أبريل 14, 2024

شرم الشيخ: ذهبت السكرة وجاءت الفكرة

Dr.-Manna-10ليس السبب في تأخير إصدار بيان للجنة العربية لحقوق الإنسان التقاعس عن  إدانة عمل إجرامي ينال بشكل أعمى سلامة المدنيين وحق الإنسان المقدس في الحياة، عمل ذهب ضحيته أكثر من 88 قتيلا ومائتي مصاب. وإنما خوفنا من انحسار دورنا إلى الشجب والإدانة من جهة، ومن تكرار المنعكس الشَرطي للأجهزة الأمنية أمام هكذا حادث من جهة ثانية. فقد تحولت المملكة العربية السعودية إلى بلد بوليسي بعد أحداث العنف المجرمة التي نالت من سلامة المواطنين والأجانب فيها. وتضاعف عدد المعتقلين السياسيين في تونس بهزة قلم إلى الضعف، وعاد ملف الاعتقال التعسفي بشدة إلى المملكة المغربية، وكان يكفي الحديث عن تفجيرات (مجهولة الهوية والمصدر) في سورية للعودة إلى أسطوانة الاعتقالات اليومية للناس، أما قوات الاحتلال الأمريكية في العراق، فتتسابق في حلبة إرهاب المواطن العراقي مع كل من اختار العنف وسيلة للتعبير عن برنامجه السياسي في غياب كامل للقانون والمحاسبة، في تكرار لأنموذج الدولة العبرية التي شرعت للتعذيب والسجن والمجاعة الجماعية والممارسات البربرية بحق البشر والشجر والحجر. وليس المجال هنا للحديث في المأساة الجزائرية التي أودت بحياة قرابة ربع مليون ضحية في عقد من الزمن. بحيث يمكن تلخيص المشهد العربي بجملة مفيدة تقول بأن عنف الجماعات المسلحة هو المنقذ الأخير لأجهزة الأمن العربية، التي مارست العنف دائما، بسبب وبغير سبب، بحق كل قوى المعارضة السياسية والتعبيرات الطامحة للتغيير في هذه المنطقة من العالم. فهناك، تحالف موضوعي غير معلن، بين إرهاب الدولة وإرهاب الأشباح يعزز الأمر القائم statu quo  ويتصدى لكل طموح من أجل عودة المواطنة والكرامة الإنسانية شرطا لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

بعد تفجيرات طابا، جرت حملة اعتقالات عشوائية شملت أكثر من ثلاثة آلاف شخص من مواطني سيناء وقد سجلت اللجنة العربية والمنظمات المصرية ومنظمات دولية ممارسة التعذيب بشكل منهجي بحق المعتقلين ولم يكن للسلطة القضائية أي دور في مجريات الاعتقال والتحقيق، وكانت قضية التهم القضائية همّا ثانويا، حتى لا نقول غائبا تماما في ملفات تحولت إلى مآسٍ إنسانية.

إن الرد على الجريمة لا يكون بارتكاب جرائم من قبل الناظم الشرعي الوحيد للعنف في المجتمع (الدولة)، أي الطرف الوحيد الذي يمكن أن يعيد الثقة للمواطنين بالحد الأدنى من الأمن والعدالة.

إن كون اللجنة العربية لحقوق الإنسان تعتبر اللا عنف، الطريق الأضمن لاحترام الحقوق والحريات وتحجيم ظواهر التطرف، لا يعني أن نتناول هذه الظاهرة بشكل مبسط. فالحركات السياسية المسلحة، دينية كانت أو علمانية، لا تستطيع التحول إلى ظاهرة مجتمعية في غياب عوامل أساسية تمنحها نوعا التماسك في منطقها الداخلي وحدا أدنى من التقبل في المجتمعات الإنسانية.

في حزيران (يونيو) 1979، قام ضابط في الجيش السوري بفرز العناصر في مدرسة المدفعية بحلب على أساس انتمائهم الطائفي، ثم قتل كل من ينتمي منهم للطائفة العلوية. بعد هذا الحدث أعلنت “الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين” عن انضمام هذا الضابط لصفوفها ونسبت له لاحقا عدة عمليات. بل وصارت نشرة الطليعة تتحدث عنه بصيغة البطل الأسطوري الذي يظهر هنا أو هناك ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا وظلما. ولم يعدم الأمر وجود من يبرر لهذا الضابط فعلته من المعارضة غير الإسلامية. اليوم يصعب أن نجد عضوا واحدا في الحركة يتبنى أفعال الضابط المذكور. لماذا جرت تغطية مجزرة ارتكبت بحق طلاب كلية عسكرية لسبب واحد هو انتماءهم الطائفي، لماذا تحول الضابط إلى بطل في أوساط عديدة ؟ كيف عالجت السلطة الأمنية والسياسية الموضوع، وهل شفيت سورية اليوم، بعد 27 عاما من عقابيل هذا الحدث؟

