عندما هلت البشائر من حوران
1ــ كيف يمكن قراءة ما يحدث في سوريا على ضوء تضارب الروايات التي تعبّر عن الحدث، وهل تعتقد أن الحكومة السورية جادة في وعودها بالإصلاحات؟ و ماهي برأيك اسباب و افاق انتفاضة الجماهير في سوريا؟
– حقيقة أفهم تعبير “تضارب الروايات”. أدعي بأنني تابعت بتفاصيل دقيقة الثورة التونسية ومن بعدها المصرية والليبية وبشكل أقل اليمنية إضافة إلى انتفاضة البحرين. باستثناء البحرين حيث ثمة كذب صراح وتجييش مذهبي مسبق، كانت الصورة التي يعرضها الإعلام عما يحدث قريبة من الواقع. في المثل السوري ثمة أزمة حقيقية. بداية التحرك الإعلامي كانت قبل سقوط الفرعون في مصر، وكانت من مجموعات محدودة التأثير وخارج البلاد ولتاريخ في ذاته يشكل جرحا وطنيا متعدد القراءات(4 و5 شباط). ثم حدد على الفيسبوك يوما ثانيا (15 آذار) وكان الإعلان عن نجاحه أيضا إعلاميا وليس على أرض الواقع بما في ذلك ادعاء صحيفة لندنية بوجود مظاهرات واسعة لم تحدث وشهداء لم يسقطوا. عندما وقعت الإنتفاضة الفعلية من دم ولحم في 18 آذار، توجه الإعلاميون، الذي ثبت محدودية وضعف معرفتهم بالوضع السوري، إلى من كان قد أعلن الثورة على الفيسبوك. وهؤلاء لا علاقة لهم بانتفاضة الكرامة التي بدأت في يوم لم يعلنوا عنه، وتداعت إليه شبيبة درعا الحرة بمبادرة محلية وأيدها وانخرط فيها حركة غير معروفة آنذاك هي “حركة شباب 17 نيسان للتغيير الديمقراطي” وما صار يعرف بأصحاب “بيان من أجل التغيير” الذين يتهمهم رستم غزالي زورا بأنهم من نظم الأمور (أقصد خلدون الأسود وناصر الغزالي وماجد حبو وهيثم مناع ومن أيدهم من شباب درعا وسورية). الشباب الذين نجحوا في كسر طوق أمني رهيب هم من يعرف درعا زنقة زنقة، لأنهم على دراجاتهم النارية القديمة يجولونها كل يوم عشرات المرات. أجهزة الأمن فقدت صوابها من شباب يتداعون للتظاهر بكل الوسائل الحضارية، يصرخون سلمية سلمية ويتحدثون في الحرية ويدينون رامي الحرامي والفساد. هذه المجموعات الجديدة غير المؤرشفة في سجلات المخابرات صارت على الفور في خطاب السلطة مؤامرة وعصابات منظمة ثم جند الشام ثم ماسونية.. لم أسمع في حياتي تهما دنيئة الأسلوب ووضيعة المستوى كتلك التي استعملها الإعلام السوري وأسياده في نخبة شباب سورية والمنطقة، هؤلاء الذين كسروا هالة الدكتاتورية وحطموا صورة الأمن الكلي القدرة. طبعا في الخارج كل تجار البؤس صاروا يتحدثون عن هؤلاء وكأنهم “جماعتهم” وبعض المرتزقة الجدد وجد في انتفاضة الكرامة ما يخرجه من النسيان أو الذل الذي أوصل نفسه إليه بالتسكع على أبواب اليمين المتطرف الأمريكي أو الترزق والتمول من الخارج. هؤلاء استفادت منهم السلطة السورية لتشوه سمعة انتفاضة الكرامة فربطتها بالفاسد خدام والمجرم رفعت الأسد أو أسماء طفيلية لا علاقة لها بما يحدث من قريب أو بعيد. وللأسف هنا ارتكبت بعض الفضائيات أخطاء حتى لا نقول أكثر من ذلك شوهت فيها الكثير من الوقائع. لديك من التشويه والتزوير ما هو متعب لأي مراقب، الأمر الذي جعل المبدأ الساري في التعاطي مع ثوار الحرية الشباب (كعور واعطي الأعور)، وباللهجة الشامية (لا تدقق!!)
