يمكن القول أنه لأول مرة منذ اعتقالات خريف دمشق في 2001، تحتل المعارضة، برموزها المختلفة ووجهات نظرها المتعددة، الفضاء السوري في الصحافة العربية والدولية، الورقية والإلكترونية. يعود ذلك لعدة أسباب. منها بل لعله أولها، صعود وجهات النظر الخلافية إلى السطح. وكون السلطة السورية لا تحتكم للمعرفة ولا تملك من الكتّاب والمنظرين والأقلام ما يمكن أن تخوض به معركة فكرية-سياسية حقيقية، فقد آثرت كعادتها إطلاق عناصر الأمن لاعتقال كوادر قيادية في إعلان دمشق. وذلك لغايتين أساسيتين:
– الأولى، زعزعة الوضع التنظيمي الجديد باستهداف قسم هام ممن تم انتخابهم،
– الثانية، تحويل المعارضين إلى مجرد موقعي عرائض للإفراج عن المعتقلين. أي اختزال النضال السياسي والمدني في البلاد بمطلب الإفراج الفوري عن المعتقلين.
هكذا تضرب السلطة عصفورين بحجر. إنها تحرم المعارضة من الإمتياز الأكبر الذي تمتلكه، أي الحوار الفكري. لمن المعروف أن حزب البعث الحاكم أفلس فكريا بكل معاني الكلمة، حيث لا منظرين له ولا مفكرين لديه. اللهم باستثناء بعض تقنيي الخدمات السلطوية، يردون على المعارضة من وجهة نظر “الشرعية الوطنية” التي لم تعد تقنع حتى أكثر البعثيين حماسا. فقد ماتت التسلطية الوطنية منذ زمن، كما تراجعت العلمانية الاستئصالية، وهزلت الأصولية السياسية والإيديولوجيات المغلقة. فبالتالي تملك السلطة السورية اليوم سلاحا واحدا أوحدا، ألا وهو التعسف والقمع.
بالتأكيد، هي تملك تحالفات تعزز بها مواقعها في السياسة الإقليمية. لكن كان من الواضح، في العامين الماضيين على الأقل، أن الحليف الفلسطيني كان يتمنى أن لا يصدر عنها تصريحا سخيفا، ولسان حال الحليف اللبناني ما مفاده “استرونا بصمتكم”. إذن أمام العقم النظري السياسي على الصعيد السلطوي، وبروز شياطين ثقافة سياسية حقيقية، تربى بعضهم في السجن (كما نوه ياسين الحاج صالح في قراءة جميلة له لمثقفي السجن) وبعضهم في المنفى، وبعضهم بين التخفي والملاحقة، نحتل اليوم كمعارضة ديمقراطية، بكل فخر ودون غرور، الساحة الفكرية التأملية والنقدية بكل معنى الكلمة.
لكن للأسف، لم تنجح المعارضة الديمقراطية بعد في الدخول إلى عالم الأغلبية الصامتة، وتعزو ذلك للخوف حينا، للمصلحة حينا وللقمع أحيانا أخرى. كذلك ليست الديماغوجية محتكرة من السلطة، وبعد خلاصنا من الخطاب الديماغوجي لجريدة النذير في 1980. عادت العدوى لبعض المعارضين، ضمن ثقافة سائدة تفرض نفسها بحكم جدلية العلاقة بين مستويات الهرم الاجتماعي المختلفة. فلم يعد تزوير المعطيات مشكلة، والغاية تبرر الواسطة عند البعض بأسوأ دلالات التعبير. لقد انتقلت بعض أمراض المستبد إلى بعض ضحاياه. وصحت في هذا البعض نظرية فرويد في التأثر المتبادل بين القامع والمقموع. لذا خرجت ردود أفعال جد سطحية لا تستحق الرد، إضافة لتخوين وتهم بالعمالة للأمن السوري يأنف المرء من تكرارها. لكن إن قيل ذلك بحقنا من أشخاص قدمنا لهم ما استطعنا من أجل كرامتهم وحريتهم، فلا عتب أن يصدر ذلك على لسان ضابط مخابرات.
