استوقفني مقال الهوية والنقاب للكاتبة كريمة كمال في “البديل”(26/10/2008)، الذي طرح الإشكالية، عبر حادثة توظيف جنائية كان النقاب وسيلتها، مقالة استعرضت أيضا المترتبات الأمنية في المؤسسات والجامعات والمستشفيات لتوظيفه لمآرب أخرى. ولعل من مكر التاريخ أن ننتظر نصّابا يرتدي النقاب ويخطف طفلا لنتمكن من طرح قضية طمس الهوية الشخصية بصراحة وأمانة.
كنت قد طرحت الموضوع قبل عامين في مقالة (مسلمات أوربة بين النقاب والحجاب والحشمة) بعد أن صار النقاب، ليس فقط عدوا للتواجد الطبيعي للمرأة المسلمة في الأماكن العامة والمهنة والدراسة في بلدان أوربية سمحت بالحجاب، بل مؤجج مشاكل حقيقية لصاحبات ما يعرف بالحجاب الشرعي. حيث أكد كل أعداء الحجاب على أن “المعركة إذن ليست مع فرض ديني، وإنما مع تقليد محلي يطبقه كل واحد على طريقته ويسمي رجال الدين كل ذلك فرضا يريدون به استعباد النساء”(من بيان لمنظمة متضامنات النسائية). وأذكر أن الردود على ما كتبت يومها، كتعليق أو رسائل الكترونية مباشرة، تجاوزت المئتين وتراوحت بين شكر من قلة وذم من كثرة، بل وتكفير وشتم واتهام بالإباحية والإلحاد. ولم يمتنع أحدهم من الكتابة: “هل تريد أن تنزع المسلمة نقابها لكي يرضى عنك اليهود والنصارى، الجواب: لن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم”. وكتب آخر “يا حساد موتوا بغيضكم”.
وقد تابعت يومها ردود فعل عدد من الإسلاميين على النقاش الدائر حول النقاب. وتبين لي أن نسبة المنقبات عند زوجات عدد من الإسلاميين الناشطين في الحق العام ليست قليلة. بل وأخبرني أحد القياديين بأن “نقاب الزوجة دليل على ورع الزوج”. بمعنى آخر توظيف النقاب في الرصيد السياسي والديني للزوج (بتعبير ديني في سجل حسنات الزوج وسيرته الأخلاقية)، رغم أن الغلو مرفوض ولا إجماع على النقاب حتى عند مشايخ القرن العاشر الميلادي. فكيف الحال في أوربة غير المسلمة في القرن الواحد والعشرين؟
من الموضوعات القليلة التي تم دراستها، حتى في الكتابات الغربية، وحاولنا التعريف بها منذ دراسة نشرتها “الدفاتر الطبية” لمنظمة العفو الدولية في إبريل 1993، نشوء وتكامل مفهوم الشخص. فإن كانت الحضارات القديمة قد عرفت التفريد في المسؤولية واكتشفت المعنى السلبي للحقوق (أي المعنى القائم على منح الحقوق لفئة على حساب أخرى: (الحر –العبد، الغريب-القريب، المرأة-الرجل، البالغ-القاصر، المواطن-البربري..)، فقد حمل عصر التنوير الأوربي فكرة الحقوق الطبيعية. أي أنه بخبث فكري محض، انتزع من الثقافي نظرته التمييزية للحقوق ليعيدها إليه بصيغة جديدة إيجابية تشكل قطيعة مع الماضي. يمكن أن تكون مسيحيا أو بوذيا أومسلما، ولكن بكل الأحوال التعريف الجامع للإنسانية هو الشخص، أي شخص (ابن آدم بوصف القرآن الكريم). ولهذا الشخص حقوق أساسية طبيعية مثل حق الملكية وحق الحرية وحق المساواة وحق المقاومة.
