ديسمبر 06, 2024

الإعلان العالمي: ستون عاما مضت

hrdeclare شكلت الحرب العالمية الثانية الاختبار الأسوأ للحضارة الغربية باعتبارها أبرزت بقاء المدفع في أحشاء المصنع والجشع في زوايا السوق وعنجهية القوة في دماغ دولة القانون. لقد وصلت الفظاعة لمشاهد لم تعرفها أكثر المآسي البشرية بشاعة في المحتشدات العرقية والإيديولوجية وبيوت الأشباح وأروقة الموت والعنف المجاني. كان لا بد من قفزة نوعية تعيد الثقة بالكائن الإنساني وقدرته على التحرر من الوحش القابع في داخله منعا لإعادة إنتاج العنف الكامن. لإعداد مشروع نوعي وخاص، خصصت لجنة الصياغة 81 حصة ودرست 186 مقترحا بعد نقاشات معمقة شارك فيها 59 وفدا، جميعهم شركاء بدرجة أو بأخرى في الأبوة الفعلية للإعلان. كانوا جمعا من الرجال والنساء ينتمون لخليط من العقائد والتيارات الإيديولوجية والسياسية، تنوعوا بين نقابي وليبرالي واشتراكي ديمقراطي وشيوعي وأكاديمي وحقوقي ودبلوماسي.. تشكيلة تعكس لحد كبير خارطة العالم، قبل نهاية الاستعمار المباشر وفي ثنائية قطبية ارتسمت أولى معالمها.

جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وثيقة غير منجزة وغير كاملة. لكنه شكل نقطة الانطلاق لمغامرة الحقوق الإنسانية بدون حدود. أتى كوثيقة بشرية عالمية أخلاقية ورمزية قبل أي اعتبار آخر، اتفق عليها أبناء ثقافات وبلدان مختلفة. لم تكن هذه الوثيقة موضوع إجماع سياسي وفلسفي متساوي الحماسة. كانت على صعيد الفكر السياسي المعاصر، بل ولا تزال القاموس الأول للفكر السياسي الليبرالي. وذلك في غياب واضح للفكر الإسلامي وضمن تنازلات قدمها المعسكر الاشتراكي. هذا الإعلان العالمي، الذي لم يلزم الدول أصلا، أصبح اليوم المصدر الاشتراعي الدولي والدستوري المحلي لإصدار عدد من الأحكام الملزمة بالاستناد إليه وانطلاقا منه مع السعي لتفعيله بشكل أو بآخر.

بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بدأت  لجنة حقوق الإنسان أعمالها من أجل إبرام اتفاقيات خاصة بالحقوق التي تعرض عليها. فتبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 421 في ديسمبر 1950 والقاضي بصياغة عهد واحد للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية. ثم عادت الدول الغربية وضغطت باتجاه اعداد عهدين منفصلين:  الأول للحقوق السياسية والمدنية، والثاني للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. الأمر الذي جرى التصديق عليه بالقرار 543 في الخامس من فبراير 1952.

شكل صدور العهدين الخاصين بالحقوق الخمسة المشار لها في 1966 لحظة أساسية في انتقال مفهوم الحقوق من نظرة متأثرة بالغرب إلى أخرى أكثر توازنا وعالمية. فقد أثّر لهيب الحرب الباردة في إدخال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بقوة لخطاب ومواثيق حقوق الإنسان. وذلك على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تصدق على مواثيقها وإعلاناتها حتى اليوم. لقد أصبحت الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، بعد تناول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مرجعا هاما للفكر السياسي التقدمي والتحرري، باعتباره في صلب حقوق من مثل العمل والتعليم والضمان الصحي وتكافؤ الفرص والمساواة بين الشعوب وحقها في تقرير مصيرها..

لقد صدر في ستين عاما عن الأمم المتحدة والدول السامية الموقعة على اتفاقيات جنيف زهاء 130 وثيقة دولية معنية بحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. والسؤال : ماذا تحقق على صعيد البنية الفكرية الحقوقية أولا؟ هل امتلكت هذه الترسانة الحقوقية حمالات سياسية ومجتمعية أعطتها قيمة فعلية في حياة البشر؟ هل نحن اليوم في وضع يسمح بالحديث عن محرمات عالمية تحمي الأفراد والجماعات وتضمن لهم النواة الصلبة للحقوق والحريات؟

لا شك بأن مضمون حقوق الإنسان يختلف اليوم عنه قبل ستين عاما. إنه يقوم بتصور الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية (مؤتمر فيينا 1993) على اعتبار جميع حقوق الإنسان عالمية وغير قابلة للتجزئة ومترابطة ومتشابكة، ويجب على المجتمع الدولي أن يعامل حقوق الإنسان على نحو شامل وبطريقة منصفة ومتكافئة، وعلى قدم المساواة، وبنفس القدر من التركيز”.

