أصدرت محكمة استثنائية يمنية في التاسع من يونيو 2008 حكما بالسجن ست سنوات مع الأشغال الشاقة علي الصحفي عبد الكريم الخيواني لدعمه جماعة إرهابية. وكان 12 ناشطا سعوديا قد اعتقلوا في فبراير 2007، منهم الطبيب والناشط المدني سعود الهاشمي بتهمة الدعم المادي للإرهاب. ووفقا لتقديرات اللجنة العربية لحقوق الإنسان، يوجد أكثر من 80% من معتقلي الرأي في العالم العربي فيالسجون بتهمة الإرهاب. فإذا أضفنا لهذه تهمة القذف أو الإساءة أو التجريح بالذات الملكية أو الرئاسية أو هجاء بلد صديق «تطال اليوم ثمانية صحفيين عرب من المغرب إلي مصر، ناهيكم عن عشرات السياسيين»، تبقي نسبة قليلة في السجون العربية من المتهمين بتغيير السلطة السياسية أو الانتساب لتنظيم ممنوع أو إضعاف الشعور القومي والتسبب في وهن الأمة والتعامل مع الخارج.
ونظراً لتصاعد عدد الشخصيات المدنية والاعتبارية بين المعتقلين، استنفرت الأوساط المدنية العربية للدفاع عن المستهدفين من صفوفها، خاصة أنه منذ أن استبدلت الآنسة كوندوليزا رايس اجتماعها الشكلي مع “ممثلي” المجتمع المدني باجتماع أكثر جدية مع مديري المخابرات العامة في البلدان الحليفة والصديقة، أصبح اعتقال صحفي مستقل أو ناشط مدني أكثر سهولة. ولعل هذا من حسن حظ المقاومة المدنية التي تحررت، من جهة، من تهمة باطلة وهي الاستجابة للأجندة الأمريكية. ومن جهة ثانية، تعززت في صفوفها أغلبية كبيرة تقول إن الاعتماد علي الذات وحده يبني مجتمعا مدنيا ومواطنا جديرا بالتسمية. وأن هذه الذات ترفض الحدود الاستعمارية في نضالها اليومي. كما تشعر أن امتداداتها ليست فقط في الثقافتين العربية والإسلامية، وإنما في نظائرها خارج الحدود والثقافات والقارات. وذلك في قطيعة مع حالات التسكع عند وزارات الخارجية الغربية والسفارات.
هذا الاستنفار رافقته حملات اعتقال ومضايقات وأشكال عديدة من الخنق المهني والمنع من السفر أو العمل. ومحاصرة المحيط العائلي واللجوء لإغلاق الصحف بالعقوبات المالية والحرمان من التجمعات الصغيرة، حتى المنزلي منها «كالمنتديات في سوريا»، والوقوف بالمرصاد للاجتماعات الدورية للجمعيات الأهلية، إلخ. لذا لا نستغرب وجود دينامية عربية للدفاع عن معتقلي الحركة المدنية كلما حدث استهداف في بلد. فالأسباب تكاد تكون واحدة، والصيغ تتعدد بشكل يدعو للسأم: صحفي يضع علي الطاولة قضية ساخنة، حقوقي يصدر تقريرا أمينا عن انتهاكات جسيمة، أو مثقف ملتزم يجد مكانه الطبيعي مع المظلومين والمحرومين.. وأول كلمة نسمعها من المسئولين، أو ممن يعمل في خدمتهم: كيف تطالبون باحترام المواطنة، وتضعون أنفسكم فوق المواطنة؟ الصحفي مواطن، وناشط حقوق الإنسان مواطن، والمصلح الدستوري مواطن، وعليهم احترام القانون كغيرهم!
يكفي وضع كلمة متروك الفالح أو عبد الكريم الخيواني أو فداء الحوراني أو رؤساء تحرير الصحف المصرية أو المساء المغربية الملاحقين قضائيا على محرك البحث، لنجد في حواريات الإنترنت وصفة مشتركة لأنصار السلطات التسلطية تكرر هذه الإسطوانة. وهي ذريعة تنسي أننا جميعا مشروع مواطنة ونضال يومي للخروج من حالة القاصر أو الرعية، أي أن الإنسان في العالم العربي لم يتمتع بعد بصفة المواطن ليتهم بترف يسمي «فوق المواطنة». تنسي أقلام وحناجر التسلط أن كل ما يحدث لا يتعدى الدفاع عن أوليات للخبز والحرية. لكن هذا الدفاع وهذا التضامن يشكل اليوم الحراك المسبب للذعر لسلطات صادرت الحقوق والحريات وتتصدي بشكل لا عقلاني لمن ينتقد ويقاوم هذا الوضع. خاصة وأن هناك تحالفا موضوعيا يرتسم يوما بعد يوم بين مكونات الحركة المدنية المختلفة: السلطة الرابعة والسلطة المضادة. بين جياع الكلمة وجياع اللقمة. بما يفتح الطريق لزعزعة أوضاع التسلط والفساد.
