أكتوبر 13, 2024

الثورة السورية على مفترق طرق

moftaraq-toroqفي تسعة أشهر، أعطت السلطة في سورية أسوأ ما عندها، وقد وصلت لحالة توحش معممة بالمعنى الأمني والعنفي، لم يكن في جعبتها القدرة على فهم ما يحدث وفق المعطيات الميدانية للحراك الثوري، وما فتئت تفتقر لقدرة التعامل مع الوقائع بإجابات سياسية ملموسة تستجيب للحد الأدنى من طموحات الحركة المدنية السلمية. تمسكت الآلة الإعلامية الرسمية بخطاب بائس وعدائي تغيب عنه فكرة المواطنة المشتركة في الوطن الواحد بين الثائر والقامع، بين الموالي للسلطة والمطالب بإسقاط النظام. وبذلك زرعت السلطة السورية إسفين العداء المفتوح والمواجهة الشاملة، ليس فقط مع المجتمعين السياسي والمدني، وإنما أيضا مع المجتمع الأهلي الواسع، الحاضن الأول لانتفاضة-ثورة الكرامة. لم يسقط المجتمع الثائر على منظومتي الفساد والاستبداد في لعبة السلطة، كما أنه أثبت بأن الكائن الإنساني الواعي يتفوق على الكائن العفوي أو الطبيعي. فأصر على سلمية الثورة في أكثر المناطق الريفية تهميشا في البلاد. وأثبت مواطنو محافظة درعا، منطلق الثورة ومشعلها المستمر، بطلان قانون نيوتن (لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومعاكس له في الإتجاه) في الصراع الاجتماعي السياسي الواعي من أجل الديمقراطية. فتصدرت شعارات الدولة المدنية التعددية الديمقراطية، والثورة السلمية، منذ اليوم الأول جدران المسجد العمري. وانفضحت رواية السلطات عن المؤامرة والتسلح على صخرة الوقائع في ساحات جاسم والمسيفرة والحراك والحارة ونوى وبصرى الحرير… كنا نعيش حلم الثورة واقعا في اعتصامات البلدات الصغيرة ودرعا البلدة والسرايا.. ودخلت الثورة السورية التاريخ المعاصر كحراك مدني سلمي ينطلق من الريف نحو المدن من أجل إعادة بناء المجتمع المدني والدولة المدنية الديمقراطية على أشلاء دكتاتورية اختزلت علاقتها بالمجتمع بأجهزة القمع والردع. ولعل قرار دخول الجيش مدينة درعا قد أرخ لمسلك جديد ودور جديد للمؤسسة العسكرية قررت السلطة الأمنية اللجوء له مهما كانت نتائج ذلك على وحدة الجيش وعلاقة الجيش والشعب ووحدة البلاد. لكن هذا القرار الخطير، لم يكن له تأثيرات على الصعيد الوطني وتمكنت المدن الأخرى (حماه وحمص ودير الزور والقامشلي وريف دمشق بشكل أساسي) من الإستمرار في التجمهر الواسع بشكل أعطى الثورة بعدها الوطني وبدأت عملية تبلور البرنامج المدني الديمقراطي في حوارات مجتمعية شملت الشرائح الواسعة للشعب السوري. ولا شك، بأن قرار السلطات السورية المجرم بدخول الجيش حماه ودير الزور والبوكمال في يوم واحد (31/7/2011) قد وضع حدا للحضور الواسع للمشاركة الشعبية والتعبئة العامة لكل القطاعات المدنية والأهلية بقوة السيف والنطع. وقد شهدت العشر الأواخر من شهر رمضان عملية تراجع في الخطاب المدني مع دفعٍ إعلامي متعمد  للخطاب الديني انعكست سلبا على الثورة وخلقت حالة اضطراب وقلق في صفوف قيادات شابة حلت محل قيادات أكثر خبرة ونضجا كانت السلطة الأمنية قد نجحت في تغييبها بقوة الحل الأمني العسكري المدمر.