لكن لا تجعلني بالسؤال ابتعد عن الأسطورة التي يسجلها الشباب في ملحمة ثورية لم تعرفها سورية في تاريخها الحديث أو القديم، قبل قليل وضعت خيمتان في ساحة السرايا في درعا للإعتصام، الشباب ينظمون المرور، يحمون المجمع الحكومي خوفا من اعتداء عناصر الأمن عليه، أمام الجامع العمري عشرات الآلاف تحتفل بالحرية، إفرج عن معن العودات فتوجه من فرع الأمن العسكري إلى ساحة العمري حتى لا تضيع عليه هذه اللحظة التاريخية بدون حمام أو حلاقة أو تغيير ملابس، الشباب يعيشون في التاريخ: كل إنسان ضروري، لكلٍ دوره، عجينة وطنية متكاملة متجانسة.. وحوران تعيش عرس المواطنة لتنير غد مختلف وتحتفل باضمام 16 مدينة سورية لموكب الكرامة. هاهي بعد شهر من القتل والقمع تمارس حقا مكتسبا اسمه حق التظاهر بدون رصاص حي أو أمن أو شرطة..
2ــ تركز دائما على تعبير المدنية، المقاومة المدنية، الدولة المدنية، المجتمع المدني وتتجنب العلمانية كمفهوم سبق وكتبت حوله الكثير قبل عشرين عاما. العلمانية كما نلاحظ مفهوم مشوّه ومقتضب في تعبيرهِ عن واقع الدستور والقوانين السورية، هل يمكن للمرء أن يتجنب هذا المفهوم ويكتفي بتعيبر المدنية مهما كانت الأسباب خاصة في مرحلة انتقالية حاسمة في تاريخ سورية والمنطقة، وهل بالإمكان استنباط تعريف دقيق للمفهوم في ظل ترنّح القانون السوري بين الدين والعلمانية؟ وفي ضوء ذلك كيف تقييم مواقف الاسلام السياسي السوري؟
رغم حفظي القرآن والقراءات الإسلامية الكثيرة لي، أنا ابن مدرسة علمانية ديمقراطية استلهمت من المدارس الماركسية النقدية الكثير من أجل فهم التاريخ والواقع. ولعل كتاب “تحديات التنوير” يكثف علاقتي الاستنباطية بعلمانية عربية. فمثلما يوجد تفاوت واختلاف بين العلمانية المناضلة الفرنسية والعلمانية البراغماتية الإنجليزية يوجد بالضرورة أنموذج علماني ديمقراطي لم يترجم بعد في أرض الواقع ولو أن سلطان باشا الأطرش وزعماء الثورة السورية اعتبروه العنصر الجامع للسوريين قبل 86 عاما. اعتبر المدنية نقطة التقاء بين تيارين مؤهلين لدور سياسي هام في الخارطة المجتمعية، الأول هو التيار العلماني الديمقراطي والثاني الإصلاح الإسلامي. الحوار والتفاعل بين هذين التيارين جرت عملية محاصرته مع صعود تيار سلفي استئصالي يحدثنا بحقوق الكفرة والرافضة والمنافقين والمنحرفين. الحرب على الإرهاب عززت هذا التيار إلا أن من الصعب لمن يجدف عكس التاريخ والإنسانية أن يستمر كثيرا في مشروعه. الثورات العربية اليوم تعيد النقاش إلى مواقعه الطبيعية ونشعر بمن يحمل خطاب الأمس متخلفا عن الشباب الجديد. في حركة الإنسان كان لتواجد التيارين الإصلاحي والعلماني دورا مركزيا في تعزيز ثقافة حقوق الإنسان في المجتمع. أما على صعيد الدولة والإيديولوجيا فقد دفعت العلمانية الديمقراطية ثمنا باهظا لتشويه الدولة صورتها وخوض الإيديولوجية الدينية الصراع معها بشكل ينطبق عليه المثل الفرنسي (إلى الحرب كما يجب أن يذهب المرء إلى الحرب) بتعبير آخر، كل الوسائل مشروعة. السلطة السورية كمجاورتها العراقية في حقبة صدام حسين، لها مقاربة انتقائية للعلمانية، وكلمة انتقائية جد مؤدبة. وقد وصفها واقع حالها صديق ماركسي سوري وهو يتمتم أغنية فيروز: “زوروني كل سنة مرة حرام تنسوني بالمرة”. ولا أظن أن القوانين والممارسات السورية نقطة انطلاق سليمة لأي تعريف للعلمانية. أما بالنسبة للحركة السياسية الإسلامية السورية، فقد حققت إنجازات في بعض المواضيع ولكنها تأخرت كثيرا في مواضيع جمة. مشكلتها أنها حركة منفى، وفي المنفى لا يوجد لا ثقافة نقابية ولا تفاعلات مدنية، لذا لا يوجد عمق في الأطروحات وتبقى أسيرة تكتيكات الأوضاع والمصالح. وفي الحقيقة تجربتي معها كانت مرة ومريرة، بعضها هرول لحضن خدام بأسرع من الريح وبعضها الآخر هرول لحضن المساعدات المالية الغربية بشكل مشين ومخجل. وإعادة بناء الثقة مع المجتمع تحتاج لوقت، أتمنى أن تتكفل انتفاضة الكرامة بتقصير المسافات عبر عملية غسل الدم الضرورية لكل الرعيل القديم في المعارضة السورية علمانية وإسلامية.