كذلك يلاحظ أنه لم يعد من تحرك شعبي أو مطلبي، إلا ونجد إلي جانب العاطلين والجياع والمحرومين والقضاة والإعلاميين، شبيبة تكتشف انتماءها بعدة أشكال. عنكبوتية حينا وميدانية ملموسة أحيانا أخري. وقد أرخت أحداث المحلة الكبري لولادة جسر متين بين الشبيبة العنكبوتية والتحركات الشعبية، لم تتمكن حواجز الأمن من ضربه. خاصة أن هذه الشبيبة تشعر بأنها مدعومة من منظمات مدنية تنزل إلي الساحة، وصحافة مهنية حرة ترفض الصمت والتواطؤ.
ما يلفت الانتباه الانتشار السريع لأنموذج التشبيك الجديد هذا في عدة مناطق عربية وجنوبية. في باكستان، أمثولة تحرك المحامين والقضاة من أجل سلطة قضائية مستقلة، وضرورة وضع السلطة العسكرية تحت رقابة دولة القانون اعتمدت هذا التفاعل بين الحقوقي والنقابي والإعلامي والعنكبوتي. وإلي حد كبير نجد اقتباسات مشابهة في سيدي إفني في المغرب. وبالحوض المنجمي في تونس وخاصة بالرديف، حيث بلغت حد إطلاق النار علي المواطنين تكميما للأفواه وإسكاتا لصرخات الجياع. هنا وهناك كان نقل المعلومة حاضرا والتضامن المدني قويا بشكل سمح بانتقال العدوي لقفصة وفريانة وماجل بلعباس ونقطة وقرقور.
من مقومات التجديد في التحركات الأخيرة، أن عنصر القوة فيها كان مدنيا بالمعني الواسع للكلمة أكثر منه حزبيا. الأمر الذي يفتح الباب لتعبيرات نضالية جديدة. كما يضع الكثير من أطراف المعارضة السياسية أمام ضرورة القيام بعملية غسل دم ضرورية، لاكتشاف وسائل النضال القادرة علي فكفكة الماكينة البوليسية وامتلاك القدرة علي التأثير والتغيير.
سبق النظام المصري جيرانه في بناء ترسانة «حماية ذاتية» من الحركة الاجتماعية. ترسانة قوامها دسترة الاستثنائي والعسكري، واختراع أنموذج السلطة القضائية الثنائية الرأس. خاصة عندما أدرك أن استقلال القضاء في مصر لم يعد مطلب نخبة من القضاة، بل تحوللقضية عامة. والخوف كل الخوف أن تؤدي القرارات العنيفة والمتطرفة من فوق لردود فعل عنيفة ومتطرفة، تعطي الحجة للسلطات الأمنية لمزيد من القمع والعنف. خاصة أن التحرك المدني قد حافظ علي رباطة جأش وحرص كبير علي طابعه السلمي.
إلى أي حد ستنجح السلطات في تحجيم التجمهر والتنظم والتعبير في عصر يمارس البشر فيه حق التنظيم والتعبير ولا ينتظرون إذنا من وزارة الداخلية للسماح بها؟ إلى أي مدي يمكن زعزعة النضالات اليومية بالاعتقال والملاحقة والمضايقة للعناصر الدينامية في المجتمع؟ وهل عندما تعطي السلطة التنفيذية المثل في الانقلاب علي الدستور من داخله وخارجه، يمكن مطالبة الناس باحترام قراراتها؟
إننا نشهد بداية حقبة تمرد علي الحالة الاستثنائية وغياب الدولة التعاقدية في ولادة وعي شعبي للقانون العادل والقانون الجائر، تختصره جملة الأب الروحي للعصيان المدني هنري تورو: “إن الواجب الوحيد الذي أملك الحق في قبوله هو أن أفعل في كل لحظة ما أعتقد أنه عادل. إن التصرف بعدل أكثر مدعاة للاعتزاز من إطاعة القانون”
————————————–
مفكر وحقوقي عربي مقيم في فرنسا
البديل (القاهرة) 20/06/2008