أكتوبر 13, 2024

الدولة والثورة في سوريا

1_1072610_1_34تدخل انتفاضة الكرامة أواخر الشهر الرابع وتستعد لتحدي شهر رمضان المبارك. وبقدر ما يحمل هذا الشهر من شحنات رمزية لكل السوريين على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم، بقدر ما صارت المشتركات الجامعة للمجتمع السوري شرطا واجب الوجوب لصيرورة الانتفاضة ثورة، أي القدرة على النقلة من عملية التغيير في الإنسان إلى تغيير المؤسسات.

لا شك بأن التواجد خارج البلد قد حرم المرء من عيش لحظات تاريخية خاصة، لكن وسائل التواصل سمحت لنا بالتفاعل والتداخل بشكل كبير بحيث لم تكن النقاشات والمشادات وحسب بين المهاجرين والمهجّرين، وإنما كانت بين الداخل والخارج وبشكل شبه يومي. الأمر الذي سمح بمتابعة دقيقة وأمينة، رغم البعد الجغرافي، وحوارات خصبة وغنية رغم اكتشاف الناس بعضها البعض.

في مئة يوم، تمكن الأحرار من انتزاع هيبة السلطة، أي تعطيل الأخطبوط الأمني “الكلي القدرة”، ونجحوا في إصدار شهادة وفاة للشرعية التي وقفت عليها مؤسسات الحكم، بحيث يمكن القول إن التسلط “الوطني” والفساد “الوطني” والتنكيل “الوطني” قد سقطت جميعها أمام شرعية الشعب الجامعة لسيادة الدولة وكرامة المواطن، وقد سقطت كل عمليات الإبعاد القسري للإنسان عن الشأن العام خلال عقود زمنية بأسابيع. وصرنا نتمثل المستقبل في قطيعة كاملة مع منظومة الفساد والقهر المخابراتي. بهذا المعنى ماتت الدكتاتورية، أي توقفت قدرتها على خلق جماعات واسعة تخاف من التغيير وتؤثر الصمت على التعبير.

ولعل أهم دروس الأسابيع الماضية هو أن الحل الأمني العسكري قد أصيب بحالة موت سريري بفضل المقاومة المدنية السلمية التي حولت الرصاصة التي تطلق على المواطن الأعزل إلى جريمة ضد الإنسانية، وأن العنصر الأساس في الحراك الاجتماعي المدني هو المجتمع السوري نفسه، الذي يبتكر ويقيّم ويصوب ويختار، دون تدخل أو دعم من أحد، وأن الأطروحات المذهبية والطائفية ما زالت مهمشة رغم كل عمليات التوظيف لشحطات تصدر من هنا وهناك.

لقد اخترقت انتفاضة الكرامة البنيات النفسية والذهنية للأشخاص ونقلت معسكر الخوف لصف القامع ونجحت في بعث الحياة في العلاقات المدنية والسياسية والاجتماعية.

إلا أن الضربات القاسية التي تلقاها الحراك المدني من أجهزة الأمن والقوات الخاصة ترك العديد من العقابيل والجروح، وثبّط الحراك الاجتماعي في العديد من المناطق، بل خلق حالات شحنٍ ومواجهات عززت رهاب التغيير في صفوف الكثير من أبناء الأقليات الدينية، وطلعت علينا دعوات، مع أو بدون فتاوى، تتحدث عن الدفاع المشروع عن النفس بكل الوسائل بما في ذلك العنف (والأصح تسمية هذا الرأي بالدفاع غير المتكافئ عن النفس بوسائل المؤسسة الأقوى لتنظيم العنف في المجتمع)، في حين عوضت جماعات أخرى عن رفضها العنف ومعاناتها منه بعنف لفظي في الشعارات والكلمات.

ويمكن القول في جمعةٍ طالبت برحيل الأسد، تصدرتها حماة النواعير بكل المعاني والرموز، إن حراك مدينة دمشق ليس في المستوى المتناسب مع أهمية العاصمة، وما زالت أكبر المدن السورية (حلب)، محدودة الحراك والتشارك.

