في 18 آذار العام 2011، انطلقت في شوارع درعا أهم حركة مدنية شعبية في تاريخ سوريا الحديث. استلهم هذا التحرك روحه من الوضع الثوري الذي خلقه «الربيع العربي»، وزرع بصماته الخاصة منذ الأيام الأولى كتحرك سلمي مناهض للفساد والتسلطية يجمع بين مطالب محلية وأخرى وطنية للتغيير الديموقراطي. ومنذ الأسبوع الثاني للحراك المدني، أطلقتُ على إحدى الفضائيات ما صار يعرف باللاءات الثلاث: لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل الخارجي. وذلك كان بمثابة استراتيجية عمل سياسية أساسية لضمان وحدة الأراضي السورية ووحدة النضال والشعب ومن أجل تحويل انتفاضة الكرامة إلى قوة جاذبة للأغلبية السكانية بكل معنى الكلمة. وكان ذلك عبر تحدي كسر الحصار، أي الخروج من محافظة درعا إلى عموم سوريا. وقد كان لريف دمشق وبانياس دور كبير في كسر الطابع المحلي للانتفاضة وانتشارها في معظم المناطق السورية.
لكن هذا الانتشار تم في عالمٍ مضطرب وفي ظل غياب وحدة الأداة السياسية وتعدد نقاط التأثير وعدم التوافق بين عناصر دخلت بعشرات الآلاف من الشبيبة في العمل العام للمرة الأولى، وأكثر من سلطة تحاول كل منها استقطاب وتوظيف وضع استثنائي بكل معاني الكلمة سواء كان ذلك في العالم الافتراضي أو الإعلامي أو التحالفات والعداوات الإقليمية والدولية. وبالتأكيد، لم يحتج الأمر لأكثر من ثلاثة أشهر، حتى دخلت عدة مشاريع تجمع بين الصراع على سوريا والصراع في سوريا، وتعتبر ما يحدث فرصة لتغيير معطيات أساسية في الجغرافية السياسية للشرق الأوسط.
لم يكن دخول الأطراف غير السورية في الصراع منسجماً مع الألحان التي أنشدتها ثورة الكرامة والحرية. فمنها من تحدث في ضرورة إسقاط السلطة التي وصفها بالعلوية وكسر الهلال الشيعي بمحور سني يمتد من أنقرة إلى الرياض، ومنها من اعتبر الحدث السوري فرصة للتخلص من أي وجود عسكري روسي في البحر الأبيض المتوسط، وهناك من سعى لتطييف الصراع ومن سعى لأسلمته أو سلفنته. في وقت رأت روسيا والصين في مستقبل سوريا الفرصة للانتقال من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب، متعدد مراكز القرار والتأثير. ولعل من مفارقات هذا الجزء من العالم أن يكون الحدث السوري فرصة لعودة سياسة خارجية سعودية أصيبت بالتصلب اللويحي منذ نهاية القرن الماضي، وخاصة بعد أحداث 11 أيلول العام 2001.
منذ اليوم الأول، تعاملت السلطة مع الحدث تعاملا أمنيا قائما على نظرية المؤامرة، ورفضت فكرة الحراك الشعبي العفوي. وقد اتخذت ثلاثة قرارات كبيرة جعلت من المؤسسة العسكرية طرفا أساسيا في طبيعة الحركة الشعبية وشكلها ومضمونها. أولها في 24 نيسان العام الماضي، عندما دخلت قوات الجيش مدينة درعا، الثاني في أول أيام رمضان في مطلع آب العام الماضي عندما هاجمت قوات الجيش ثلاث مدن سورية في يوم واحد (البوكمال، دير الزور وحماه) والثالث في الردود الوحشية في النصف الثاني من شهر رمضان على الحراك الشعبي في الساحل وحمص وريف دمشق وإدلب. ولعل هذه المحطات كانت أساسية في استجابة قطاع من المنتفضين إلى فكرة الدفاع عن النفس والتسلح باعتبار الاستعمال المفرط وغير المتناسب للعنف من قبل السلطة قد فاق كل تصور.
بدأ الدفاع عن فكرة تسليح المعارضة أول ما بدأ بعد قتل جماعة من المتحمسين في جسر الشغور أكثر من مئة وعشرين عسكريا في الأسبوع الأول من حزيران، تبع ذلك خروج قرابة عشرة آلاف لاجئ إلى الأراضي التركية. وقد تعززت هذه الفكرة بسرعة في الأوساط المتدينة عبر الفكرة التقليدية للجهاد، واتخذت عبر قنوات مذهبية خليجية طابعا مذهبيا واضحا. ويمكن القول إن شبكة الدعم المالية غير السورية الأولى والأكثر تنظيما كانت من الجماعات السلفية الخليجية، خاصة في السعودية والكويت وقطر. قاومت التيارات السياسية الديموقراطية والحركات المدنية هذا الاتجاه في البدء، لكن انتشار الحل الأمني العسكري في عموم البلاد خلق المناخ المناسب لقبول هذه الفكرة ومحاصرة أنصار السلمية في التظاهرات في عدة محافظات. وكان للتوحش الأمني الذي طال في أقبية التعذيب والاغتيالات والاعتقالات خيرة كوادر الحركة الشعبية دور كبير في احتضان العنف المضاد. وقد وقفنا بحزم ضد فكرة التسلح باعتبارها الأرض المفضلة للسلطة الدكتاتورية، وكنا رأينا أن السلطة أضعف بكثير في مواجهة حركة سلمية منها في مواجهة حركات مسلحة.