لم تبق العملية الثورية خارج نطاق التأثير الخارجي، سواء كان هذا الخارج سوريا أو إقليميا أو دوليا. وقد بدأت وسائل التواصل الحديثة بأخذ مكان متصاعد على حساب الوقائع الميدانية بحيث لم تلبث أن نجحت في استبدال الصورة الداخلية الواقعية بالصورة الفضائية الانتقائية، والعالم الإفتراضي. وليس من الغريب أن حركة مثل “إئتلاف شباب ثورة 18 آذار” لم تتح لها ثلاث دقائق على أية فضائية خليجية رغم أنها قدمت نخبة من الشهداء والمعتقلين. ويمكن القول أن جماعات الضغط السورية المحترفة والمتفرغة في الخارج، قد نجحت في التأثير على رؤية العالم للثورة وصورتها، وفي التأثير تباعا في خطاب عناصر التواصل من الداخل مع الخارج المرحب والمروج لخطاب محدد سلفا، خطاب عزز بشكل مباشر أو غير مباشر، الفكرة السلطوية التافهة حول المؤامرة. وكان للتهميش المتصاعد لقيادات الداخل الميدانية والسياسية التاريخية التي لم تنسجم مع الخطاب المطلوب بشكل واضح، أن دعم ألوانا إيديولوجية ومذهبية لم يكن لها أي دور أو أثر في انطلاقة الثورة السورية.

أوصلنا التهميش الإعلامي لكوادر متقدمة في الثورة من جهة والتصعيد المهووس لعمليات الاعتقال والاغتيال من قبل السلطة من جهة ثانية، أوصلنا اليوم لحركة اجتماعية مقطوعة الرأس سياسيا أو تكاد ، ومشوشة الرؤية برنامجيا بالتالي. وصار هناك تداخل ما بين المشروع الدكتاتوري من جهة، وبين السعي للمقاومة من خلال أفكار تستجلب التسلح والتدخل الخارجي من جهة أخرى، مثل الشعارات المطالبة بالحماية الدولية والحظر الجوي والمناطق العازلة ومشاركة الجيش الحر المكون من المنشقين عن الجيش السوري ومن ينضم إليهم من المتطوعين. ولهذه المصطلحات كما يعرف دارسو القانون الدولي دلالة واحدة، وهي إطلاق صيرورة العسكرة فيما يجري في سوريا حالياً من صراع داخلي وخارجي،  لتصير جزءا من الثورة يمكن أن يغير طابعها جذريا في مدى غير بعيد. لذا نحن بالفعل على مفترق طرق، يفتح المجال لاحتمالات متعددة ومتباينة، مع ملاحظة أن السيناريو الأسوأ لم يعد بعيدا، في ظل التعبئة الخارجية الحالية، والصداقات والعداوات التي تجاوزت العقلانية السياسية والقراءة المستقلة لمصير البلاد. ولن تكون الحرب الأهلية في سورية خالصة بالمعنى السياسي أو الطبقي، بل ستكون ملوثة بالتدخل الخارجي السافر والتعبئة الطائفية، أي أنها انتصار لكل مقومات الردة والظلام، حرب خاسرة بكل معاني الكلمة ولكل الأطراف، وسيكون أكبر الخاسرين فيها : الثورة الديمقراطية والشعب السوري.

لقد مات النظام السوري في العقول والقلوب، ولم يبق لنا كسوريين سوى أن نحمل مؤسساته وشخصياته الرسمية إلى قمامة التاريخ. قام الشعب الثائر بالعمل الأكبر وصار وضعنا الحالي يشبه جثة ضخمة لكائن مشوه يبلغ من العمر 40 عاماً وأمامها طفل يبدأ بالكاد في اكتساب الوعي بوجوده، و يحاول أن يبعد تلك الجثة عن طريقه كي يرى المستقبل.