وثمة حالة انقطاع قسري بين التظاهر وعملية إنضاج الوعي السياسي المواكب له، خلقته الأجهزة الأمنية التي مارست سياسة الأرض المحروقة بحق كل محاولات الاعتصام التي تسمح بالتفاعل الشعبي والحوار في معمعان الحركة المدنية، كما شاهدنا ذلك في محافظتي درعا وحمص. الأمر الذي جعل الشعارات تنفصل عن وعيها السياسي بحيث تحولت فيه أحيانا عديدة إلى مطالب “عقائدية”، أي مغلقة وثابتة تبتعد عن الدينامية النضالية وتفاعلات الحياة وابتكار الردود الأفضل على التحديات الأصعب وتخفف من الجاذبية الضرورية لانضمام قطاعات أوسع من المجتمع.

وبالطبع، لم يكن للفضائيات أو العالم الافتراضي أن تسهل مهمة الناس، خاصة عندما تدخل الفضائيات معركة الكم على حساب النوع، وتصبح في أحيان عدة طرفا أكثر منها مؤرخا للحظة. أو يصبح المرجع شهودا قليلي الخبرة في الرصد الموضوعي والمتابعة السياسية والتحليل. الأمر الذي يخلط بين الواقع النضالي والصورة التي يعرض بها بحيث ننتقل من الثورة إلى المجتمع المشهدي دون رؤية الفواصل والحدود بينهما.

لم تنجح السلطة في تعبئة موازية لتلك التي سبقت الخطاب الأول للدكتور بشار الأسد بعد ذاك اليوم، في حين استطاعت الحركة الشبابية من كسر طوق المحافظة (درعا) إلى عموم الوطن. وتبقى المشكلة في أن هذا النصر قد سار بمعدلات بيانية سريعة ثم عاد إلى وتيرة أقل وتفاعل أكثر حذرا.

ولا شك بأن ضبابية الصورة التي قدمتها معارضة “أنطاليا” باعتمادها التجميع الكمي، وتأخر المعارضة الديمقراطية داخل سوريا، وتراكم أخطاءٍ داخل وخارج البلاد حَمَلَ وزرها الأحرار دون أن يكونوا طرفا بها، والتجييش اللفظي لعدد من المسؤولين الغربيين الذي أعطى انطباعا بأن حلف الناتو يعد العدة لسيناريو ليبي مكرر، الأمر الذي أرعب قطاعات واسعة من الناس من فكرة سيناريو التدخل العسكري الخارجي.

لقد أعطى التعتيم الإعلامي للإشاعة والتضخيم وعدم القدرة على التحقق قوة حضور كبيرة، وكان لهذه العوامل مجتمعة الإسهام في فرملة روح المشاركة عند رجال الأعمال وميسوري الحال وحزب (الله يسترنا من المجهول) الذين آثروا سلامة الأمر الواقع على مرارته خوفا من التغيير الثوري واحتمالاته.

ولعل من أهم عوامل التردد المجتمعي في أوساط غير قليلة من الطبقات الوسطى، خاصة منها الكوادر غير المسيسة، إدراك هذه الفئات لواقعة اختطاف الدولة من قبل السلطة وغياب مفهوم النظام بالمعنى السياسي العميق للكلمة.

فإن كان بالإمكان تحقيق انتقال غير عنيف في مصر بالرغم من سقوط رأس النظام، فذلك لوجود مؤسسات دولة لم تتمكن الحقب المختلفة منذ حركة الضباط الأحرار إلى ثورة 25 يناير من تأميمها أو مصادرتها بشكل كامل. الأمر الذي يسمح لأجهزة الدولة غير الحزبية بإدارة الأمور في الفترة الانتقالية التي تحتاجها الثورة ويتطلبها التغيير، في حين أن ضرب قمة السلطة في سوريا ومواجهة المؤسسة العسكرية يعنيان تفتتا غير محدود وغير مضمون العواقب على مستقبل الدولةِ المصادرةِ نفسها. كون هذه الدولة رهينة السلطة بكل معاني الكلمة.

وليس من الغريب أن يخوض معنا حتى اليوم، عدد من المثقفين المستقلين أو المعتقلين السابقين حول دور المؤسسة العسكرية كضمانة أخيرة للوحدة الوطنية ووحدة الأراضي السورية، أو أن نسمع جملا على نمط “ثلاث سنين دكتاتورية ولا عشر سنين حرب أهلية”.. لعدم قدرة البنيات الإدارية والبيروقراطية الهشة والمؤدلجة على ضمان استمرار مؤسسات الدولة.

