ديسمبر 06, 2024

استفتاءان في ذمقراطية واحدة

Elections illusionرغم أن أهم الموسوعات السياسية والعامة تصنف الاستفتاء كشكل من أشكال الديمقراطية المباشرة، فقد ارتبطت الكلمة في الذاكرة السياسية الجماعية العربية بالاحتيال الحكومي لجعل المواطنين شركاء في جريمة اغتصاب الحريات (الذم –قراطية). ففي ظل غياب فصل فعلي بين السلطات الثلاث، وتأميم أو تكميم السلطة الرابعة، وسيطرة الوسائل التنفيذية السياسية والأمنية على مفاتيح ومراكز القرار السياسي، تفقد أية تقنية من تقنيات الديمقراطية معناها ومبناها. وتصبح ممارسة مفرغة من الغرض الذي وجدت من أجله. فكل تقنية من تقنيات الديمقراطية يصبح لها معنى ومبنى عندما تجسد ذاتها كقوة احتجاج ومقاومة مدنية يومية. أولا، عبر اعتبار المواطنين جسم يملك إرادة عاقلة ويملك الحق في التعبير عن اختلاجاتها السياسية. ثانيا، في استيعاب فكرة مركزية تقول بأن الطابع العدواني للإنسان، الذي تطرق له القرآن الكريم في النفس الأمارة بالسوء وأقرت به العلوم الأنثروبولوجية والنفسية، يحتاج إلى تعزيز مقومات اقتصاد العنف عبر المشاركة في الفعل العام. عبر تحويل الحرب الأهلية المفتوحة من داحس والغبراء إلى تفعيل دور كل الرموز السلمية بكل اللاعبين في الحلبة العامة. غياب هذا التكافؤ في المشاركة في المبارزة السلمية الحديثة، المسماة بالديمقراطية، يعني بكل بساطة: التواطؤ العلني للسلطة السياسية مع جينات العنف المجتمعي التي تزج بالقارب الجامع للدولة والمجتمع بين أمواج التمرد العشوائي والقمع الفج.

عندما لا تستوعب السلطة السياسية ذلك، وتعتقد أن بالإمكان القفز فوق الديمقراطية بتقنيات تجمع بين الاستفتاء والبلطجة، تحتاج السلطة التنفيذية لتقنين القمع وتحويل الدستور إلى وسيلة لاغتيال مقوماته. ذلك على نمط المادة 179 في مشروع تعديل الدستور المصري، التي تقول: “تعمل الدولة علي حماية الأمن والنظام العام في مواجهة أخطار الإرهاب، وينظم القانون أحكاماً خاصة بإجراءات الاستدلال والتحقيق التي تقتضيها ضرورة مواجهة تلك الأخطار، وذلك تحت رقابة من القضاء، وبحيث لا يحول دون تطبيق تلك الأحكام الإجراءُ المنصوص عليه في كل من الفقرة الأولى من المادة 51 والمادة 44 والفقرة الثانية من المادة 45 من الدستور. “ولرئيس الجمهورية أن يُحيل أية جريمة من جرائم الإرهاب إلى أية جهة قضاء منصوص عليها في الدستور أو القانون”.

صحيح أن الديمقراطية لا يمكن أن تنتج عن أي نص مكتوب. فهي عندما لا تجسد أسلوب وإرادة وجود وشكل للأخلاق العامة وناظم مسلك جماعي، تبقى في إطار خداع النخبة الحاكمة للجموع المحكومة. لكن الديمقراطية عهد وعقد بين الدولة بمؤسساتها المختلفة مع المجتمع بالجغرافية السياسية والاجتماعية والثقافية التي ينتجها هذا المجتمع نفسه. والمصيبة كل المصيبة، عندما تسعى السلطة السياسية لاستئصال مرجعية سياسية أو أكثر من الخارطة عبر استعمال الآليات المفترض بها ضمان حق التواجد والمشاركة للجميع. 

 لشرح هذه الفكرة بشكل عملي، أعطي كمثل هذه الكلمات: في المجتمع الديمقراطي يعني تدخل المثقف أو الحقوقي أو السياسي صوتا مؤثرا في رأي عام موجود. أما في ظل تغييب فكرة الرأي العام (لأن القطيع لا يمكن أن يكون عاما ولا يملك الحق في رأي)، نشر هذه المقالة قبل الاستفتاء أو في يوم الاستفتاء أو بعده سواء. لأن النتيجة معروفة للقاصي والداني، وغير المعروف هو بدعة الرقم. فبعد أن أصبحت التسعات المتتالية (9999 بالمائة) مثارا للسخرية والهزار الجماعيين، صار من صالح “المنتصر” أن يتلاعب بالنتيجة نحو الأسفل قليلا كمؤشر للمصداقية.  

من كان يستطيع التأثير حتى على نفسه  في جمهور صوّت ذات يوم 100 بالمائة لصدام حسين. ألم يكن بإمكان النظام السابق أن يكون أكثر حنكة فيعطي نتائج كتلك التي خرج بها استفتاء أكتوبر 2005 على دستور الاحتلال (78 بالمائة)؟

أين هو الرأي العام الذي سيؤثر في نسبة الاستفتاء؟ وكيف يمكن رصده بأمانة؟ أين هي محطات التلفزيون التي تعطي لكل حركة سياسية حجما متساويا على القنوات التي تمول من ضرائب المواطنين؟ أين هي فرص المشاركة السياسية المتساوية في حملات التعبئة والتعبئة المضادة؟

