة النمو الاقتصادي العالمي بالتباطؤ.
ربطت المؤسسات المالية الدولية الأطراف الهشة بمساعداتها، الأمر الذي زاد الديون العامة وأصل التبعية، هذه التبعية، كما يؤكد أهم الاقتصاديين الغربيين أنفسهم، “زادت النشاط النقدي، وجعلت البنوك المركزية تضخ الأموال في السوق عن طريق شراء الأصول كسندات أو أسهم، للحفاظ على وتيرة التوسع العالمي ضمن منطق تنبه له الشيخ عبد الله العلايلي قبل ستين عاما: (نقد ـ محاصيل ـ نقد)، “أي الرأسمال المالي على حساب الرأسمال الإنساني”. وخلال عقود، لم يتوقف أحد من صناع القرار الاقتصادي عند النتائج الكارثية لهذه السيرورة.
في البلدان التي دفعت الثمن مبكرا لعملية البناء العولمي، قامت محاولات عدة لمواجهة “بلدوزر” دهس الطاقات والإمكانيات البشرية والبيئية للبلدان التي حكمت عليها المنظومة بالمبدأ العسكري: نفذ ولا تعترض. وليس من الصعب إلصاق تهمة الشيوعية، الإرهاب الإسلامي، الدكتاتورية، والدفاع عن الديمقراطية في كل مرة يتدخل فيها الغرب لمواجهة محاولات الاحتجاج أو الانعتاق من هذه المنظومة. ولعل من المفيد التذكير بإحدى محاولات “التمرد” ونهايتها المأساوية:
أتت حركة الضباط التقدميين في بوركينافاسو (فولتا العليا)، واحدة من أهم أشكال المقاومة العملية في القارة الإفريقية. حيث قاد الضابط توماس سانكارا عملية المقاومة للتبعية الفائقة للمنظمات المالية الدولية والسياسة الاستعمارية الجديدة لفرنسا. سعى سانكارا منذ حركة الضباط التقدميين في 1983 إلى تطوير اقتصاد محلي لا يعتمد على المساعدات الخارجية، التي اعتبرها تحويلا لإفريقيا إلى متسول للمساعدات الغذائية ومنتجا لاحتياجات السوق الغربية أولا. “كل من يعطيك الغذاء يملي رغباته عليك ويراكم الديون على الاقتصاد الوطني”. حظرت حكومة سانكارا استيراد الفاكهة والخضروات لتشجيع التجار على الحصول على الإمدادات من مناطق الإنتاج الواقعة في جنوب غرب بوركينا فاسو؛ وبفضل ذلك تم بناء قنوات توزيع جديدة وسلسلة متاجر وطنية. وسمحت سجلات الإنجاز الموحدة للموظفين بشراء المنتجات من أماكن عملهم.
وضع سانكارا قضية الديون الخارجية الموروثة من حقب سابقة على الطاولة وانطلق في سياسة انتاج محلية تحمي البيئة وتواجه التصحر قائمة على ما أسماه المجلس الوطني للثورة في 1985 “النضالات الثلاثة”: إنهاء قطع الأشجار التعسفي وحملة توعية بشأن استخدام الغاز، ووقف حرائق الغابات، وإنهاء الحيوانات المتجولة. في 1986 أعلن المقرر الخاص المعني بالحق في الغذاء للأمم المتحدة: “لقد غزا سانكارا الجوع: جعل بوركينا، في غضون أربع سنوات، مكتفية ذاتيًا من الغذاء”.
في قمة الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا 1987 طالب سانكارا بإلغاء الديون على القارة الإفريقية متنبئا بثمن سياساته: “إذا رفضت بوركينا فاسو وحدها دفع الديون التي تكبّل تقدمها، فإنني لن أكون بينكم في الاجتماع القادم”. اغتيل سانكارا في 15 أكتوبر 1987 مع ثلاثة عشر من المسؤولين والحرس، وأعلن الإنقلابيون وفاته “بشكل طبيعي”، ورغم الحكم على الجناة الذين تسلموا السلطة بعده بعد ربع قرن، لم يسلّم من تبقى منهم على قيد الحياة للعدالة حتى تاريخ كتابة هذه الأسطر.
صوتت الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان ضد إعلان الحق في التنمية، وحاربتنا وتحاربنا إلى اليوم للحؤول دون إصدار ميثاق دولي ملزم لهذا الحق، يمكن أن يخفف من معاناة أغلبية المعذبين في الأرض اليوم.
ولا تعدم الأمثلة، فوراء إسقاط حكومة أليندي في تشيلي، يتناسى الكثيرون أن بينوشيه قد أقر أكثر القرارات الاقتصادية النيو ليبرالية لتأقلم البلاد مع المنظومة العالمية. ومن منا لايعرف بأن الدكتاتورية العسكرية في ميانمار “صامدة”، رغم جرائمها ضد الإنسانية، لأن هناك شركة نفطية متعددة الجنسيات تحمي العسكر للحفاظ على امتيازاتها النفطية.