من هنا نشاطر التحليل كل من يعتبر توريط المؤسسة العسكرية في الأحداث المسلك الأكثر خطورة وإجراما من مسالك السلطة الأمنية فيما حدث، لأنها وضعت المجتمع في مواجهة مفتوحة مع الجيش ووضعت الشعب أمام خيارات تدميرية لا تستثني الفوضى والحرب الأهلية من سيناريوهاتها. الأمر الذي يتضمن تفتت المؤسسة الوحيدة التي تضمن وحدة البلاد بعد نصف قرن من الدكتاتورية.

إن تحديات الأحرار في سوريا لا تتوقف عند المواجهة القمعية الشرسة، بل تتعدى ذلك لكل مخاطر الوجود والوجدان الوطني. وإن كان مفهوم المسؤولية تجاه سوريا قد أصبح عند الممسكين بزمام الأمور متداخلا مع وجودهم في السلطة، فإن أغلبية الشعب السوري ما زالت تعتبر قوة الدولة الديمقراطية من مقومات الثورة نفسها، وسيادة سوريا الغد في الارتباط العضوي بين مفهوم الوطن والمواطن. بحيث لم تغب فكرة البناء الجديد مع كل من لم يرتكب جرما من السلطة القديمة في رفض لفكرة الاستقصاء والاستئصال التي زرعتها الدكتاتورية ويرفض الأحرار إعادة نسخها ومسخها في أنموذج الغد.

لقد خاضت الأجهزة الأمنية معركتها الأخيرة على حساب اللحمة المجتمعية والوحدة الوطنية، الأمر الذي يتطلب من الثوار حكمة عالية وقدرة على استقراء أوراق عمل تجمع بين الروح الثورية والتغيير من جهة، والعقلانية الهادئة من جهة أخرى.

ولا شك بأن استعراض نقاط الضعف والقوة، وتحويل كل منزل ومضافة إلى ملتقى حوار بين السوريين، واعتبار كل تجمع مدني أو ثقافي مرخص به بمجرد ممارسة حق التجمع والتنظم الجمعياتي، أي بعلم وخبر.. ففي أجواء حوارات سياسية ومدنية تعم البلاد، تتوفر الظروف الصحية للبحث عن مواضع التقاطع بين المطالبين بالإصلاح من فوق والثائرين من أجل التغيير في الشارع.

ولا يمكن أن تتحقق عمليات فرز حقيقي على أساس برنامج يتم الانتساب إليه وخارطة طريق يتم رسمها دون توفر الشروط الطبيعية للحوار المجتمعي الواسع بعيدا عن الحل الأمني والاعتقال الاعتباطي وقمع المتظاهرين.

رغم كل الظروف القاسية للتجمع والتفاعل بين السوريين، يمكن القول اليوم إن الرد الأكثر قربا من مطالب الحركة الاجتماعية المدنية على عرض الحوار الذي تقدمه السلطات السورية، يكمن في الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني عام للحوار يضم الشباب وممثلي كافة القوى السياسية والهيئات والشخصيات العامة ذات الصلة في المجتمع، يهدف إلى الاتفاق على البرنامج والآليات المناسبة للانتقال بالبلاد إلى نظام ديمقراطي مدني تتحدد ملامحه الرئيسية في:

1ـ دستور يرسي عقداً اجتماعياً جديداً يتبنى الدولة المدنية شكلا للحكم وحقوق المواطنة المتساوية لكل السوريين بصرف النظر عن المعتقد والعرق والإثنية والجنس، ويكفل التعددية السياسية وإلغاء المادة الثامنة من الدستور الحالي، وينظم التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، ويرشِّد مهام وصلاحيات رئيس الجمهورية ويحدد عدد الدورات الرئاسية، ويضمن استقلال القضاء والفصل بين السلطات الثلاث.

2ـ تنظيم الحياة السياسية عبر قانون ديمقراطي للأحزاب، وتنظيم الإعلام والانتخابات البرلمانية وفق قوانين توفر الحرية والشفافية والعدالة والفرص المتساوية.

3ـ الإلغاء الفعلي لكل أشكال الاستثناء من الحياة العامة، بوقف العمل بجميع القوانين ذات العلاقة بالأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية، وإلغاء جميع القوانين والمراسيم التي تبرِّر للأجهزة الأمنية ممارسة التعذيب والقتل، وعودة جميع الملاحقين والمنفيين قسراً أو طوعاً عودة كريمة آمنة بضمانات قانونية، وإنهاء كل أشكال الاعتقال والاضطهاد السياسي.

