لم تخرج الإمبراطوريات قبل الغربية من منطق الاقتصاد السياسي للإماء، أي سلعية المرأة المستعبدة (الأمة) باعتبارها في منزلة سائر الأموال من الأرض والخيل والدواب. وبالتالي إدماجها القسري في الخارطة المجتمعية البطركية داخل وخارج المنزل بشكل واسع من مصادر انتاجها المقبولة في التشريعات السائدة: نهب المرأة السلعة أو سبيها في الحروب، تناولها وتبادلها في التجارة، وتناقلها بالإرث.
أما الثورة الصناعية فكانت في انطلاقتها رجالية. وقد دفعت أولى النساء المدافعات عن كرامة وحقوق المرأة ثمنا باهظا لكتاباتهن أو ممارساتهن ، شمل العزل والسجن والقتل. فحتى الثورة الفرنسية لم تحتمل كاتبة “إعلان حقوق المرأة والمواطنة” أولمب دي غوج التي أعدمت في 1793. لكن التفريد المتسارع للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية وحروب الرجال سمحا بنشوء حركة مدنية واسعة للدفاع عن حقوق النساء. لقد دخلن سوق العمل بكل ما تبقى من هذا العفش التاريخي الأبوي، أي كقوة عمل ذهنية وفيزيائية. لكن أيضا كموضوع استغلال جنسي في صناعة البغاء، في الإرضاع البروليتاري، وفي سلعية الجسد. لم تتوان الحركات التقدمية والنسائية، من الجنسين، عن مناهضة أشكال الاستغلال المختلفة بحق المرأة. إلا أن النظام الاقتصادي العالمي السائد، رغم احتوائه واستيعابه لحركات طهرانية دينية، قد أطلق العقال بعد سقوط جدران برلين، لأكبر صناعة للجنس في التاريخ. فحسب مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، تم في جنوبي شرق آسيا وحدها في التسعينيات من القرن الماضي، رصد 33 مليون ضحية للبغاء. في حين يقدر عدد ضحايا الإتجار بالعبيد من إفريقيا في 400 سنة بأحد عشر مليونا ونصف المليون شخص. فما الذي حدث ويحدث منذ إفلات اقتصاد السوق من عقاله؟
بكل بساطة، صار المواطن مجرد مستهلك. تعممت كلمة Business، وتنوعت معانيها من تجارة الفن والثقافة إلى “البزنيسة” أو مرافقة الساحئات الغربيات. المريض بات مجرد زبون، والجنس كالمخدرات بضاعة مربحة. لا يتوانى أحد المدافعين عن سوق الجنس بالقول: “يباع السلاح مرة واحدة، وكذلك حقنة الهيرويين، في حين يستطيع القواد استعمال المومس سنوات”. كل شئ يباع ويشترى، إلا أنه وكما يقول أندريه غورون، عندما يباع ويشترى كل شئ، يتم تقويض الأسس التي تجمعها كلمة الإنسانية.
الأرقام مخيفة ولا تحتاج لأن نقف كثيرا عندها. فقط لإدماج القارئ في الموضوع، نقول أن تجارة الجنس ازدادت في العشرين عاما ستة أضعاف عما كانت عليه. ووفق إحصاءات الأمم المتحدة، ينضم لسوق البغاء في كل عام أربع ملايين إمرأة ومراهق. أما لجنة حقوق المرأة في البرلمان الأوربي فتقدر عدد اللاتي يدخلن أوربة الغربية بغرض الإتجار الجنسي بنصف مليون إمرأة.
يفوق العدد الكلي للمومسات في العالم الخمسين مليون إمرأة، ¾ منهن تتراوح أعمارهن بين 13 سنة و25 سنة. وتخضع 19 من كل عشرين لنظام “القواد”، كما أن أكثر من ثلاثة أرباع منظومة البغاء مدعوم وخاضع لعالم الجريمة المنظمة.
