مايو 03, 2024

سفر التسامح

تقديم سفر التسامح

في كتابه “فصوص الحكم”، يضع ابن عربي قاعدة في غاية الأهمية لحق الحياة أولا وأولوية التعاطي مع علاقة الإنسان بالإنسان على موقف الإنسان من الله. حيث يقول:

  • “إعلم أن النشأة الإنسانية بكمالها روحا وجسما ونفسا خلقها الله على صورته، فلا يتولى حل نظامها إلا من خلقها”.
  • أعلم أن الشفقة على عباد الله أحق بالرعاية من الغيرة في الله”.

لم تتوصل مدارس الإصلاح الديني الغربية لما يقول ابن عربي لبعد قرون… إلا أن الناطقين بالعربية لم يتوقفوا عند حكمته يوما.

فقد كرر ابن عربي في مؤلفاته أن ما يسميه “الغيرة في الله”، هي تعبير عن الدخول في سوق المزاودات والتكفير في وضع لا يحتاج فيه رب العالمين القادر القهار لمن يتولى مهمة الدفاع عنه، خاصة وإن كان ذلك من مخلوق لخالق ومن ناقص لكامل. لهذا لن تشكل فكرة “أنصار الله” و “حزب الله” و “حراس الدين” إلا مصادرة للحق من أجل سلطان في الدنيا.

لعل المفكر فولتير كان أول من أمسك بفكرة ابن عربي في عصر التنوير، يذّكر هيثم مناع في كتابه “سفر التسامح” بالنقلة الكبيرة لهذا الحكيم، يقول:

“لست على يقين من أن فولتير Voltaire في عام 1741 قد تعدى في مفهومه للتسامح نظراءه من فلاسفة وأدباء التنوير. فعلى شاكلتهم، كان يمرر أفكاره عبر نقد الآخر، معتمدا منهج “براعة نقد الغريب لتفكيك منطق القريب”، سواء كان الحديث عن همجية العبرانيين القدامى أو في كتابه «التعصب أو محمد النبي». وفي عشرين عاما تمكن الحكيم الكبير من الانتقال، من تشريح “التعصب” عند الآخرين إلى تشريحه في صلب ثقافته المسيحية. بعد أن تبين له أن العقار المُقدّم للجار، يحتاجه أهل الدار. وبذلك تمكن، ذاتيا على الأقل، من الانتقال إلى العالمية الضرورية لتحطيم أركان “الطاعون المذهبي”، دينيا كان أو علمانيا، دون حدود، معتمدا بأمانة نادرة، المساءلة والتسامح منهجا في وجه اليقينيات التي يختبئ البشر خلفها للربط بين إرادة المعرفة وإرادة السلطة. أي ضرورة مباشرة تحطيم أحادية الحقيقة والمقدس والتفوق الإيديولوجي، هذا الثلاثي الضروري للعنف “الثوري” أو “المقدس”.

لنتأمل هذه النقلة في صرخته الوجدانية (رسالة في التسامح):

“أقولها مستفظعا، وإنما بصدق، نحن المسيحيون، من مارس الاضطهاد، نحن كنا الجلادين والقتلة! ومن قتلنا؟ إخواننا. نحن من دمّر مئة مدينة، رافعين في أيدينا الصليب والكتاب المقدس، نحن الذين لم نكف عن سفك الدماء وعن إشعال نار المحارق، منذ عهد قسطنطين وحتى نوبات جنون آكلي لحوم البشر المقيمين في جبال السيفين التي لم تعد تتكرر اليوم والحمد لله”.”.

وفي نقد مباشر للثورة الفرنسية يكتب: “باستثناء اللحظة التاريخية التي وضعت عقدا اجتماعيا لكل الفرنسيين (إعلان حقوق الإنسان والمواطن-1789م)، تثبتت فيه المساواة في الحقوق وحظر التعرض لأحد لما يبديه من أفكار حتى في المسائل الدينية واعتبار حرية نشر الأفكار والآراء حق من حقوق كل إنسان (المادتان 10 و11)، كان من الصعب على الثوار قبول “النقد الثوري” وجلّ همهم التأسيس لعقيدة ثورية لا تقبل التسامح والمساءلة، أي التواضع وغياب الجزم والحسم. لذا لم يكن من الغريب أن تأكل الثورة رجالاتها، وأن يخلص الأمر إلى نظام إمبراطوري يحل محل الجمهورية”.