4ـ ضمان حرية الأفراد والجماعات والأقليات القومية في التعبير عن نفسها، والمحافظة على دورها وحقوقها الثقافية واللغوية، خاصة الأكراد والآثوريين، وإيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية في إطار وحدة وأمن سوريا أرضاً وشعباً، بما يضمن المساواة التامة للمواطنين السوريين الأكراد مع بقية المواطنين من حيث حقوق الجنسية والثقافة وتعلم اللغة القومية وبقية الحقوق الاجتماعية والقانونية، وهو الأمر الذي لا يتعارض البتة مع كون سوريا جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية يرتبط واقعها ومستقبلها ارتباطاً مصيرياً بها وبقضاياها.

5ـ تحرير المنظمات الشعبية والاتحادات والنقابات المهنية من وصاية السلطة والهيمنة الحزبية والأمنية، وتوفير شروط العمل الحر والمستقل لها كمنظمات لمجتمع مدني جدير بالتسمية ينظم نشاطاتها قانون عصري للجمعيات.

6ـ تشكيل هيئة وطنية للمصالحة والإنصاف ورد المظالم من أجل الكشف عن المفقودين السوريين وضمان الحقوق الأساسية الخاصة بالتعويض وإعادة التأهيل لضحايا التسلط والعنف السياسيين.

7ـ مباشرة إجراءات عودة المال العام المسروق لخزينة الدولة، وإعطاء اهتمام خاص للأحياء الفقيرة والجماعات المهمشة والعاطلة والمستضعفة وصغار صغار الكسبة، والسعي لتأمين حد أدنى للعيش لكل الفئات المظلومة

لا يوجد اليوم في سوريا دولة علمانية أو وطنية، يوجد سلطة وحسب، وستكون مهمة بناء الدولة من أصعب ما ينتظر قوى التغيير الديمقراطي في سوريا. والدولة المدنية برأينا، هي الوحيدة القادرة على استقطاب قوى التغيير والإصلاح بكل ألوانها وتعبيراتها وأجيالها.

والدولة المدنية كما اتفقنا قبل 16 عاما، وكنا مجموعة من المثقفين الإسلاميين والديمقراطيين، هي وضع الفضاء السياسي خارج القداسة. أي اعتبار أي برنامج سياسي أو مطلب للمجتمع قضية بشرية مختلفة المراجع. الإسلامي يعتبرها من جوهر التزامه الديني والناصري يعتبرها ابنة حركة التحرر في مرحلتها الجديدة الديمقراطية والاجتماعية، والشيوعي يسميها مشاركة الشعب في ممارسة السلطة وصناعة حاضره ومستقبله… إلخ والليبرالي يسميها الوسيلة الأمثل لحماية الحقوق المدنية.

المفكرون الإسلاميون المعاصرون يجاهدون فكريا منذ أكثر من قرن ضد العصبيات العشائرية والنزعات الطائفية وروح الثأر والعنف المجاني وهي قيم مدنية أساسية. والعلمانيون الديمقراطيون يطالبون بدولة قانون وضمان حرية التجمع والتنظيم والتعبير وضمان حقوق الأشخاص بغض النظر عن جنسهم أو لونهم أو انتمائهم.

لقد كرم الإسلام الإنسان دون تحديد وأسس القرآن الكريم لدولة العقد الاجتماعي عندما جعل من أهم صفات المؤمن احترام العهد والأمانة (البقرة 177، والمؤمنون 8، والمعارج 32). الديانات السماوية والشرعة الدولية لحقوق الإنسان أسست للمحاسبة في الفساد وفي الجرائم الجسيمة.

وكما يذكرنا إلياس مرقص، حين تسقط الذمة (العهد، الدين، القانون، الضمير) يسقط كل شيء, لذا يتابع بالقول: ليكن شعارنا الذمة العامة، الجميع للجميع، الكل للكل، الجميع لكل فرد، حق الناس.. دولة حقوق أساس، شرط الدولة الديمقراطية.

الدولة المدنية التي نطالب بها لخلاص سوريا من الدكتاتورية هي الانتقال من النموذج الفئوي الطارد لأغلبية مكونات النسيج المجتمعي، إلى جعل أية أغلبية عددية أو سياسية قوة جاذبة لباقي مكونات المجتمع. وليست هذه الصفة حالة مثالية بل حالة طبيعية متحققة الوجود في الدول التي تضمن أوليات الحقوق السياسية والمدنية كما هي مقرة في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

09-07-2011   عن الجزيرة نت