إن كان الإعلان يسبق الفعل في الثورة السياسية، فهناك ثورات تسمى كذلك لدخولها حيز السلطة دون كثير ادعاء. هكذا كان حال الثورة الصناعية، الثورة التقنية، ثورة المعلوماتية، ثورة المنظمات غير الحكومية، وأخيرا وليس آخرا ثورة الاتصال.
الحديث عن ثورة الاتصال حديث متداخل متعدد الميادين. ومن الصعب الكلام عنه أو عن علاقته بالديمقراطية دون الاستحضار الدائم لفكرة تقول: الاتصال هو علاقة بين الإنسان والإنسان أولا وعلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا ثانيا وعلاقة بين الإنسان والتعبيرات الأساسية للسلطة ثالثا. فلا المهنية بالمعنى التقني تعطي جمهورا ولا السلطة السياسية بالمعنى الواسع للكلمة تعطي متتبعين. ففي كل لحظة، تفرض الكفاءة والنوعية نفسها كبضاعة قابلة للتسويق حتى في الأوساط الملتزمة عقائديا أو حقوقيا أو حزبيا، ويتدخل في ذلك جملة عوامل نفسية بل وغرائزية تجعل من المرء قريبا أو بعيدا عن الإنتاج الإعلامي. فرّب سياسات حكومية عربية جرى فرضها على الإعلام العربي كانت السبب المباشر أو غير المباشر في أن يصبح عدد كبير من المستمعين العرب زبائن للإذاعة الإسرائيلية. وهل كان أبناؤنا في المهجر، مثلا، قادرين على تحديد مكان دولة قطر على الخريطة لولا محطة الجزيرة؟
لقد أعطى التواكب بين ثورة الاتصال والثورة التكنولوجية، قدرة غير محدودة للوصول إلى كل فرد، أميّ كان أم مثقف، رجل أو إمرأة، رغم القيود والحدود وادعاءات السيادة، وصار بإمكان الملتقي أن يعرف ما يجري في المجتمعات الأخرى، ويطلع على تجارب هذه المجتمعات وهمومها واهتماماتها ومشاغلها، وأن يوصل معارفه وتجاربه وآراءه إلى الآخرين كلياً أو جزئياً ، متجاوزاً شروط الزمان والمكان. وتوافق كل هذا بما يمكن تسميته السعر الرخيص للسلعة الإعلامية. فالمنظومة د Système D هي السائدة في أكثر من 80% من أساليب الحصول أو المتابعة للفضائيات في العالم وفق تقدير أكثر من مركز إحصاء غربي. هذه المنظومة تعني بكل بساطة عدم دفع أي كلفة ما عدا تكاليف الشراء لمعدات التواصل السمعي البصري وبالتالي يمكن الدخول إلى أي فافيلا (مدينة صفيح) في أمريكا اللاتينية أو أية ضاحية عربية فقيرة وعدم العثور على مركز صحي أو ثلاجة ولكن الصحن العجائبي يقبع فوق الجدران الهشة لأشباه المنازل لينقل لحظة سمر أو صورة خبر أو فيلم لأشخاص لم يدخلوا قط صالة سينما بسبب أوضاعهم المادية المؤلمة. وبعكس ما يخطر على البال، فالتلفزيون الذي يفسح المجال للمشاركة المباشرة للمشاهد، هو التلفزيون الأقل تكلفة والأكثر شعبية. لأنه يعطي الإحساس للمشاهد بأنه ليس مجرد متلقي سلبي. وبقدر ما نجد هذا الهامش يتسع، نجد من جهة عكسا أكثر أمانة للمستوى الفعلي للوعي السياسي ومن جهة ثانية كل محاذير “الشعبوية” (النزعات التي تحاول إرضاء الجمهور في عواطفه وانفعالاته). ولكن هذا الخطر، يشكل شرا لا بد منه، في ظل هيمنة سلطات تعسفية لا تسمح بالتعبير على الصعيد الميكرو إعلامي (محاضرات، اجتماعات حزبية ونقابية، لقاءات ومنتديات، صحف محلية مستقلة، صحف كبيرة مستقلة الخ).
وكما يقول الأستاذ حسين العودات: “لقد قاربت ثورة الاتصال المسافات، وغيرت المفاهيم، ودخلت الرسالة الاتصالية عاملاً أساسياً في تشكيل وعي الناس، بسرعة وقوة تتجاوز نتائج وفعاليات معظم عناصر وعوامل ومكونات البنية التحتية للمجتمع وتناقضاتها، أعني ملكية وسائل الإنتاج، وأساليب الإنتاج، وأدوات الإنتاج وغيرها، وهكذا انتقل دور الاتصال من دور إعلامي هام، إلى دور فاعل أساسي في التطور، ربما يأتي على رأس عوامل التغيير في أي مجتمع”.(من بحث مخصص لجزء الثاني من موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان).