في 2007 كانت سياحة الجنس (وهي إحد قطاعات الإتجار بالجنس) ثالث تجارة غير قانونية بعد الأسلحة والمخدرات. ومن أصل 842 مليون سائح، عشرة بالمائة اختاروا جهتهم لأسباب تتعلق حصرا بعرض وطلب بضاعة الجنس. وفق دراسة للسكوتلاند يارد البريطانية أجريت في 2000، فإن 96% من الزبائن هم من الرجال، 73% من اللون الأبيض، و 91% منهم مؤمن، و75% متزوج. تسيطر المافيا على صناعة البغاء في أوكرانيا وروسيا وجيورجيا.
من جهة أخرى، تزدهر عمليتا استيراد المومسات والتجارة السياحية كلاهما بالنسبة لدول التعاون الخليجي. وحدها مفرزة الأمن الجنائي والداخلية تملك إحصائيات عن عدد النساء اللاتي يمارسن الدعارة بشكل منظور أو سري في هذه البلدان. وبكل الأحوال، تظهر الإحصاءات تمييزا بين البلدان الفقيرة والبلدان الغنية، مع انعكاس ذلك بشكل مباشر على خريطة “العرض والطلب”: 70% من المومسات في فرنسا من الأجنبيات. هذه النسبة المتوسطة للأجنبيات مقارنة مع باقي دول أوربة الغربية، كونها أقل قليلا في بريطانيا، ووصلت إلى 80% في ألمانيا 1995، وترتفع بشكل كبير في دول الخليج.
ثمة مناطق مصدرة للمومسات وأسواق استيعاب لهن. تايلاند والفيليبين ودول أمريكية لاتينية تضم شبكات صناعية قوية، تتكامل مع دول الغنى الريعي والجنان المالية والعواصم الكبيرة في غربي أوربة وكندا والولايات المتحدة. في حين يتميز مركز اريزونا ماركت بركو في البوسنة والهرسك بصيرورته سوقا لشراء الاوكرانيات والملدافيات والرومانيات وغيرهن. فهن يعرضن كما كانت الإماء في القرون الوسطى عاريات، ويتم الشراء بالمزاد العلني. وكما يطلب التاجر الأوربي أفخر أنواع الكافيار أو تحفا متميزة من نظيره الجنوبي، لا يشعر أحد بالقشعريرة وهو يقرأ أن 44% من النساء في سوق الدعارة الكمبودية كانت علاقتها الجنسية الأولى مع سائح أوربي وفق معطيات دراسة ممتازة لمنظمة أتاك (عولمة البغاء: انتهاك عالمي للكرامة الإنسانية). كل البلدان المذكورة، ما خلا الولايات المتحدة، مصدقة على اتفاقية حقوق الطفل التي تحرم في المادتين 34-35 كل شكل من أشكال الاستغلال والعنف الجنسي!.
تتحرك سوق الجنس مستفيدة من التسهيلات العنكبوتية والتقنو حداثية كتجارة بؤس تزدهر بالإفقار السريع المنتج للراغبين بالهجرة أو الفرار من وضع لا إنساني. وهي تعمل كسوق البورصة، أحيانا بالإشاعة وأحيانا بالمغامرة. بحيث نشهد حركة جديدة لنساء شرقي أوربة نحو جنوب إفريقيا واليابان. كذلك تنشط الشبكة الإفريقية في نيجيريا والسنغال ومالي نحو أوربة. ذلك في انسجام تام مع عولمة سمحت لها بالإزدهار “كصناعة ناجحة”. وتذكر المنظمة الدولية للهجرة OIM بأن هناك عنصر جديد في صناعة البغاء يدخل منافسا للنساء والأطفال، هو تجارة الجنس المثلي. هناك قادمون من بلغاريا أو رومانيا، أمريكا اللاتينية وأندونيسيا بل والمغرب، أحيانا بتسهيلات مسبقة للعمل أو الدراسة، للدخول في سوق البغاء المثلي في فرنسا وألمانيا وإسبانيا.