رغم أن سقوط معسكر وارسو، قد وضع حدا لاتهام كل من يعارض المنظومة العالمية بالشيوعية، فقد تمكنت هذه المنظومة، من تهميش فاكلاف هافيل وأمثاله ممن أرادوا ربط دولة القانون بحقوق المواطنة الأساسية وجعلت من الأوليغارشيات المالية وريثا للسلطتين السياسية والاقتصادية، أما في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، فتصفعنا عشرات الأمثلة التي واجهت فيها المنظومة العالمية المقاومة المدنية والشعبية وسعت لتحويل مساراتها من محاولات انعتاق من إسار السوق والتبعية إلى حروب أهلية دموية تخرجها من التاريخ والجغرافيا. سأل المحرر السياسي في LCI إحدى الدكاكين الإعلامية للعولمة النيو ليبرالية ضيفه الخبير في الصراعات الجيو سياسية: “لا أفهم لماذا لا يتعاطف الأفارقة مع المقاومة الأوكرانية”؟ فأجابه: أعطني سببا واحدا للتعاطف مع الناتو بعد أوجاع العراق وأفغانستان والجوع الإفريقي؟؟
على الصعيد السياسي، نجحت التيارات القومية والأطلسية في إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب “دونالد ترامب”، ثم استبداله بالموضة القديمة old fashion للحزب الديمقراطي. ونجحت الولايات المتحدة بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في إعادة أوربة للحظيرة الأطلسية. ظهرت أحزاب سياسية جديدة في أوروبا، معظمها من اليمين القومي المتطرف، ومع تآكل الأحزاب التقليدية يسارا ويمينا بدأت في تعطيل الأحزاب التقليدية والعملية السياسية. ارتفع معدل تذبذب الناخبين وارتفعت نسبة العاكفين عن المشاركة مع اللا مبالاة تجاه الأحزاب السياسية والنقابات الراسخة وانعدام الثقة في السياسة إلى مستويات لم نشهدها منذ الحرب العالمية الثانية.
وعلى نحو خطير، تبدو الديمقراطية، كما يقول مايكل سوليفان، كخيار سياسي وكأنها بلغت ذروتها؛ حيث تتجه الآن المزيد من الدول نحو الحكم من قبل قيادات شعبوية تعتبر دغدغة المشاعر العامة استراتيجية مفضلة للحكم، ويمكن القول بكل أسف، أن الديمقراطية لم تعد، في البلدان التي كانت ضحية “الديمقراطية الغربية” في السوق والحروب، لم تعد جزءًا لا غنى عنه من خارطة طريق التقدم والتنمية في ظل هذا الوضع الضبابي السائد.
إن سياسة “المنظومة العالمية السائدة دائما على حق” جعلتها تخرج من منطق العقلانية السياسية والاقتصادية والمرجعية الحقوق إنسانية..
ماهي الدروس التي استخلصت من أزمة 2008 الاقتصادية؟ هل يتحدث أحد من صناع القرار الغربيين عن ضرورة المراجعة أو الإصلاح؟
عندما تتراجع العين البصيرة عن رؤية نقاط الخلل في أية منظومة، فهي لا تفقد بريقها وحسب، بل وقدرتها على الإستمرار.
عندما أطلق الشاعر المصري جورج حنين تحذيره في 1968 من استعمال الدول الغربية للاستفتاء كأداة مثالية في مجالي الاختيار والقرار الشعبيين، وحذر من أن هذا الأسلوب يفترض في فذلكات الصياغة السياسية أن تضمن دون كبير خطر، جّر جمهور الناخبين لاعتماد الخيار المبسط القائم على الحسم بـ “نعم” أو “لا” . مُنوها: “على أية حال ليس بدون سبب أخذ الاستفتاء مكان الصدارة في أكثر البلدان بعدا عن الديمقراطية”.(الإمعان في حقوق الإنسان ج1ص267). اعتبر كلامه هرطقة. قاد الاستفتاء إلى رفض النرويج الدخول في الاتحاد الأوربي، وخروج بريطانيا منه، ولم يبتكر الاتحاد الروسي شيئا جديدا في استفتاء “القرم” في 2014. كيف يمكن لهؤلاء اعتبار “الاستفتاء” على الدستور في تونس، ممارسة غير ديمقراطية وهم يمارسونها دون تنقيح (على الطريقة السويسرية) أو مراجعة؟
صوتت الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان ضد إعلان الحق في التنمية، وحاربتنا وتحاربنا إلى اليوم للحؤول دون إصدار ميثاق دولي ملزم لهذا الحق، يمكن أن يخفف من معاناة أغلبية المعذبين في الأرض اليوم.
في 31 ديسمبر 2020، قدمت الأمم المتحدة مشروع قانون يدعو إلى اتخاذ إجراءات عالمية ضد العنصرية والتمييز، صوتت 106 دولة من أصل 193 لصالح هذا القرار. وصوتت 14 دولة أخرى ضدها بينما امتنعت 44 دولة عن التصويت. أما الباقون ، البالغ عددهم 29 ، فلا يحق لهم التصويت، يلاحظ أن جميع الدول التي امتنعت عن التصويت، البالغ عددها 44، في أوروبا. أما “الأبطال” الذين صوتوا (لا)، فهم: الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وكندا وإسرائيل وفرنسا وألمانيا وهولندا؟
عندما تتراجع العين البصيرة عن رؤية نقاط الخلل في أي منظومة، فهي لا تفقد بريقها وحسب، بل وقدرتها على الاستمرار.
*مفكر وحقوقي