مع ذلك، لن يثنينا هذا الواقع عن اعتبار الحوار النقدي السلاح الأقوى للمعارضة، من أجل الخروج من الأزمة التي وضعنا بها اجتماع أول ديسمبر 2007. فهناك اتجاه اعتبر الرأي الآخر الطرف المعطِّل. وانطلق من ذلك ليحقق عبر إعلان دمشق ما لم يستطع تحقيقه عبر مكونه التنظيمي الأساسي. وهو أمر مشروع بل وضروري عندما تتعرض أية تجربة ذاتية للانتكاس أو لفترة ركود أو حالة استعصاء. لكن تتوقف مشروعيته عندما يصادر الخاص العام.
فحركة السلم الاجتماعي لم تصمد أمام الاعتقال والنقد، إن لم نقل اختفت تماما. وحزب الشعب الديمقراطي لم ينجح في تحقيق استقطاب شعبي ينسجم مع عملية غسل الدم، القاسية فكريا وسياسيا، التي عاشها في ربع قرن من الملاحقة والاعتقال. أما الكوادر المؤسسة لحزب العمل الشيوعي التاريخية، فقد أصبحت بعد السجن الماراتوني كالكشكول البهائي. أي تغطي بجدارة قوس قزح من الليبرالي الجديد (خلنج) إلى الستاليني القديم (المعتق). أما الأحزاب الكردية فتكتشف نفسها والحياة السياسية في معمعان الإنشقاق وإعادة التكون. ولأول مرة منذ الثمانينيات، يحضر التيار الإسلامي المستقل في مؤتمر وطني عام للمعارضة السياسية داخل البلاد. من هنا لا يمكن لأي طرف أن يتنازع على مائدة بالضرورة جماعية.
يمكن القول أن “قدماء المعتقلين” قد شكلوا، بالمعنى البشري، الحزب الأكبر في أول ديسمبر. وإن طالبنا عضو المؤتمر عباس عباس بأن نعتبر إعلان دمشق “دورة إعادة تأهيل جماعية”، فلا شك بأن أية إعادة تأهيل تحتاج قبل كل شئ للعلاج. إما العلاج الفردي، الأمر الذي لا يلزمه إعلان هو في شكله ومضمونه خلطة رمادية. أو العلاج الجماعي، أي حضور جماعي لكافة أعمدة الهيكل. لديمقراطية توافقية، باعتبار العمل الجبهوي قائم بطبعه على التوافق. الدرس الذي استوعبته “الجبهة الوطنية التقدمية” الحاكمة منذ نشأتها، في حين ما زالت المعارضة تتدرب عليه.
هذا الخلل كانت ترجمته على أرض الواقع في مشكلتين:
– مشكلة ذاتية اسمها المساواة غير العادلة بين الحزب والفرد. وأنا أتحدث هنا كفرد أعطاه إعلان دمشق من حيث المبدأ امتياز الحزب تقريبا!
– مشكلة موضوعية نابعة، كما ينوه سلامة كيلة، إلى أن من يمثل أكثر من 60 بالمئة في اجتماع أول ديسمبر، لا يمثل بأكثر التقديرات تفاؤلا بل مبالغة عشرة بالمئة من المجتمع السياسي في سورية.
هذا يعني أن سقف التواصل مع المجتمع جد محدود، مهما كان النص جميلا والسرعة في تنقيح المواقف كبيرة. ويمكن أن نتحدث بصراحة عن التوجه الصاعد في صفوف إعلان دمشق منذ تقرير ميليس وتوقعات السيد الخدام في السقوط السريع للنظام. هنا قطعت أطراف أساسية في الإعلان كل مجالات الحوار مع السلطة. بل وصار البعض يهدد مازحا أو جادا بأبي الرام (اسم الدلع لرامسفلد). بل ويعتز أحد قادة المعارضة بأن سفرته لأوربة كانت على حساب قناة “الحرة”، رغم علمه بأن منظمات حقوق الإنسان تتشرف بدعوته.