هذا الشخص لم يكن مجرد تعريف قانوني، بل ابن حركة شاملة في العلوم الإنسانية والتطبيقية. هو “الكوجيتو الذي استنبطه ديكارت، الذات المكونة للعالم في المدرسة المثالية، وفي علم النفس الموضوع الأوحد مواقف وتصرّفات، في التحليل النفسي مركز الاستنباط وفهم الظواهر البشرية، في علم الاجتماع جملة الوضعيات والأدوار ومنطلق ومركز العلاقات التي تشكّل المجتمع، في القانون موضوع الحقوق والواجبات، في السياسة المواطن والناخب، في علم الأنثروبولوجيا محور الدين والدولة والمجتمع، أما في اقتصاد السوق فالمنتج والمستهلك. ومن أهم معالم الوجود الشخصي حق الحياة الكريمة إنطلاقا من مربعها الأول: حماية الإنسان.
دخلت هذه المفاهيم بقوة في النقاشات الفكرية، بل والكتابات الأدبية، لتنتج مصطلحا حديثا بكل معنى الكلمة. مصطلحا غير موجود بهذا المضمون في أية حضارة سابقة، وغير مستنبط من أي فقيه مسلم أو يهودي أو مسيحي أو بوذي قبل ذلك. هذا المصطلح هو سلامة النفس والجسد..
هذه المركزية الدينامية والفاعلة حول مفهوم الشخص لم يكن لها أن تكتمل دون الخروج من السرية، أو من حالة الإغفال أو المجهول. بل لعل من أقوى أطروحات عصر التنوير ربط هذا “المجهول” بحالة القاصر. واعتبار عمانوئيل كنت التنوير في حد ذاته الخروج من حالة القاصر هذه.
في البرامج التعليمية، كما في الثقافة المتراكمة والرصيد الفني الهائل الذي قدمته أوربة للبشرية منذ أكثر من قرنين من الزمن، تأصلت فكرة التعامل مع الإنسان كوجه ومعالم وهوية متكاملة، تحمل قوة عمله الذهنية كما تعتمد قوة عمله اليدوية. وفي الحالتين يتم التمييز بين زيد وعمر، ليس فقط ببصمة الأصبع بل بالصورة الشخصية. وقد تطور ذلك لعلم النفس المورفولوجي الذي يحاول تحديد معالم الشخصية من صورة الوجه.
من المضحك، أن كل هذا التطور البشري الحاسم، يرد عليه البعض بعبارات من نمط “العزة في النقاب”، “من قال بغير النقاب فقد كفر”، وأخيرا عند بعض من تدرّب على الخطاب الأوربي “ألستم مع حرية الملبس؟”
ينسى هؤلاء أن هناك حركة اجتماعية ثقافية قوية وراسخة في أوربة والعالم ضد توظيف جسد المرأة في الدعاية وفي تجارة الجنس. وأن هناك حركة نسائية تدافع عن كرامة المرأة من مفهوم التشيؤ الرأسمالي الليبرالي واستلاب الجسد وتوظيفه. وهذه الحركات نفسها تقف ضد تحول المرأة إلى كتلة صماء متحركة، باسم دين كرّم بني آدم: نساءا ورجالا.
أود أن أقول بأن هذا الوصف سيجرح مشاعر عدد من النساء اللاتي أعرفهن جيدا ودافعت عنهن، بل وسافرت معهن كمحرم لغياب أزواجهن في السجن. لكن كان من الصعب أن أخفي عليهن أنني أعتبر هذا النقاب يمس مباشرة الهوية الشخصية باسم الهوية الجماعية الافتراضية. ففي الوجه السمات الفارقة للفرد، وفيه التنفس والنظر والمأكل. وغياب الوجه لا يغيّب وحسب هوية الشخص، بل يسمح بكل الحيل اللا أخلاقية في عالم ليست القيم فيه المحدد الأول للعلاقات بين الناس.
——————
مفكر وحقوقي عربي يعيش في باريس
البديل المصرية يصدر في 7 نوفمبر 2008