يعطي عالم الاجتماع الكندي ريشارد بولان في كتابه “الأطفال الضائعون، جهنم البغاء” (أوتاوا 2007) معلومات مذهلة عن صناعة البغاء في كندا. لعل من أهم ملاحظاته: زيادة عدد المومسات إلى الضعف في أوتاوا ومونتريال في السنوات العشر الأخيرة، رصد شبكات كولومبية وأمريكية لاتينية للإتجار بالجنس، متابعة الوضع الكندي كبلد مستقبل للسياحة الجنسية الأمريكية وكبلد مستقبل وترانزيت للأطفال والنساء، وأخيرا لفت النظر لأهمية ودور وحجم الصناعة البورنوغرافية في انتشار البغاء (قبل ربع قرن، تم رصد أكثر من 60 ألف طفل لهم صور بورنوغرافية في كندا، في تطبيع واسع النطاق مع سلعية العلاقة مع الجسم والجنس. فما هو العدد وما النتائج اليوم ؟).
أرقام اليونيسيف مخيفة بما يتعلق بالاتجار بالأطفال في سوق البغاء. في أمريكا اللاتينية 65% من أطفال الشوارع الذين يناهز عددهم الأربعين مليون يمارسون البغاء. في تايلاندا وحدها، عدد الأطفال الضحايا 700 ألف طفلة وطفل. في حين نصف العدد تقريبا نجده في الولايات المتحدة الأمريكية.
رغم وجود ترسانة قوية من الاتفاقيات والقرارات والبروتوكولات الخاصة، منذ عام 1927 إلى اليوم، لمناهضة الإتجار بالنساء والأطفال ومنع الاعتداءات الجنسية، تتعزز يوما بعد يوم قدرات اللوبي المدافع عن المنظومة البغائية بكل مكوناتها (اصطياد الضحية من الإعلان في صحيفة أو على الأنترنيت إلى الخطف والاغتصاب، التدريب والقولبة الذهنية، خلق حالة تبعية أو إدمان، النقل لسوق رائجة، التسكين وكفالة القواد، وأخيرا وليس آخرا، الإندماج في شبكة تشمل تجارة المخدرات وتبييض الأموال، بل والابتزاز السياسي والاجتماعي. هل من الضروري التذكير بأن عدد المومسات يزداد في مناطق الحرب بشكل منظم، وفي كأس العالم والمناسبات الرياضية أكثر من ذلك؟ ليس فقط في المؤتمرات العلمية وحول موظفي الأمم المتحدة والقبعات الزرقاء، بل أثناء انعقاد جلسات البرلمان الأوربي، كما تؤكد منظمة أتاك في دراستها المشار إليها أعلاه). هذا اللوبي يخوض معركة مفتوحة مع المدافعين عن الكرامة الإنسانية ومناهضة الفقر والبطالة على الصعيد العالمي. وقد رصدت عدة منظمات حقوقية ونسائية أساليب الشراء لشخصيات سياسية وكتّاب وصحف ومجلات ووسائل إعلام سمعي بصري، تروج للمفهوم النيو ليبرالي لصناعة البغاء. هذا المفهوم قائم على ثلاثة محاور هي:
1- البغاء مهنة كأية مهنة أخرى، يمكن لمن يحتج عليها أن يناضل من أجل تنظيمها وحماية العاملين فيها،
2- يجب الدفاع عن الحق في ممارسة البغاء، كالدفاع عن الحق في أية علاقة جنسية أخرى،
3- صناعة البغاء كصناعة الأفلام البورنوغرافية، هي الرمز الجديد للتحرر الجنسي ومصدر رزق للملايين.
