أبريل 14, 2024

حرية المعتقل في روح المتابعة,إهداء لتيسير علوني ولكل معتقلي الرأي

Tayseer Alouniتضعنا الحملة التي تقودها اللجنة الدولية للدفاع عن تيسير علوني، وهي تجمع يضم قرابة ثلاثين منظمة غير حكومية وأكثر من ألف وخمسمائة متضامن، تضعنا هذه الحملة أمام الأسئلة الكبيرة التي تواجه المدافعين عن حقوق الإنسان في ملفات الاعتقال التعسفي؟ ولعلها أيضا، فرصة لكي نذّكر بالمسلمات التي تحكم النجاح والفشل في أي عمل يستهدف رفع المظالم وإقامة العدل.

السؤال الأول: هل يمكن كسب حملة بالاكتفاء بالوسائل التقليدية للدفاع عن المعتقلين؟

منذ أكثر من أربعين عاما، زرعت منظمة العفو الدولية تقليدا جديدا باستنفار من تستطيع من أعضاء وأصدقاء وشخصيات عامة للدفاع عمن تتبناه كمعتقل رأي. وقد وصلت بعض حملات المنظمة لعدة ملايين من رسائل الدعم والتضامن. وقد نجحت العديد من هذه الحملات في الإفراج عن معتقلين حكموا بالإعدام أو السجن المؤبد في محاكم استثنائية وعرفية جائرة. لكن بنفس الوقت، انتظرت عدة مجموعات الإفراج عن معتقلها أكثر من عشرين عاما أحيانا. أذكر أن المجموعة التي تبنت الدكتور أحمد فائز الفواز قد شعرت في لحظة بأن عملها لم يعد له جدوى بدخوله العام الخامس عشر في السجن، أما المجموعة التي تبنت الضابط خليل برايز مؤلف كتاب “سقوط الجولان” فقد تغيرت عدة مرات كونه لم يفرج عنه إلا بعد أكثر من ربع قرن. ولكن في هذا الوقت كم من الحملات قد نجح، وكم من التحركات قد كانت ذات جدوى. لقد لعبت منظمات حقوق الإنسان دورا كبيرا في خفض عدد المعتقلين السياسيين في العالم العربي بشكل كبير. ولكن لم يعد بالإمكان الاعتماد على الوسائل الكلاسيكية لمقاومة العسف والظلم. وليس بالإمكان أيضا مركزة النشاط بيد مجموعة أو فريق واحد. أهم وسيلة للدفاع عن الحريات والحقوق عامة وعن المعتقلين السياسيين بشكل خاص، هي في خلق الثقة عند كل إنسان بقدرته على الفعل والتأثير. بطاقة معايدة أو رسالة أو تعميم على الانترنيت أو كتابة خاطرة بل حتى التطرق لضحايا القمع في الجلسات العامة وكلما كان هناك مجال للتذكير بأن متروك الفالح لن ينام الليلة مع عائلته وأولاده، وأبو بلال عبد الله الحامد لن يتمكن من الذهاب للمكتبة لشراء كتاب وجلال الزغلامي لن يسهر مع صحبه وعبد العزيز الخير لن يعالج إلا مرضى السجن وسيكتب عبد الكريم الخيواني على جدرانية السجن وسيخطب محمد الحسن ولد الددو في سجناء الحق العام، وسيحاضر عارف دليلة بجدران سجن عدرا، ويرافع عبد الرحمن اللاحم من وراء قضبان سجن الحاير. لن يتمكن أحد من الحضور لمنتدى الحوار الوطني في بيت رياض سيف، وقد نامت فكرة لجنة حقوق إنسان في مجلس الشعب السوري منذ اعتقال مأمون الحمصي. يتردد الكثيرون من أصحاب الرأي في الجزيرة العربية قبل الحديث لوسائل الإعلام منذ حكم على الشيخ سعيد بن زعير بالسجن خمس سنوات إثر حديثه لقناة الجزيرة. سيبقى الخوف في قلب كل صحفي عربي يعيش في الغرب، ما زالت القضبان تحتضن تيسير علوني في سجن داكن في العاصمة الإسبانية.