علينا كسوريين وعرب، في وضع كهذا، أن نمتلك الجرأة السياسية والأخلاقية على طرح السؤال على الجميع: إلى أين نتجه اليوم؟ وهل سيحصد الشعب ثمن تضحياته حرية وكرامة؟ أم أن كل هذه التضحيات الغالية ستضيع وتهدر بانزلاق الثورة إلى السلاح والعسكرة والتدخل العسكري الخارجي والحرب الأهلية- الطائفية ؟ الواقع أن الإجابة على هذا السؤال تبدو في غاية الصعوبة، فهناك من يتصرف وكـأنه مصاب بعمى ألوان سياسي مزمن، أعني بهذا فئة مناصري النظام والذين يرون ضرورة التمسك ببقائه حتى النهاية، وحتى ولو تسبب ذلك في تحطيم المجتمع والدولة. وفي مواجهة هؤلاء تجد من يقول أن إسقاط النظام السوري بالإمكانات الذاتية يبدو أمراً غير ممكن، ولهذا يرون وجوب الاستعانة بكل من يقول بأنه يقف معهم لإسقاط هذا النظام أياً كان، حتى ولو الشيطان نفسه هو من يقول ذلك، فكل ما يعني تلك الفئة هو أن يسقط النظام بأي ثمن. وفي الواقع كل من هذين الفريقين يخدم الآخر: المناصر للنظام حتى لو تحطم المجتمع يدفع الطرف الآخر إلى طلب التدخل الخارجي. وطلب التدخل الخارجي يخدم النظام لأنه يثير المشاعر الوطنية ويعبئ المجتمع ضد الخطر الخارجي ويبعده عن الهدف الأساس وهو إسقاط النظام والقضاء على  منظومتي الفساد والاستبداد. ولا شك في أن الحل العسكري  مدمر للسلطة والمجتمع على حد سواء، في ظل الخصائص السياسية والاجتماعية السورية الراهنة. وقد يؤدي في النهاية إلى تمزيق البلاد  وتهديد وحدة الجيش والشعب والبلاد. ولهذا أرى أن من الواجب العمل لإسقاط النظام بكل إصرار، مع استمرار التركيز على المسلمات الأساسية للثورة السورية واللاءات التي أطلقت منذ نهاية آذار/مارس الماضي (لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل العسكري الأجنبي). أي التأكيد على سلمية ومدنية الثورة وعلى مناهضة الطائفية وعلى الاعتماد على القدرات الذاتية للشعب السوري. بل أكثر من ذلك، امتلاك الجرأة على القول بأن الثورة السورية إذا تسلحت ماتت، وإذا تأسلمت ماتت، وإذا تدولت ماتت.

يردد السوريون في أغلبيتهم الفعلية رفض الوصاية والدولة الدينية كلاهما: “لا دولة ملالي ولا باب عالي” لأن الأقليات جميعها، بما فيهم الأكراد والمسيحيين وغيرهم يرفضون التدخل التركي ناهيكم عن رفض اليساريين والقوميين العرب والوطنيين عموما لأي دور تركي يفتح كل جروح التاريخ ولا سيما اللواء السليب الذي أسكن فيه ( قائد ) ما يسمى الجيش الحر (الذي لن يتراجع شعبه عن الثورة كما يقول “حتى ولو لم يبق إلا مواطن سوري واحد” !).

لا تزال دمشق وحلب خارج سياق الاحتجاجات، وأعتقد بأن الأمر صار معقدا اليوم وأكثر صعوبة، فبالإضافة للترتيبات والكثافة الأمنية الهائلة، تعتبر حلب والعاصمة من المدن غير المندمجة بالثورة، الأزمة الاقتصادية فيها ضعيفة نسبة للمناطق النائية، والتكوين السكاني متعدد الطوائف والمذاهب، كما أن لسكان كلا المدينتين مكاسب محددة وقطاعات اجتماعية هامة فيها تخاف من غياب الاستقرار حتى ولو كان هذا الاستقرار أشبه بمستنقع مياه راكدة. ولا شك في أن التطرف في الشعارات وتضخيم دور تيارات سياسية خارجية ضعيفة الأثر داخليا، يساهم في تردد المدن والأقليات عوضا عن جذبها، ويبعد الوسط المستقر عن مطالب مضطربة في الشكل والمضمون مثل مطلب الحظر الجوي  ومناطق عازلة والجيش الحر يحميني والمجلس يمثلني… فهذه المطالب لا تشكل قوة جذب سياسي على الصعيد الوطني بقدر ما هي شعارات تتقاسمها بعض بؤر التحرك الثوري والفضائيات. وسيزيد فرص أن تنضم دمشق وحلب للمظاهرات في سورية في حال جرى التمسك بالسلمية ولم يكن هناك تطرف في الخطاب وإن كنت أرى ذلك أصعب اليوم منه بالأمس.