إذن، كما كسرت المطبعة احتكار الكنيسة للثقافة في أوربة بشكل حاسم، حطمت الفضائيات للأبد احتكار السلطات التسلطية لوسائل الإعلام مهمشة كل الوسائل الممجدة بعظمة هذا الحاكم أو إنجازات ذاك النظام. أليس من الملفت للنظر أن انخفاض الحديث عن حاكم أي بلد يشكل عامل ارتفاع في الاستماع والمشاهدة لوسائل الإعلام في بلده؟ هذا إذا لم نتطرق لسقف الحريات في كل وسيلة إعلام باعتبار هذا السقف الرصيد الأساسي اليوم في الصحافة والتلفزة والإذاعة.
نلاحظ اليوم أن ما شهدته أوربة منذ نهاية القرن التاسع عشر (نمو الرأسمال الاحتكاري) يتكرر اليوم مع العولمة (احتكار الوسائل الكبرى للاتصال). وبعكس الظواهر فإن تكاثر المحطات السمعية والبصرية والصحف يخلق مشكلة توفر المواد وتوفر الجمهور. أما على الصعيد الأول (توفر المادة) فإن ما يجري هو الحل السهل الذي سبق واختارته الصحافة العربية (إعادة استعمال مواد وكالات الأنباء الغربية والإعلام الغربي التي تشكل قرابة 90 % من مصادر الأخبار والتحقيقات والمنوعات في العالم. تصوروا مثلا أن صحيفة معروفة بخطابها الاحتجاجي “القدس العربي” تصلها معلومات First hand غالبا ما لا تنشر لنقص الكوادر. أليس من المثير للانتباه أن أكثر من ثلثي الأخبار التي أخذتها عن اللجنة العربية لحقوق الإنسان كنا أرسلناها للقدس العربي وفرانس برس بنفس الوقت فنشرت بالقراءة التي تقدمها فرانس برس للخبر رغم وجود النسخة الأصلية عند القدس العربي. اللهم إلا إذا اتصلنا بالأخ عبد الباري أو اتصل به زميل من القدس العربي في باريس. هذا مثل بسيط للتبعية الناجمة من جهة عن اتباع الطريق الأسهل والأرخص أو غياب إمكانيات فرز المعلومات الواردة مباشرة أو أسباب أخرى. مشكلة أخرى تكمن فيما أسماه كارل كراوس في كراسه “نقد الصحافة”: الدورية في ظل غياب الإبداع. بتعبير آخر، وجود مساحة تحتاج إلى تعبئة كمية لا تكون بالضرورة نوعية. فعندما يستأجر رجل أعمال 24 ساعة على القمر الصناعي، أو يدفع جنرال سابق لمحطة تلفزيونية ولا يكون لديه الوعي الإعلامي لهذه المسؤولية الجسيمة، يمكن أن ننتظر كل شئ من تكرار برامج وتراجم (غالبا سيئة) واستهلاك متأخر للبضاعة الغربية واستعمال ما هبّ ودبّ من المتوفر العربي. هنا، يكرر رجل الأعمال المسخ والضابط المسخ مأساة الواقع العربي بسلطتيه المالية والسياسية الأمر الذي يحرم قطاعا واسعا من المبدعين من ولوج حرمة هذا الإعلام (الرسمي-خارج الرسمي) الأمر الذي يحّول هذا الإعلام إلى بضاعة مدنسة للوعي.
من حيث المبدأ ، تستطيع وسائل الاتصال المعاصرة ، بما تملك من مقدرة تكنولوجية، وأدوات بث ونقل المعرفة إلى جميع الناس ، ووضعها بين يدي الفرد . وجعلها جماهيرية ، وتخليصها من احتكار النخبة والمختصين ، كما أن بإمكانها لعب دور أساسي في تشكيل وعي الناس وتغيير سلم قيمهم وأنماط سلوكهم ، وجعل الحصول على المعرفة متاحاً للجميع بتكاليف يستطيعها أي فرد تقريباً، ويمكن لثورة الاتصال جعل المعرفة ديمقراطية وإتاحتها للجميع، سواء بسبب غزارة المعلومات التي تنقلها أو لسهولة تدفقها ووصولها إلى المتلقي ولكن هل تتنحى تعبيرات السلطة المالية والسياسية بسهولة عن عرشها ؟ وهل ستقبل بمشاركة الجمهور لها فيما اعتبرته خلال قرون ملكا خاصا للحاكم يبلور فيه تصور المحكوم للعالم؟ لا شك بأن المرسل والوسيلة والمتلقي لا يمكن أن يكونوا بمعزل نظام القطب المهيمن وتمركز الاحتكارات والتفق الثقافي الأحادي الجانب وتنميط أشكال الاستهلاك بل تنميط القيم الأساسية للأفراد والجماعات. لقد كانت الثورة التقنية في معالمها الكبرى على حساب الإنسان وليس من أجل الإنسان، وبقدر ما احتاجت لحرية التجارة والسلعة والمال كانت تخشى على نفسها من حرية الآراء والتنقل والتفاعل بين الإنساني. فهي تحمل مشروع هيمنة بالمعنى الكلاسيكي لكلمة الإمبريالية، وبالتالي تجد في الدمقرطة على الصعيد العالمي عنصر احتجاج ومقاومة لتصوراتها المسبقة والجاهزة عن نفسها وعن غيرها. من هنا، فإن الأطراف الأقوى في ثورة الاتصال اليوم (الشركات الأمريكية والمتعددة الجنسية) ليست بالضرورة الأكثر حرصا على تقدم الوعي النقدي للجمهور، حتى لا نقول بأنها غالبا ما تكون في معسكر أعداء هذا الوعي النقدي خاصة عندما تمس مصالحها الحيوية.