برهافة حس الشاعر، كتب جورج حنين في تقييم الاستفتاء قبل استفتاءات الأسد والسادات ومبارك:  “إحدى  “فطن”  التوجه القانوني الديمقراطي المزعوم كان في تصوير الاستفتاء كأداة مثالية في مجالي الاختيار والقرار الشعبيين. والحقيقة أن اتخاذ الشاهد بالقفز من فوق رؤوس ممثليه،  ودعوته لإعطاء رأيه في هذا الشأن الوطني أو ذاك يبدو كأفضل طريقة للتعبير عن حقيقة شعوره. لكن، وعلى النحو ذاته الذي يجعل الشاهد أمام المحكمة يتأثر بالضرورة بنتيجة التحقيق فإن الناخب المشارك في استفتاء يتأثر بالمعالجة المسبقة التي تشكل الاستشارة نتيجتها. ويفترض في فذلكات الصياغة السياسية أن تضمن دون كبير خطر، جّر  جمهور الناخبين لاعتماد الخيار المبسط القائم على الحسم  بـ  “نعم”  أو  “لا”.على أية حال ليس بدون سبب أخذ الاستفتاء مكان الصدارة في أكثر البلدان بعدا عن الديمقراطية”.

بعد قرابة شهرين، سيعين حزب البعث العربي الاشتراكي وفق الدستور المجمد بحالة الطوارئ (إلا من مادته الثامنة: حزب البعث قائد الدولة والمجتمع)، سيعين الدكتور بشار الأسد مرشحا واحدا لاستفتاء أوحد. وسيختار الشعب السوري لرئاسة جمهوريته بين بشار الأسد وبشار الأسد. ثم ستعلن النتيجة على الملأ انتصارا جديدا للحزب والشعب. وستشرح لنا الصحافة الوحيدة المقبول بها في السوق كيف اختار هذا الشعب الوطني الصادق القائد ابن القائد، الذي وقف مع المقاومة وناهض العدوان وطالب بإعادة الجولان…

ألم يستفتى الشعب فأفتى.. أليست هذه هي الديمقراطية؟؟

ألم يعلمنا الأب والابن أن الديمقراطية في المرسوم التشريعي رقم 4 تاريخ 12/4/1990 تحدد عدد أعضاء مجلس الشعب ب250 عضوا منهم 167 عضوا من حزب البعث الحاكم وأحزاب الجبهة و83 من المستقلين؟ مما يجعلهم مسيطرين بأكثرية ثلثي الأعضاء، أحب المواطن أم كره.

ألم تعلمنا ديمقراطية آل مبارك أن الأحزاب الممنوعة لا مكان لها بعد اليوم، حتى في قوائم المستقلين؟

ألم تصبح الديمقراطية العربية اليوم كالديمقراطية في أثينا قبل 25 قرنا، أي لأقلية حاكمة تسمى بالمواطنين وأكثرية مهمشة تسمى بالبرابرة؟

ثم ما هو الفارق بين مصر مبارك المستميتة في الطاعة للسياسة الأمريكية وسورية الأسد التي “تعلن” مناهضتها لهذه السياسة؟ أليس كلا البلدين يسير على نهج سياسة واحدة مناهضة للديمقراطية؟ أليست مسيرة السلطة في سورية ومصر اليوم هي الانتقال من أمن الدولة إلى دولة الأمن؟ لماذا لا تشفع لنا التحالفات بشيء من كافيار الشورى الإيرانية أو حلويات الديمقراطية الأمريكية؟   

لم تعد إيران تتحدث إلا عن الأمن القومي والكرامة الوطنية. ولم يعد أبو الغيط يتحدث إلا عن إرهاب عمره 80 عاما، وعن حاجة ماسة للإنسان المصري للأمان والأمن واستقرار المياه الآسنة في المستنقعات. وتوافقه الآنسة رايس على أن السؤال الأهم في الشرق الأوسط (كبير أو صغير لم يعد الأمر بمهم)، هو الأمن. لذا استبدلت زيارة المراكز غير الحكومية الصديقة لحكومتها باجتماع مع مدراء الأمن في أربع بلدان يمكن أن نتهمها بما نحب إلا بداء الديمقراطية.

يكتشف الناس الديمقراطية في سلطة قضائية يشعرون بالقدرة على الاستنجاد بها. في سلطة إعلامية قادرة على الحديث دون خوف والاستمرار دون تدجين. في سلطة مضادة تملك كل حقوق التواجد الشرعي في المجتمع. في المساواة في المشاركة السياسية والمدنية دون تمييز لأي سبب كان. وأخيرا في ولادة قناعة جماعية تعتبر التداول على السلطة وسيلة أساسية من وسائل غسل الدم الفاسد في الجسد، وإطلاق العنان لكل الكفاءات الجديدة..

صحيح أن الديمقراطية في عصر الحرب على الإرهاب ثكلى، دون أمثولة تحتذي بها أو دولة تصدق معها. لكن ألا يشكل هذا فرصة تاريخية للإبداع والتجديد في التصور والأداء الديمقراطي؟ أداء أرخ، كلما نجح، لفكفكة العصبيات العضوية أو عل الأقل تهميشها لصالح علاقات مدنية بين البشر. فليس نسخ هذا الأنموذج أو ذاك سوى تقليد يحارب الزمان والمكان والعقليات. الفرنسي خير من يعيد تصوير ألأنموذج الفرنسي وكذلك حال الأمريكي.. لكن تحول ديمقراطية المحتل إلى دم – قراطية التوحش يعيدنا إلى الأصالة الواجبة الوجوب لابتكارات تنتجها مجتمعاتنا من خارج فضاءات السلطان، أي دون التواطؤ مع  ذم- قراطية الأمن والعسكر، التي تسحق مجتمعاتها في تونس ومصر وسورية وليبيا والجزائر. 

2632007