   لا يمكن وضع حدٍ للتفاوت المناطقي والاجتماعي في استقبال خطاب الثورة السورية دون عقلنة الخطاب الثوري والإبتعاد عن الشعبوية والتطرف والتطيف بشكل حازم. فمن السهل توجيه التحية لمحطة تلفزيونية مذهبية من قرية في ريف إدلب، ولكن ما هي النتائج السياسية و النفسية على الوعي الجماعي في عموم سورية لرؤية هكذا مشهد؟ وهل ما نراه على الإعلام يمثل كل السوريين في كل المحافظات ومن كل المكونات؟ أليس هناك نوع من التعميم الذي ينعكس سلبا على قطاعات واسعة من أنصار الثورة يشعرون يوما بعد يوم أن القراءة الوحيدة لمصير الثورة هي القراءة الخارجية التي تحدد المتحدث الرسمي والممثل الشرعي والقيادة المقبولة والبرنامج المسموح به؟    

لقد نجح المال السياسي والإعلام في خلق فجوة حقيقية بين مكونات المعارضة السورية بفرضهما سياسة أبناء الست وأبناء الجارية وخلق تفاوت كبير بين أطراف المعارضة بشكل انعكس وينعكس على قدرة جمعها في برنامج ثوري مشترك وعمل نضالي فاعل. واليوم ونحن أمام تحدي الوحدة البرنامجية و”المؤتمر السوري العام” لكل قوى التغيير الديمقراطي، نبصر التباين المتزايد في وجهات نظر القوى السياسية المعارضة في قضايا مركزية كالتمثيل المجتمعي والتدخل العسكري الخارجي والعلاقة بين الوطنية والمواطنية والتحالفات الإقليمية والدولية والعلاقة بالإسرائيلي والمقاومة. وتأتي جملة عوامل ذاتية تتعلق بالنشأة السياسية والمسلك ومصادر التمويل لتعقد العلاقة بين مكونات الحراك الثوري المختلفة. وليس من المبالغة الحديث عن حالة بارانويا سياسية حولت العديد من المعارضين القدامى أو الجدد إلى مهووسين بالرئاسة أو الوزارة في بلد لم تسقط الدكتاتورية فيه بعد. بل وصل الأمر بالبعض لإعطاء ما لا يملك لمن لا يستحق، أو بيع السمك في الماء.. وما أحوجنا كسوريين للكثير من التواضع ولقليل من التضحية والعطاء، فالخلاص من الدكتاتورية يحتاج قيما أخلاقية ومثلا عليا تسمح بتفكك القائم وزرع الأمل في القادم، ولا يمكن لكل سلوك أومنطق يعيد انتاج واستهلاك وسائل السلطة التسلطية نفسها أن يشكل رافعة بناء للمستقبل الديمقراطي.

سوريا اليوم على مفترق طرق. والطريق الثوري للجمهورية الديمقراطية المدنية لم يحتل المكان الأول بعد،  الوضع اليوم صعب للغاية، ولكن حتى اللحظة، لا زالت لدينا مقومات وقيم وطموحات وتضحيات الإنتفاضة-الثورة، وهي أقوى من مقومات الثورة المضادة. لهذا، ورغم أن المعركة بالتأكيد صعبة وشاقة، فإننا محكومون بالأمل والنجاح.

———————-  

الجزيرة نت 8/12/2011