لقد اتخذت عدة حكومات غربية قرارات عديدة ضمن هذا التوجه، ساهمت في انتعاش صناعة البغاء. منها ما يسمى بالمناطق البغائية الحرةProstitution-free zone أو مناطق التسامح Zones of tolerance. كذلك صدرت عدة كتب وأعدت برامج تلفزيونية تركز على التخلص من النظرة السلبية لصناعة البغاء، مثل كتاب يولاند جياده “البغاء، مهنة كأية مهنة أخرى”.
يقدر الباحث ريشارد بولان، في كتابه المشار له أعلاه، بألف مليار دولار حجم صناعة البغاء على الصعيد العالمي. لا غرابة وهذه المنظومة تطعن أعمق ما في الكرامة الإنسانية من خصوصية، أن تتم عمليات بيع وشراء لكل ذوي الضمائر الرخيصة في السوق السياسية والثقافية والإعلامية.
لا يوجد أي خلاف بين الأطباء وعلماء النفس والاجتماع على أن البغاء واحد من أسوأ أشكال العدوان الجنسي على النساء والأطفال، والذي ينتج عنه آثار مدمرة لمن وقع في شراكه. كذلك لا نقاش في أن الحديث عن خدمة جنسية مدفوعة الثمن بالتوافق هو احتقار للكائن الإنساني بصيرورة سلامته النفسية والجسدية مادة عرض وطلب كأية بضاعة. لقد أثبتت التجربة أن إدماج المومسات في نظام للتقاعد أو نظام صحي لا يتم باعتبارهن مومسات، لأنهن غير مستقلات عن نظام القوادة. بل باعتبارهن دافعات ضرائب ومصرحات بدخل من عمل خاص يحمل اسما آخر (مساجات، تجميل، فنانة الخ). إن تخفيف مأساة الاستغلال الجنسي لا تكون بقوننته وجعله جزءا من سوق العمل العادية. فعندما يتمنى أكثر من تسعين بالمئة من النساء المومسات ترك البغاء، هل لهن حرية الاختيار في منظومة تكون فيها المومس رقيقا للقواد؟ هل تترك لهن الأزمة الاقتصادية والأحكام المسبقة والمشكلات النفسية والجسدية المتراكمة كثير خيار، خاصة وأن الجمعيات غير الحكومية العاملة لاحتضانهن لم تعد تستطع استيعاب الأغلبية من الضحايا أمام الانتاج الواسع للبغاء في المجتمع البشري؟
من أجل هذا ناضلت منظمات حقوق الإنسان ومناهضة العولمة لميثاق ضد الإتجار بالإنسان وصناعة البغاء. الميثاق الصادر عن مجلس أوربة في 27 فبراير 2008 ضد الإتجار بالكائنات البشرية لم يستجب لكل طموحاتها من أجل فرملة التقدم المتسارع للإتجار بالبشر في أوربة وعلى الصعيد العالمي. لكنه ضمن موادا عامة غامضة يمكن أن تشمل: البدون من عديمي الأوراق أو وثائق الإقامة من جهة، أو الهوية الشخصية المصادرة من قواديهم من جهة أخرى. فنحن أمام منظومة D شبه سرية، موازية لاقتصاد السوق وغير رسمية في أهم مكوناتها. وللأسف حتى لو احترمت الدول الأوربية المادة 12 من هذا الميثاق، التي تطالب بالتشريع لحماية الضحايا وإعادة تأهيلهم نفسيا وجسديا واجتماعيا، فهي تشمل وحسب حقوق الحد الأدنى والمساعدة النفسية والمادية وتمكين الأطفال من التعليم لكل من هو في وضع قانوني. أي أننا نتحدث عن قلة قليلة من ضحايا الإتجار بالبشر.
ربما كانت صناعة البغاء قدرا على العولمة الليبرالية، ولكنها بالتأكيد ليست قدر من يحتفظ بمبدأ كل الحقوق والكرامة لكل إنسان. هذا المبدأ وحده يسمح بالحلم بعالم أقل بربرية وأكثر احتراما للذات الإنسانية.
——————————–
الجزيرة نت 30/11/2008