هذه الخطى السريعة في القطيعة التامة بدرت من رموز إعلان دمشق الذين قدموا أنفسهم بهذه الصفة. وقد عبر شخصان فقط كتابة وعلنا عن رفضهما لمنطق القطيعة التامة (برهان غليون وأنا نفسي). وفي كل مرة كنت أفاجأ بتصريح لقيادي في إعلان دمشق يقول بأن السلطة لا تحاور، كنت أسأل نفسي، لماذا تحاور هذه السلطة الخبيثة من يرفض مبدأ الحوار معها؟
علينا أن نعرف ماذا نريد. إن كان القطيعة الكاملة، فحسنا. ولكن لا بكاء وعويل على غياب الحوار مع فريق “الموالاة”. وإن كان الحوار مع الجبهة الوطنية التقدمية ضروريا، فلنتحدث فيه ونبحث عن مسالكه. أخذا بعين الاعتبار أن هذا ليس مؤشر ضعف أو قوة. كما أنه ليس علامة تواطؤ أو عمالة. بل خيار سياسي في ظل كيان سياسي واحد. وفي هذا الصدد، من الضروري الإشارة لموقف جرئ للجان إحياء المجتمع المدني في آخر بيان لها عندما قالت: ” إن الطريق لمعالجة المشكلة – اذا كان انعقاد المجلس الوطني لاعلان دمشق يمثل مشكلة بالنسبة للسلطة – يكمن في دراسة مسار تكوين اعلان دمشق والقوى المنخرطة فيه وما أصدره من وثائق في العامين الماضيين، وفتح حوارات علنية وشفافة حولها في مستوى الشارع السوري وفي مستوى الجماعات السياسية، بما فيها الجماعات المنضوية في إطار الجبهة الوطنية التقدمية المتحالفة مع حزب البعث الحاكم. من أجل الوصول الى مقاربات تساعد سوريا في مواجهة اعباء المرحلة في المستويين الداخلي والخارجي”.
أتمنى أن لا يسقط المزاودون في حفلة إدانة هذا الموقف، لأنه يستجيب لضرورات فعلية لا رغبات ذاتية. فعدة توجهات حالية، مبنية على الوضع الإقليمي والدولي، غير دقيقة وغير محسوبة. وكأن بعض المعارضين، كما يقول المثل الشعبي، ذاهب للحج والناس عائدة منه. لا شك بأن خنق الحريات الأساسية الثلاث (التجمع والتعبير والتنظيم) قد ساهم في هذا التأخر السوري، الذي يساعدنا الاعتراف بوجوده على تخطيه.
ففي الجغرافيات السياسية، دخلت مصر نظرية “مصر أولا” منذ اتفاقيات كامب دافيد. ثم تبعها الأردن والعراق ثم لبنان. لتصل الموجة في الذكرى الثلاثين لاتفاقيات كامب ديفيد إلى أجواء المعارضة السورية. وعلت راية “الديمقراطية أولا”، في وقت أصبح الهم الديمقراطي أحد هموم المواطن السوري. لكنه ليس الأهم عند شرائح واسعة من المجتمع، وليس الوحيد عند قطاع واسع من النخب. قضية الخبز ليست فقط ابنة مقاربة اقتصادوية عفا عليها الزمن (للأسف، منذ اعتقال عارف دليلة، يحتاج الباحث لسراج للعثور على دراسات اقتصادية في صفوف إعلان دمشق. والحديث في العدالة الاجتماعية أضعف بكثير من أهميته على الصعيد الشعبي). هنالك من جهة ثانية قضية التحرير (فإن أجلسنا المواطن السوري على مقعد المراقب في المأساة العراقية ووضعنا المشروع أو التصور الوحدوي على الرف وفلسطين في عهدة حماس وفتح، لا يمكن أن ننسى قرابة 800 ألف نازح سوري من الجولان المحتل)!