النسيان هو أسوأ ما يمكن أن يعيشه المعتقل، وروح المتابعة هي الصديق الأوفى لكل مظلوم.

السؤال الثاني: هل يمكن لصمت المثقف أن يحميه من ذل الصمت في حقبة الذل؟

أوجد الاستقرار المستنقعي لأنظمة التسلط ثقافة خوف تأصلت عند عدد كبير من المثقفين الذين يؤثرون سياحة المؤتمرات وجوائز القصور على الخوض في المعارك الفعلية للدفاع عن الكرامة والحريات الأساسية. لقد كان من المفهوم مثلا أن يرفض نجما من نجوم “الشعر من أجل الشعر” التوقيع على عريضة للمطالبة بكشف مصير المفقودين في العالم العربي، ولكن أن يستقيل عن هذه المهمة من يحمل راية الليبرالية والديمقراطية ويتعيش منهما في موائد الغرب والسلاطين، فهذه حقيقة من المآسي التي تواجه المدافعين عن حقوق الإنسان. هناك أيضا ما وراء الاستقالة: صادفني بيان يطالب بإغلاق مكاتب الفضائيات المنتجة للإرهاب وملاحقتها، وبيان آخر بتعزيز وسائل مناهضة الإرهاب، وكأن ما قامت به الإدارة الأمريكية غير كاف. لذا لا بد من تعزيزه بكل العقد التي يحملها قطاع من أشباه المثقفين الذين فشلوا في الدور الثقافي وفشلوا في الدور المجتمعي وفشلوا في الدور السياسي ولم يبق لهم إلا التنطح لمهمة جديدة للمثقف: الدور الأمني.

السؤال الثالث: ما هي أهمية “قانون الإحضار” في النهضة والتغيير الديمقراطي؟

يظن البعض أن بالإمكان اختصار الإصلاح الديمقراطي بإقناع حاكم بمجالسته والاستماع له أو الصمت عن ظالم بانتظار الظرف الموضوعي للتغيير. أوربة التغيير هي التي اعتبرت نقطة البداية في ربط حرية الأشخاص بسلطة القضاء لا بتعسف الحكام. في 1215 سجل ميثاق الشرف الأعظم مبدأ Habeas Corpus (أخذ كل شخص موقوف للمثول أمام القاضي). هذا المبدأ زرع السلامة لأصحاب الرأي وميز بين من يحمل السلاح ومن يحمل الكلمة في مقاومة الظلم. “قانون الإحضار” لم يدخل بعد الفضاء الحكومي العربي. عبد الرحمن اللاحم المحامي لم يحضر بعد وعندما أحضر موكله الشاعر على الدميني لم يستمع القاضي لأية قصيدة من قصائده، بل اكتفى بطرد من رغب بحضور الجلسة، أما أصلان عبد الكريم فقد أحيل لمحكمة أمن الدولة في سورية بعد أكثر من 13 عاما على اعتقاله، في مصر، لا يوجد محكمة عادية لسجين سياسي إسلامي، وقد تجاوز عدد من عرف السجن من الحركة الإسلامية السياسية بمختلف تياراتها وفق تقدير المختصين 25 ألف معتقل منذ اغتيال السادات.  لذا نذكر بأن مثقف النهضة في أوربة كان مثقف الدفاع عن استقلال القضاء وحرية المعتقلين وسلامة النفس والجسد. وقد سبقت الكتابات المناهضة للتعذيب في أوربة كل النصوص القانونية والإقليمية والدولية في الموضوع.