هذا الأمر ترفضه عدة قوى عظمى كبرى. ذلك لأن سيرورة تقدم المواثيق الحقوق إنسانية لم تعد تخضع للدول المنتصرة في الحرب الكونية الثانية. وإن تناولنا موازين القوى في استعراض الأجيال الثلاثة لحقوق الإنسان خلال الستين عاما لوجدنا أن الإعلان العالمي كان انتصارا للآراء الغربية. في حين أعاد العهدان، بإقرارهما الحقوق الخمسة، نوعا من التوازن بين المعسكر البيروقراطي الاشتراكي والمعسكر الليبرالي الغربي. أما الجيل الثالث للحقوق، وبشكل خاص حق التنمية ومبدأ التضامن، فقد أعادا الاعتبار لهموم الجنوب والدول الفقيرة. في حين تشكل الحقوق البيئية اليوم همّا عالميا مشتركا. وبسبب انكفاء التجربة الاشتراكية الديمقراطية الأوربية على قارتها، لم تلعب حكوماتها دورا كبيرا في تبلور الصيغ والآليات العملية لترجمة مفهوم دول الرفاه أو أشكال ممارسة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتنموية على الصعيد العالمي، بحيث مازال أمامنا عدة أسئلة :

– هل هناك قابلية لترجمة قانونية متماسكة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ؟

– هل يمكن الخوض جديا في تصور شامل للحقوق الأساسية دون حركة توعية ثقافية تدخلها في الوعي الجماعي في المجتمع ، أي بتعبير آخر تخرجها من نطاق نخبوي ضيق ؟

– هل من واجبنا كحقوقيين طرح تصورات للترجمة السياسية لهذه الحقوق ؟

– هل يمكن تعزيز حق التنمية دون طرح مبدأ التضامن كحق وواجب، والحرب على الفساد والاستبداد كعنوانين لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ؟

– هل بالإمكان احترام حقوق البيئة دون سياسة دولية صارمة تجاه الشركات المتعددة الجنسية التي تعمل على تحطيم المحيط الطبيعي للإنسان خارج كل محاسبة ؟

– وأخيرا وليس آخرا، هل يسمح النظام العالمي السائد بتوفير الحد الأدنى من هذه الحقوق خارج الدول الغنية؟

لا شك بأن الإجابات على هذه الأسئلة تتطلب ليس فقط تعديلا في آليات وبرامج عمل مجلس حقوق الإنسان ومنظمات الأمم المتحدة وبرنامج الأولويات للمنظمات غير الحكومية، وإنما أيضا إعلان مواجهة مفتوحة على النظام الاقتصادي العالمي الجائر. هذا النظام الذي سمح بتبخر قرابة 25 ألف مليار دولار خلال ثلاثة أشهر، في وقت لم تتبرع الدول الغنية لحملة استمرت ثلاث سنوات بأكثر من 16 مليار دولار لمحاربة الجوع.

عندما احتفلت البشرية بالعيد الخمسين للإعلان، كان التقدم على صعيد الحقوق المدنية والسياسية ملموسا. كنا قد خرجنا للتو من إعلان روما للمحكمة الجنائية الدولية الذي شكل، رغم نقاط ضعفه، انتقالا من الوصف والقوننة والشجب والاستنكار إلى فرصة المحاسبة في الانتهاكات الجسيمة. تراجع التعذيب رغم بقائه في سجل 150 دولة بنسب متفاوتة وتقلص الاعتقال التعسفي بشكل ملحوظ. كما وضعت برامج وأهداف تشمل مواجهة الفقر واعتمدت سياسات تنهي الديون الثنائية على الدول الأقل نموا.

لقد طرحنا في اللجنة العربية لحقوق الإنسان على الصعيد الدولي مشروع اتفاقية لمنع ارتهان الشعوب بالحظر، وشاركنا في مشروع حول الأمن الإنساني (أن يكون الإنسان آمنا من الحاجة والخوف) تبنته الأمم المتحدة في ذكرى الألفية الثانية. كذلك خضنا في حوارات معمقة حول ضرورة التكامل بين حقوق الإنسان Human Rights  وحقوق الإنسانية Humanity Rights. أي الربط الدينامي بين الصورة الميكروئية للحقوق، التي تنطلق من الشخص والصورة الماكروئية للعالم، التي تستنطق المنظومات التي تحكم كوكبنا.

إلا أن أحداث 11 سبتمبر 2001 وما استدعته من حروب وحملات باسم محاربة الإرهاب، أتت لتشكل بكل المعاني الضربة الأكبر لحقوق الإنسان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فمن جهة، أبرزت قدرة الدولة الأقوى على وضع منجزات البشرية على كف عفريت. ومن جهة أخرى، لمسنا سهولة العدوى في انتشار الحالة الاستثنائية، أي مدى هشاشة وحداثة حقوق الإنسان في الوجود البشري. بحيث عاد التعذيب لمناطق كان قد اختفى منها، وبنيت سجون سرية في دول أوربية، ومناطق حرة للتعسف. كذلك صدر حوالي 30 قانونا لمكافحة الإرهاب ما كان منها سوى شلّ ما يتعلق بالحقوق والحريات في أكثر الدساتير عراقة. وبصفاقة عالية جرى تطبيق قاعدة ابن الست وابن الجارية في الملاحقة والمحاسبة. فيما همشت قضايا أساسية مثل محو الأشكال القصوى للفقر والمجاعة، تخفيض نسبة وفيات الأطفال وتمكينهم من الحصول على تعليم أساسي، محاربة الأمراض الفتاكة، تحقيق تنمية مستدامة محافظة على البيئة، وأخيرا تطوير سبل التعاون والشراكة من أجل التنمية في العالم في الأجندة العالمية، ضمن تراجع عام عن التزامات وممارسات تحترم الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. الأمر الذي يسمح بالقول اليوم، أن الحكومات والمؤسسات بين الحكومية والمنظمات غير الحكومية فشلت مجتمعة في التأثير على مشكلة التفاوت الهائل بين البلدان الفقيرة والغنية.