كانت سورية تعيش ولادة جيل جديد تحت حالة الطوارئ المنتجة لإيديولوجيات الطوارئ. وكان في السلطة من يعتمد على العصبية العشائرية والطائفية في الولاءات والعداوات، وصار الحقد الطائفي عند البعض وسيلة لتعزيز أوضاع التجمع المصلحي العسكري الحاكم. قانون نيوتن الذي يجعل لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومعاكس له في الاتجاه ليس فقط في الطبيعة، وله في المجتمعات ترجمته الخاصة. فعندما تنتج السلطة  مسئولا مثل رفعت الأسد في أهم مؤسسة قمعية (سرايا الدفاع)  يقول ستالين أيها الرفاق أنهى عشرة ملايين إنسان في سبيل الثورة الشيوعية واضعاً في حسابه أمراً فقط هو التعصب للحزب ولنظرية الحزب .ولو أن لينين كان في موقع وظرف وزمان ستالين لفعل مثله، فالأمم التي تريد أن تعيش أو أن تبقى تحتاج إلى رجل متعصب وإلى حزب ونظرية متعصبة”. لا يتوقف إنتاج الرجل المتعصب والنظرية المتعصبة على السلطة القمعية التي يمثلها.

 نعطي هذا المثل المؤلم بعنفه لنذكر بأن إنتاج العنف في الجماعات السياسية ليس ظاهرة يمكن حصر تفسيرها بالتكوين والتركيب والوظيفة الداخلية لهذه الجماعات، وانتشاره ليس ضرورة دينية أو دنيوية. وكما أن الوباء يحتاج لأرض واستعداد أولي، يحتاج انتشار العنف  لحاضنات ووقود ونفوس قابلة للموت وقناعات لم تعد ترى في زرع الحياة بذرة صالحة للتخلص من الفساد والاستبداد.

الحرب الوقائية على العنف بهذا المعنى، لا يمكن أن تكون بإطلاق يد عناصر الأمن للعبث بسلامة المواطنين باسم مناهضة الإرهاب، كما أنه لا علاقة لها، برأينا، من قريب أو بعيد، باستراتيجيات المصلحة والهيمنة. فالدولة الأمنية هي المنتج الأول للتطرف في المجتمع باعتبارها شكل متطرف لممارسة السلطة، وحرمان المواطن من المشاركة السلمية في الحياة العامة يخلق بالضرورة جماعات تبحث عن أشكال غير سلمية للمشاركة فيها. اللاعقلانية السياسية عند الحاكم تعزز كل النزعات اللا عقلانية في المجتمع عوضا عن إضعافها بإقامة دولة العقل باستعمال تعبير ابن خلدون والقانون باستعمال لغة العصر. غياب الحكمة والعدل من منطق الأقوى هو السبب الأهم في غياب الحكمة والعقلانية عن قطاع واسع من المظلومين.

الدولة التسلطية المعاصرة هي المصنع الذي يعد العقول ويجهز النفوس لكل الاحتمالات المؤلمة لضرب القيمة الرمزية للأشياء التي تحرم القتلة من رؤية العامل المصري البسيط يموت مجانا في شرم الشيخ في وقت أصبحت هذه المنطقة ترمز فيه لسياحة الأغنياء والأجانب ومؤتمرات السلطة والمباحثات الإسرائيلية المصرية. هي التي تجعل الحقد قضية عامة عندما تنتهك حرمة متظاهرات يدافعن عن حقهن في الاختلاف مع السلطة السياسية، وهي التي تجعل من العنف قضية مقبولة حين تواجه بشراسة الأصوات المطالبة بإصلاحات جدية في البلاد ويدخل مئات المتظاهرين السجن لمجرد نزولهم سلميا للشارع.

في وضع كهذا، ليست مهمة المناضلين من أجل الكرامة الإنسانية والحقوق والحريات الأساسية إعادة استعمال مصطلحات القامع في دفاعها عن المقموع، وليست مهمتها في قبول منطقه في مواجهة الجريمة. مصر تعاني من آفتي قوانين حالة الطوارئ وقانون مناهضة الإرهاب والمطلوب وضع حد لهما لأنهما شكلا المرتكز الأساس في تقييد الحريات وانتهاك الحرمات الشخصية والعامة. وبالتالي جعلا من القانون الاستثنائي أداة بيد السلطة التنفيذية لإضعاف وإنهاك، وأحيانا تصفية خصومها.

لا يمكن تحقيق وضع مجتمعي (وهنا لا نتحدث فقط عن إجماع حزبي أو وطني كما يقال في المصطلحات الرائجة) يرفض العنف دون تنظيف السجون وجعل التعذيب جريمة في القانون والواقع وشعور داخلي بالحد الأدنى من المواطنة، أي احترام السلطة للناس. كذلك لا يمكن مقاومة الإرهاب بأسلحته. في معظم التجارب الإنسانية المعاصرة أدى التصدي لرواد التغيير الديمقراطي إلى مواجهة مباشرة بين تطرف السلطة والتطرف الذي ينتجه تعسف السلطة. وكان لغياب الأشكال الوسيطة لاقتصاد العنف دورا في وقوع حروب أهلية كثيرة. المجتمع المقاوم للتسلط بالطرق السلمية هو الضمان لحرمان أي جماعة مسلحة من قواعد اجتماعية تعطيها الأكسجين الذي تتنفسه. هذا المجتمع يجب أن يخرج من منطق الكائن الذي يلد في ظل حالة الطوارئ ويأكل ويشرب ويموت وهي باقية تنتظر دور أبنائه.

تأسيس ثقافة ومؤسسات الكرامة في الحياة أساس لمقاومة التعبيرات التي حصرت برنامجها وأملها بالموت.

باريس في 25/7/2005