السؤال الرابع: هل يمكن أن ننجح في ملفات يحاربنا بها التيار العولمي؟

اجتاح منطق الإدارة الأمريكية إثر 11 سبتمبر كل أوساط الدفاع عن الحقوق الإنسانية، فثمة من وافق على منطق الاصطفاف مع البنتاغون حتى لا يكون ضده، وثمة من أغمض الطرف عن مترتبات “الحرب على الإرهاب” وثمة من اختار التركيز على الحكومات المارقة. بكل الأحوال انقسمت حركة حقوق الإنسان بين مهرج مروج من جهة ومقاوم ملتزم في الجهة المقابلة. وبينهما اختار البعض دور المتفرج. وقد أثبتت الأيام أن مدرسة اللحاق والاسترزاق محدودة الفعل ومعزولة الأثر عن الناس وهمومهم ومشاكلهم. وهي تصلح لتجميل مبادرة أمريكية أو مؤتمر مفروض من فوق. وليس بالإمكان الاعتماد عليها لبناء ثقافة حقوقية وممارسات ديمقراطية عميقة الأثر في المجتمعات العربية والإسلامية. وليس سرا القول، أن الحس الشعبي هو الذي حقق الفرز بين من يعمل لحقوق الإنسان وبين من يستعملها. وهو الذي صنف الملفات وصنف الأفراد والجماعات. ولعل الفرز الذي جرى سيكون بالغ الأثر على جغرافية المستقبل ليس فقط لحقوق الإنسان، وإنما لوسائل النضال من أجلها وعملية الفرز المجتمعية للدفاع عنها. لقد تمكنت المجتمعات المدنية على الصعيد العالمي من إفشال شرعية العدوان على العراق، ونجحت في فضح انتهاكات حقوق الإنسان في ظل ما يعرف بالحرب على الإرهاب، وجمدت القوانين الاستثنائية في العديد من البلدان بل ووضعت إجراءات حكومة بلير الاستثنائية موضع شك عند أغلبية سكان بريطانيا وجهازها القضائي. الأمر الذي يعني أن تيار رامسفيلد-بوش غير قادر على فعل ما يريد وفرض ما يريد. وهو موضوع مسائلة ومحاسبة اليوم قبل الغد، ولن يغلق ملف الجرائم والعقاب لأن الولايات المتحدة هي القطب الأقوى. ولكن المعركة طويلة وتحتاج لطاقات كثيرة وجبهة واسعة وروح متابعة.

في نهاية القرن التاسع عشر، ومع صعود قضية دريفوس في فرنسا للسطح. وقف قسم من أعضاء جمعية حقوق الإنسان يخاف على نفسه من تلويث اليد بقضية ضابط يهودي مغمور. وتصدى عدد من المثقفين النقديين والأدباء لهذا التيار الانهزامي. ولدت الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان من هؤلاء “المغامرين” وماتت الجمعية بوفاة برنامجها ورؤيتها لفرنسا والعالم.  يوم مأساة قلعة جانغي في أفغانستان، تحركنا مع عدد قليل جدا من المدافعين عن حقوق الإنسان. وقد نصحنا أكثر من صديق بعدم السباحة بعكس التيار، معتبرا الملف “قضية خاسرة سلفا”. بعد أشهر انضم لنا أكثر من منظمة أوربية  وأمريكية غير حكومية، بدأ الناس يشعرون بأن هذه القضية لن يطويها النسيان. اليوم يتحدث أكثر من ناشط عن ضرورة التوثيق لهذه المأساة من أجل المحاسبة قانونية كانت أم معنوية.

الاختباء وراء عموميات الشعار، عدم وضع الأصبع على الجرح، تجنب طرح قضايا عادلة لأنها حساسة، الهروب من مواجهة الضريبة الضرورية للدفاع عن الحريات والحقوق، لا يمكن لهذه المسالك أن تكون جزءا من عملية التراكم الضرورية لتحصيل الحقوق والحريات الأساسية وبناء المستقبل.

لنترك الصامتين لزوايا الكهوف المزينة، ونتذكر، أن إغماض العين عن قضية لا يؤثر في عدالتها، وأن حقوق الإنسان ممارسة نضالية، أما اليأس فهو العدو الأول للناشط واللامبالاة تبقى الخصم المعلن للتغيير.. للحرية ثمن، وحرية الآخر جزء لا يتجزأ من حرية الذات..

18/7/2005