أبريل 26, 2024

المؤسسة العسكرية والديمقراطية في موريتانيا !

mauritaniaقبل ثلاث سنوات (7/8/2005) نشرت مقالة بعنوان: “المسئول الحقيقي عن الانقلاب العسكري في نواكشوط” قلت فيها: “نحن ضد الانقلابات العسكرية، ولا يمكن أن نعطي ورقة بيضاء لأي انقلاب لا يشكل انتقالا فعليا سريعا للسلطة إلى الشعب. ولكن من الذي قاد الانقلاب هذه المرة؟ أليس تزوير مفهوم الديمقراطية والدستور والشرعية السياسية؟ أليس الصمت عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان لمجرد صفقات سياسية واقتصادية قصيرة النظر؟”. وقبل ساعات من وقوع الإنقلاب العسكري الجديد، كتب محلل موريتاني أطلق على نفسه اسم  أبو الحسن مقالة ساخرة بعنوان “السلطان الحائر”، حاول فيها أن يعرض الوجه الحقيقي للصراع في موريتانيا بين سلطة السيف وسلطة القانون، مستعيرا من توفيق الحكيم عنوان مسرحيته حول السلطان الذي دخل في جدل فقهي مع قاضي القضاة وبرقابة غير  مأمونة يرعاها المماليك الصقالبة، حول شروط الإمامة والخلافة وقاد لغط الجدل الفقهي ذلك السلطان بقبول نهاية مريرة لملكه، أجلسته في قفص نخاس لا يعرف الرحمة بعد أن جلس طويلا على عرش الكنانة. ويخلص “أبو الحسن” للقول: لقد كان الأستاذ توفيق الحكيم يعلم وهو القانوني المتمرس أن المحاججة القانونية  أو الفقهية إذا لم تصاحبها وسائل القسر العمومي قد توصل صاحبها إلى شواطئ غير متوقعة، تصلح مادة لدراما رائعة ….. ويتابع كاتب المقال: “نعم لدينا سلطان حائر يملك شيئا من السلطة الاسمية ويدخل بغباء في محاججات ولغط مع أصحاب السلطة الفعلية، لا تاج على رأسه ولا مهابة لديه ولا صولجان، كل ما بوسعه هو رفع ورقة توت اسمها الدستور !” ويستبق أبو الحسن الأحداث فيكتب: “إن أكثر ما يملكه سيدي الشغال بعد إكمالهم السيطرة على الجيش والأمن هو إحراجهم وفرضهم على القيام بانقلاب عسكري جهارا نهارا ! وهو انقلاب إن حصل سيؤدي إلى تجميد عضويتنا في الاتحاد الإفريقي وإيقاف جزء من التعاون مع الاتحاد الأوربي ومقالات حزينة ومتباكية لمثقفين من نوع الدكتور التونسي منصف مرزوقي أو الحقوقي السوري هيثم مناع”.

يمكن القول أن كاتب المقال قد رسم السيناريو المنسجم مع نظرته الخاصة للأمور، هذه النظرة القائمة على ما أسميته قبل عام ونصف “الأنموذج التركي في الصحراء الموريتانية”، وللحقيقة وتجنبا لتقديمنا كسذج غير مدركين لطبيعة مراكز القوى في البلاد، فقد تابعنا، منصف المرزوقي وأنا نفسي، تأثير التكوين القبلي على الحياة المدنية والتركيبات التقليدية على التحول الاجتماعي السياسي كذلك دور المؤسسة العسكرية في صنع القرار السياسي. وراهنا، ومازلنا نراهن اليوم وغدا، على نضج الحركة السياسية الموريتانية وضرورة تنمية أسس صلبة للمقاومة المدنية بشكل يسمح بتعديل ميزان القوى بين المجتمع العسكري والمجتمع السياسي في موريتانيا لصالح وحدة وطنية ديمقراطية ضرورية لخوض المعركة الأصعب لحماية التحول الديمقراطي، وهي كما قال الرئيس المعتقل سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله: الحرب على الفقر.

إلا أن المصلحة العليا للناس ليست باستمرار في صلب اهتمام مراكز القوى التقليدية التي اعتادت فسادا بلا محاسبة بل وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان  تم  التوافق على محوها من الذاكرة القانونية. هذه القوى تملك إحساسا داخليا وقراءة ذاتية مفرطة للأحداث، فهي تشعر بأنها نجحت حيث أخفق الفرسان وغيرهم ممن حاول الإطاحة بولد الطايع، وشكلت هيئات مدنية لرسم نمط الانتقال السلمي، وتركت الشعب يختار الرئيس دون أن يتعارض هكذا اختيار مع استمرار مجلس عسكري نصب نفسه “المرجع الأعلى لإدارة الأوضاع والأزمات”. وكما أن المجلس القومي العسكري في تركيا يعتبر نفسه مع  السلطة القضائية الحارس الضامن لاستمرار العلمانية، يعتبر “المجلس” العسكري في موريتانيا نفسه صاحب القرار في وقف أو استمرار المؤسسات المنتخبة!.

وهنا نعود لطرح السؤال الذي سمعناه من أكثر من حقوقي موريتاني وبكل جدية: هل كان بالإمكان تحقيق توازن بين سلطة قائمة وأخرى في طور التكون دون برنامج جامع لأهم القوى السياسية في البلاد؟ وهل يمكن اعتبار إنجازات الحد الأدنى كافية لمشروع سياسي واقتصادي وتنموي طموح؟  أم أن مهمة الطبقة السياسية كانت تتطلب التنادي لحكومة وحدة وطنية تجمع كل الطاقات السياسية مع تمثيل للمؤسسة العسكرية (لأنها طرف أساسي في صنع القرارات) من أجل كسب معركة ترسيخ المؤسسات الشرعية.

ليس بالإمكان العودة للخلف، فقد حوصر الرئيس في قصره عندما مارس حقه الدستوري، واعتقل من قبل قائد حرسه عندما تلقى الأخير نبأ إقالته من منصبه. وستدخل موريتانيا فترة انتقالية صعبة، العسكريون يريدون أن يحتفظوا بامتيازاتهم وسلطاتهم، والمجتمع الذي ذاق معنى الحريات يعتبرهم قد غسلوا أموالهم وغسلوا أيديهم في السنوات الثلاث الماضية من حقبة ولد الطايع التي شاركوا فيها بكل معنى الكلمة، ثم عادوا لممارساته بشكل مباشر دون وسطاء وبدون أقنعة.

ربما لم يقرأ الرئيس الموريتاني المعتقل ماكيافيلي كما يقول أبو الحسن، ولكن مجلس الدولة الجديد لم يقرأ التاريخ ولا الجغرافيا، لهذا فهو أمام كارثة بناء الدكتاتورية الصلفة إذا لم يعد لخيار المؤسسات الانتخابية. العودة للمؤسسات الديمقراطية لا تعني أن هذا المجلس ديمقراطي بحال، ولكن لأن هذه “الديمقراطية” هي التي مسحت عن جبينه، باسم عفى الله عما مضى، كل آثام الجرائم التي شارك بها في ظل ولد الطايع. وعندما لا تقدم المؤسسة العسكرية للمجتمع سوى التعسف، يصبح مشروعا فتح كل الملفات، ولن يتمكن أحد من ضبط تعبيرات المقاومة المدنية للحكم العسكري.

القدس العربي 11/8/2008 والبديل المصرية الجمعة 15/8.