بالطبع يمكن أن ننصب السلطات السورية باعتبارها المسئول عن الجوع والاحتلال والفساد والاستبداد، بل وكما تقول الإدارة الأمريكية الفوضى في العراق. لكن هل حافظت المعارضة على الشعار الذي جمعنا في ساحة حقوق الإنسان في باريس قبل إعلان دمشق (لا للاستبداد، لا للفساد، لا للاستعباد الخارجي)؟ ألا يوجد من يراهن على أحد رموز الفساد؟ أليس هناك من يهاجمنا لأننا ننتقد أسوأ إدارة أمريكية في تاريخ الولايات المتحدة؟ ثم ماذا فعلت المعارضة السورية على هذه الأصعدة؟ وإن لم يكن الفعل ممكنا، هل غذّت حاجة الناس لإجابات شافية على قضايا مصيرية وأساسية في عين المواطن البسيط؟ أود أن أضيف هنا بصراحة، أن حزب الاتحاد الإشتراكي العربي الديمقراطي، الذي أعطى المسألة الوطنية حقها، لم يستطع خلق دينامية فكرية سياسية تمنحه القدرة على تغطية الفراغ. أما الأزمة العالمية والإقليمية للحركة الشيوعية فقد حددت من تأثير حزب العمل الشيوعي وتجمع اليسار الماركسي في البلاد.
هناك مسألة أخرى ضرورية في العلاقة بين الموقف السياسي، صائبا كان أو خائبا، والجمهور. كنا في جامعة دمشق في السبعينيات نجد صعوبة في شرح الفروق بين الأجنحة الشيوعية المتصارعة للطالب الجامعي، فكيف الحال في الريف. لم تتغير فقط مواقع رموز في المعارضة، بل حدث أيضا هذا التغير بسرعة، بحيث لم يستطع المواطن العادي من مواكبتهم. يقف سجين سابق ليقول: أمضيت خمسة عشر عاما في السجن، فيتبادر لمتحدثه أنه إسلامي من حركة الإخوان أو شيوعي من المكتب السياسي أو حزب العمل. لكنه يتفاجأ بخطاب ليبرالي بعيد عن هذه وتلك، ويسأل نفسه: هل أنا مخطئ في متابعة سجون سورية أم أن هناك خلل ما؟
لقد بنت أكثر من شخصية معارضة رصيدها الشعبي على الاستقلالية عن الاتحاد السوفييتي وعلى دعم المقاومة الفلسطينية والديمقراطية والمناداة بوحدة عربية. لكن عندما تقول بأن “من ينتقد الولايات المتحدة يفعل ذلك إما خوفا من النظام أو خدمة له”، لا نستغرب أن يقول المواطن العادي: “اللهم احفظ لنا العقل والدين”! خاصة وأن العراق أمام ناظرينا في بلدنا مع مليون ونصف لاجئ، وجرائم إدارة بوش-ديك شيني قد دخلت الوعي الجماعي في المنطقة بقوة.
باختصار، يقف إعلان دمشق اليوم على مفترق طرق. نحن على مسافة متساوية بتقديري الشخصي من مشروع الانسجام الديمقراطي المتكامل، البعيد عن منطق الغلبة الخلدونية وتصفية الحسابات من جهة، ومن اعتبار أطراف في هذا المشروع أن إعلان دمشق لها وعلى الباقين الانصياع أو الخروج، أي الاتجاه نحو الانشقاق الفعلي من جهة ثانية. ولعل الأسابيع القادمة، التي ستشهد اجتماعات مكثفة ومناقشات، يفترض أن نعمل المستطاع لتكون علنية هذه المرة، ستحدد الخارطة الجديدة للمعارضة الديمقراطية في سورية في 2008.
————-
القدس العربي 2/1/2007