3 ـ كيف تقييم مواقف الأحزاب اليسارية والتقدمية على الساحة السورية من الأحداث الأخيرة، المعارضة منها وكذلك المنضوية تحت تحالف جبهوي مع النظام الحاكم؟
– بصراحة ينطبق على أحزاب السلطة تعبير ماركس، هم دون مستوى النقد لأنهم وراء التاريخ والأحداث والنقد. بالنسبة للمعارضة الأمر يختلف: اليسار بشكل عام وخليطة إعلان دمشق والتجمع الوطني الديمقراطي وتيم وصلت متأخرة جدا. والسبب أنهم تضعضعوا في السنوات الأخيرة وصمتوا عن أشياء كثيرة لا يمكن الصمت عنها باسم فكرة “الجبهة الواسعة” أو في محاولات إعادة البناء. كانوا بحاجة لشباب أو تحالفات توسع الدائرة التقليدية للنضال، لم ينجحوا في ذلك، والأنكى من ذلك أن الحركة الشبابية لا تريد أن تنسب تضحياتها لهم أو أن تنضوي في خيمة أي منهم.
4 ــ هناك أزمة ثقة واضحة بين النظام والجماهير التي كسرت حاجز الخوف وتطالب الان باصلاح النظام وبل واسقاطه ، ويشكك الكثيرون بالمسيرات المؤيدة للنظام الحاكم لأنها تخرج بالإكراه وكذلك لأنها لم تعد تنطلي على أغلب المتتبعين للحدث، هل يمكن إعادة الثقة بين الجماهير والنظام بعد ما حدث من قمع وحشي وعنف مفرط ؟
– أصبحت قصة مسيرات تأييد السلطة ممجوجة وبائسة. في المقابل، نحن أمام عشرات آلاف الشباب الذين ينخرطون في العمل العام منذ بداية العام، هؤلاء نجحوا في شهر من نزع تعريف الشرعية من أجهزة السلطة. الثقة ماتت بين جمهور واسع يمثل الأغلبية اليوم والسلطة. لكن التاريخ لا يتلخص في عملية ترقيع حذاء أو تغييره. السؤال الأساسي برأيي كيف يمكن ضمان نقل مستوى الوعي المتراكم في درعا مع غيرها من المدن السورية التي لم تتحرك بعد بشكل واسع حتى تكون القطيعة التامة مع نظام التسلط ومنظومة الفساد ممكنة. هنا لا تقف القضية عند الشعارات بل تتعداها للتصور الجماعي لنمط التحول الديمقراطي المنبثق من الحركة الاجتماعية نفسها.
5 ــ تعتقد الحكومة السورية أنها مُستَهدفة لمواقفها – المقاومة للإمبريالية – ، هل يمثل دعم حزب الله وحماس وإحتضان بقايا البعث العراقي والإنتماء للمعسكر الايراني نموذج لمقاومة الإمبريالية أم أنها معادلة إقليمية تعتقد أنها تؤثر من خلالها في المنطقة وتعزز من نفوذها.
– الحكومة مستهدفة بالعقوبات الاقتصادية على سورية وبعض العقوبات لأشخاص قياديين في السلطة الحالية، وفي حقبة التصحر العربية كان بالإمكان حتى لمثقفين عرب مثل عزمي بشارة أن يتكلموا في ممانعة أو غير ذلك. لكن الحركة الثورية اليوم تجعل من هذه القصة مهزلة فكرية وسياسية مكانها الأنسب القمامة. لأن الشباب الثائر مستهدف أكثر بكثير من كل أوساط الهيمنة والسيطرة الحالية للعالم، لأنها تحمل مشروعا للتغيير يشكل قبرا لكل العنصريات وأشكال الإحتلال والدكتاتوريات بآن. الوضع الثوري في العالم العربي سيقضي على فكرة الوطنية التسلطية نهائيا لينقل الشرعية للشعب، أي ليؤصل للعلاقة العضوية بين الأمن الوطني والأمن المواطني، بين كرامة الإنسان وحقوق الشعوب.
اجرى الحوار: فواز فرحان
الحوار المتمدن