كانت النتيجة السلبية الأولى للتسلح محاصرة التيار الديموقراطي المدني الذي وضع برنامجا لنفسه يقوم على تحقيق أوسع استقطاب شعبي ينقل الانتفاضة إلى ثورة ديموقراطية عبر التكامل بين: الريف – المدينة، الأقليات – الأغلبية الاسمية، العلمانيين – الإسلاميين، الشرعية التاريخية للأحزاب الديموقراطية – الشرعية الثورية للحركة الشبابية. فقد انشق هذا التيار بين اتجاه شعبوي populist يعتبر الحركة الشعبية على حق في كل خياراتها واتجاه عقلاني يعتبر مهمة السياسي ترشيد الحركة العفوية وليس الجري وراءها. وقد أنجبت عملية التسلح جماعات متشظية ومبعثرة لا جامع لها سوى الاسم، أقل من نصفها من المنشقين عن الجيش ومعظم عناصرها من المتطوعين. وحتى اليوم، لم تنجح هذه المجموعات لا في التقارب الهيكلي أو في رسم استراتيجية سياسية عسكرية في وجه السياسة الأمنية العسكرية للسلطة.
جمعت السلطات التركية تباعا المنشقين من الجيش على أراضيها في معسكر خاص وأعلنت مجموعة من هؤلاء ولادة «الجيش الحرّ» تحت إشراف الاستخبارات العسكرية التركية. وقد استجابت عدة وحدات منشقة داخل سوريا لهذا التوجه، فيما بقي القسم الأكبر من المسلحين يحمل «شعار» الجيش الحر من دون أي تنسيق تنظيمي أو انسجام سياسي. ومع تصاعد المواجهات العسكرية وحصار ثم مداهمة حي بابا عمرو في حمص، صار دعم المسلحين بالسلاح علنيا، وعبرت السعودية وقطر في تصريحات للإعلام عن دعمها للتسلح. وقد وضعتا أموالا طائلة لهذا الغرض كانت على حساب المساعدات الإغاثية والسياسية التي لم تعد لها الأولوية عند هاتين الدولتين وعند السلفية الخليجية غير الحكومية. ويمكن القول إن ضخ السلاح إلى داخل سوريا وتعويم وتضخيم ظاهرة «الجيش الحر» ودخول أكثر من مئتي جهادي أجنبي الأراضي السورية في الأشهر الستة الأخيرة قد أدى دورا كبيرا في انحسار قطاعات واسعة من السكان عن الحراك الاجتماعي، خاصة من الأقليات وأبناء المدن الكبيرة ونشطاء الحركة المدنية السلمية. فقد كانت أولى نتائج التسليح والتمويل الخليجي مذهبة وتطييف الخطاب السياسي بشكل قوي وسلفنة قطاعات متدينة محافظة في عدة محافظات.
لا أفق منظورة للتقارب بين الجماعات المسلحة داخل سوريا، كذلك لا استراتيجية عمل مشتركة لها. وقد شكلت خطة كوفي أنان، بمعنى من المعاني، مخرجا مشرفا ومفيدا لكل من يحمل السلاح خارج الجيش السوري، باعتبارها طالبت بوقف إطلاق النار وانسحاب الجيش والمسلحين من المدن وإغاثة أكثر من مليون متضرر مباشر من المواجهات المستمرة منذ 15 شهرا وإطلاق سراح خيرة كوادر الحراك الاجتماعي المدني. إلا أن البعض اعتبرها فرصة جديدة للنظام لكسب الوقت، ولم يتعامل معها جديا، أما السلطات السورية فقد تصيدت أي اختراق لوقف إطلاق النار لتشن حملات عسكرية واسعة لضرب ما تستطيع في مناطق وجود المسلحين نجم عنها عدة مجازر في صوران وخان شيخون والحولة وحمص.
وقد تبين منذ الأسابيع الأربعة الأولى ضرورة إعطاء خطة أنان زخما جديدا يعطيها فرصة للنجاح، سواء في توسيع البنية (مضاعفة العدد والتجهيزات) والوظيفة (تكوين فرق متعددة الميادين interdisciplinary teams مختصة في التحقيق مع خبراء متفجرات وأسلحة)، والهدف (توضيح الأفق السياسية للخطة عبر رسم معالم الطريق للمرحلة الانتقالية). ويمكن القول إن التحرك الروسي لجماعة اتصال كذلك لمؤتمر دولي شامل حول سوريا يمكن أن يفتح الأفق نحو إعادة الاعتبار للسياسة بعد تهميشها وراء أصوات المدافع. إلا أن هذا يطرح علينا السؤال: هل يمكن اليوم السيطرة على القرار السياسي للأطراف المسلحة أم أن فوضى التسليح ستنعكس مباشرة على فرص نجاح أي حلّ سياسي قادم للانتقال الديموقراطي في سوريا؟
رئيس هيئة التنسيق الديموقراطية في المهجر.
نشرت بالسفير 25-06-2012