ينتقل مناع من الغرب إلى الشرق ليذكر بالملامح الأساسية لاغتيال التسامح ودخول عصر الظلمات بعد نهضة المشرق قبل ألف عام:

” في تحليل أمين لخمسة قرون من تاريخ العرب والمسلمين، كثّف الشهرستاني إشكالية الإسلام والسلطان بالقول: “وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سلّ على الإمامة في كل زمان” (4).

منذ “الفتنة الكبرى”، أصبح السيف الحاكم والحكم في الصراعات السياسية الداخلية بين المسلمين. ومنذ صرخة “لا حكم إلا لله”، الخارجية، وعسكرة الصراع على السلطة، تسللت “آية السيف” في الوعي السياسي باعتبارها المقرر العملي للخلافة “الشرعية”، وبالتالي تقرير اسم ووسم ومواصفات الفرقة المنصورة أو الناجية، والتي هي بالضرورة فرقة الحاكم.

لم تنجح النهضة الثقافية والفكرية المدنية، منذ الحسن البصري إلى ابن رشد، في أخذ المكان الذي تستحق في المجتمع والدولة. وإن تسامح أنموذج الخلافة في حقبة صعوده، في جعل تعدد التيارات وتعدد الرؤى وتقدّم العلوم على اختلافها سمة تاريخية له. إلا أنه لم يستطع تجاوز الخطيئة الأصلية باعتبار مذهب الحاكم مذهب الأمة. زرعت المحنة الحنبلية الأجواء المناسبة لمحنة المعتزلة، وانتهى عصر “السماح الفكري” برسم جدران “العقيدة” منذ الاعتقاد القادري (1018م-409ه) الذي يبدأ بجملة: “إن هذا اعتقاد المسلمين ومن خالفه فقد فسق وكفر”(5). أغلقت العقول وجفت الصحف، ولم يعد للاجتهاد وإعمال الفكر من مكان مع انغلاق المذاهب الخمسة على نفسها وعلى العامة، بعد قرون خمسة على رسالة الإسلام.

كانت هذه سمات الحقبة التي عاش فيها ابن تيمية، فتفنن في فتاوى التكفير، وتحديد معالم الولاء والبراء في العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، وواجب استئصال الفرق الضالة بالقتل أو النفي، ومنح القداسة لفرقته “الناجية”. ونصّب بذلك من البعض شيخا للإسلام”.

ثم يتناول الربط بين القادرية وابن تيمية ومدارس الإخوان والجهادية المعاصرة، والنتائج الكارثية لذلك ملخصا لها بالقول:

“في وضع تعممت فيه حالات التسمم بمخدّر السلطة، وأعمى السلطان فيه عيون القامع، وسقطت قطاعات مقموعة في وحل الحقد المذهبي وثارات الماضي والحاضر، وفكفكت فيه البنادق الجماعات والمجتمعات، وأصبح التوحش استراتيجية لدول كبرى وجماعات إرهابية صعلوكة، في زمن ينصب العنف الأعمى ثورة، والثورة حالة نكوص نفسي وانتقامي، تصبح الحاجة لثقافة التسامح أكثر من ضرورة وجودية، للدفاع عما تبقى لنا من إنسانيتنا”.

في هذا الكتاب، ثمة تناول نقدي لتاريخ الفكرة “التسامح” وقوة حضورها، في مراجعة أنثروبولوجية نفسية لفكرة التسامح، ومقاربة حقوقية تربط بين التسامح كفكرة وجودية سامية ومعطيات قانونية وحقوقية ملموسة تخرجها من المثال إلى الحياة اليومية. وهو يتناول فكرة نفسية اجتماعية جديدة حول “الشخصية المتسامحة” ويتعرض لكل مدارس نقد التسامح في قراءة جديدة تحرص على أن يكون التسامح من أهم وسائل النضال ضد الطاعون المذهبي والعنف الأعمى واستلاب الأفراد والجماعات.

سفر التسامح

الطبعة الأولى سبتمبر 2019

بيسان للنشر والتوزيع – بيروت

فصول الكتاب

مدخل لا بد منه. 2

عودة إلى المشرق. 4

الإسلام دين لا إيديولوجية؟. 5

عالمية التسامح. 9

العنف والتسامح. 12

في النفس والمجتمع. 17

التسامح والإسلاموفوبيا 19

بناء الشخصية المتسامحة. 24

في نقد التسامح. 29

الخطيئة الأصلية! 30

البعد الأخلاقي والبعد القانوني-السياسي. 34

الديمقراطية التعددية والتسامح. 47

الدين والتسامح. 59

التسامح في التربية والتعليم 74

بصائر وذخائر. 87

إعلان مبادئ بشأن التسامح. 116

وثيقة الأخوة الإنسانية  122