سأعود للاستشهاد بالأستاذ حسين العودات عند حديثه عن سلبيات ثورة الاتصال اليوم يقول: “إن غزارة المعلومات والتدفق أدت أو كادت تؤدي إلى تنميط أشكال المعرفة، وأن غزارة المعلومات صارت أكبر من قدرة المتلقي على استيعابها وهذه الغزارة وذاك التنميط يؤديان غالباً إلى هروب المتلقي من هذه الوسائل بشموليتها، فيختص نفسه بنمط معين من المعلومات أو من قنوات الاتصال المتخصصة، مما يؤدي إلى انعزاله عن مجتمعه وإدمانه هذا النمط من المعلومات الجزئي ووحيد الجانب. حتى أن المتلقي يصبح محترفاً لتلقي نوع واحد من المعلومات والمعرفة، وبالتالي تتقزم معارفه فتصبح جزئية بعيدة عن الشمول والحاجة والضرورة، وعندما يعزل المتلقي نفسه أو يعزل بفعل الشرط الموضوعي، تضعف مناعته ويسهل إقناعه، وتتلاشى فعالية ديمقراطية المعرفة وغزارة المعلومات وتزيد هشاشتها وعدم جدواها. الكسل والسهولة الذهنيتان نأخذ البضاعة الجاهزة عدم القدرة على مواكبة ساعات البث بالانتاج الفكري المحلي المتناسب”.
لا شك بأن هذا الجانب يفسر إلى حد كبير رأي مدرسة فرانكفورت السلبي في دور ثورة الاتصال في دمقرطة المعرفة. ولكن هل ينطبق هذا الكلام على المجتمعات التي تشهد ثورة الاتصال دون أن تعرف لا الثورة السياسية ولا الحريات الأساسية؟ ثمة من يعتقد أن الأمر أسوأ وأن العالم العربي سيستهلك المنتج الإعلامي كما استهلك البضاعة الغذائية الأمريكية : بهرموناتها وجيناتها المعدلة وكالورياتها المفرطة فيما جعله يستورد بشكل غير مباشر السرطانات والسكري وأمراض التغذية الشائعة في الولايات المتحدة. في حين أن هناك وجهة نظر أخرى تقوم على أن القطيعة الكبيرة بين أغنياء الشمال وفقراء الجنوب قد أوجدت لقاحا طبيعيا ضد البضاعة الإعلامية الأمريكية وأن المشكلة الأساسية لإطلاق طاقات العالم العربي تكمن في كسر القيود المحلية سواء في السلطة أو المجتمع، هذه القيود التي تحول دون انطلاق الكفاءات العربية الحرة والديمقراطية والتعرف عليها بسبب الرقيب والحسيب. فثورة الاتصال بكل عاهاتها سلاح متعدد الوجوه، هذا السلاح قابل للاستعمال النقدي كما هو قابل للاحتواء. ولكي يكون جزءا من مشروعِ إصلاحٍ ثقافي وأخلاقي ضروري لكل تغييرٍ سياسي، نحن في أمس الحاجة لاستنفار الطاقات الثقافية والفكرية في مجتمعاتنا. ففي الوضع الراهن، لا مجال لعودتنا للتاريخ إلا بالصحفي الملتزم والمفكر الملتزم والفنان الملتزم. والالتزام هنا، ليس بالمعنى الستاليني المبتذل للكلمة، وإنما بمعنى إعادة اكتشاف حقنا الطبيعي في الحياة الكريمة مع كل معذب من معذبي الأرض.
(ورقة عمل مقدمة في المؤتمر السنوى للمنظمة العربية لحرية الصحافة – مايو 2002)