منذ 2001، نلاحظ تراجعا في دور الحركة الحقوقية في مواجهة المؤسسات المتعددة الجنسيات التي تمتعت بحماية أكبر من الدول الكبرى، بدعوى الأمن والمصلحة القومية العليا. لكن في الطرف المقابل، أثبت الفضاء غير الحكومي قدرته على دور الوسيط في ظل الأزمات والصراعات المسلحة وأعمال العنف وتحديد خسائر تعسف السلطتين السياسية والمالية. ويمكن القول بأمانة، أن الحركة الحقوقية الأصيلة قد تمترست في السنوات السبع العجاف الأخيرة  في مواقع الدفاع عن المكتسبات بانتظار لحظة استعادة المبادرة. خاصة وقد أثبتت عولمة حالة الطوارئ هشاشة وضعف آليات الدفاع عن الكائن الإنساني ومحيطه.

هذه المصائب تركت آثارا واضحة على الفضاء غير الحكومي الذي اهتز واضطرب، خاصة في البلدان التي مازال عوده فيها طريا. بحيث ارتبطت محدودية التزام الدول وخجل المنظمات بين الحكومية (كالأمم المتحدة أو الاتحاد الأوربي أو مجلس أوربة..) بالسؤال عن القدرات الفعلية للمجتمع المدني على الصعيد العالمي: ما هي الطاقة الفعلية التي تمتلكها المقاومة المدنية؟ هل هي حالة افتراضية تنتعش بالدعم الخارجي والتمويل وتتراجع بغيابه، أم هي جملة قدرات بشرية ومالية متراكمة أساسها ومنبعها الإمكانيات الذاتية في المجتمع والمتفاعلة مع حركة مدنية إقليمية وعالمية؟ ما هي الكفاءات البحثية والميدانية النضالية للمدافعين عن الكرامة الإنسانية؟ ما هو حجم الثقة المجتمعية بهم؟ هل يملكون احتراما ومكانة لدى الرأي العام؟ هل لهم تأثير حقيقي أم تأثيرات غير منتظمة أو منهجية؟ هل يبحثون عن إثارة من أجل الإثارة أو التوفيق المالي أم هم في صلب المشكلات المجتمعية والجيو سياسية؟ هل لحركة حقوق الإنسان تأثير مباشر (أو غير مباشر) على الدول من جهة، والفعل التنويري الإنساني من جهة أخرى ؟

كل هذه الأسئلة أضحت اليوم ضرورية في تحديد استراتيجية عمل مشتركة جديدة بين الفاعل acteur السياسي والفاعل المدني والسلطة الرابعة والمثقف الملتزم. وذلك في وقت لا يكفي فيه وصف العلل والنواقص، بل نحتاج للرد على السؤال التقليدي: بعد الانتكاسة المدنية التي افتتحت هذا القرن، ما العمل؟

لعل فشل المحافظين الجدد في تجربتهم التي اعتبرت الحقوق والحريات وسيلة استعمال وتوظيف وحسب، مع تهافت الحل الأمني للتعامل مع العنف السياسي، وسقوط ربوبية السوق ما يجعل البشرية اليوم بأمس الحاجة لتوازن مبتكر بين حقوق الإنسان وحقوق الإنسانية. توازن يعطي أولوية للإنسان على الجشع المادي، ويجعل للشراكة بين الشعوب قوة حضور في وجه دناءات الهيمنة.

بكل مراحلها وبسائر تعبيراتها، كانت حقوق الإنسان تعبيرا عن حاجات مجتمعية تاريخية. محاولة إجابة على مشكلات عانى منها الجنس البشري. بهذا المعنى والتصور يمكننا قراءة نشأة وتطور مفهوم الحقوق. استذكار اللحظة التاريخية التي ولد فيها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وما آلت إليه خارطة الحقوق والحريات بعد زمن. زمن قصير في تاريخ الإنسانية، التي تستنتج برأينا يوما بعد يوم ومن معمعان أوجاعها، الأهمية الوجودية لهذه المغامرة البشرية غير المنجزة. هذه التجربة غير المقدسة، التي تحتاج لتقدمها لكل إنسان، والتي اتفق على تسميتها: حقوق الإنسان.

الجزيرة نت 17/12/2008