ترك الفريق حافظ الأسد العالم في لحظة لم تعد أركان السلطة التي بناها صالحة بحال من الأحوال لأي حاكم من بعده، اللهم إلا بمعنى الإدارة الأمنية لبقاء الأمر الواقع.
فقد أقام سلطته على تجمعات مصالح عسكرية وأمنية ترتكز على عصبيات قبل مدنية، واعتمد مبدأ الحزب الواحد القائد للدولة والمجتمع، ودمج بين الحزب والأيديولوجية والدولة في الدستور والمؤسسات، واعتمد على تضخيم الأجهزة الأمنية وعسكرة المجتمع وسيلة لإخضاع السياسي للأمني والأمني لقرار الرئيس. اختزلت السلطات الثلاث في التنفيذية، والتنفيذية في مراكز قرار فعلية غير تلك التي نجدها في قواميس التعريف بالجمهورية العربية السورية.
استعمل الفريق حافظ الأسد الوقت كوسيلة للسيطرة الداخلية وتنظيم العلاقات الخارجية، كان ذلك في فترة جمدت فيها الحرب الباردة والصراعات الدولية أهمية الزمن الضائع الإقليمي، الأمر الذي سمح له بنسيان آلاف المعتقلين عقدين من الزمن في السجون دون رد فعل متناسب داخل أو خارج الحدود، وأحرق المجتمعيْن السياسي والمدني على نار هادئة حينا وهائجة أحيانا أخرى، إضافة للتمتع بحقوق الخطأ والصواب في إدارة الدولة.
لكن العالم تغيّر، والظروف تغيرت، وإن كان العلم بوجود معتقل في السجون يحتاج لأشهر أحيانا قبل ربع قرن، فهو لا يحتاج لأكثر من دقائق اليوم. الثورة السبرانية والمعلوماتية حولت الرقابة والتعتيمات الأمنية إلى أساليب بالية وباهتة، وقد شيّع العالم أنموذج الحزب الواحد دون أسف عليه في معظم الدول التي اعتبرت الحزب القائد أسلوبا للحكم.
لم تستوعب السلطات السورية اليتيمة بكل مكوناتها حقائق المرحلة البشرية الجديدة التي بدأت منذ سقوط جدار برلين: لم تفهم أن الدولة الأمنية قد أصبحت شكلا بائسا للدكتاتورية يعزز بالضرورة منظومة الفساد ويستمر في الانتشار الأفقي لمؤسسات القمع. وأن استمرار النهج الأمني في حكم الناس يحقق بالضرورة القطيعة بين الحاكم والمحكوم ويلغي أشكال الوساطة السلمية وصمامات الأمان المدنية الضرورية لاقتصاد العنف، وأنه سيعطي ردود فعل جديدة لا يمكن رصدها أو إحصاؤها أو السيطرة عليها بسهولة.
كذلك حسرت السلطة الأمنية مفهوم الأمن باستمرار المجموعة الحاكمة لا بضمان الأمن الوطني واحتياجاته، والضرورات المواطنية ومقوماتها. الأمر الذي ترجم تغييب المجتمع عن المشاركة السياسية والمدنية بغياب قدرة السلطة نفسها عن الموقف الوطني الفاعل والدينامي، باعتبارها لا تملك المناعة الذاتية اللازمة لمواجهة الرهانات الإقليمية الجديدة.
وقد ظهر ذلك للعيان في عجز السلطة عن المبادرة السياسية للخروج عسكريا من لبنان بعد تحرير الجنوب، وركودها في التعامل مع قضية تحرير الجولان، وتخبطها في العلاقات العربية العربية. ولا شك في أن وصول المحافظين الجدد والسياسات المغامرة والمتخبطة لهم في المنطقة قد أفادت وأطالت في عمر الأوضاع رغم بؤسها، بحيث بدت السلطات السورية معقلا للصمود والرفض لسياسات الهيمنة والاحتلال، الأمر الذي ضم للخطاب الرسمي، موضوعيا أو ذاتيا، فئات واسعة مناهضة للاحتلال الأميركي والسياسة الإسرائيلية التوسعية والعدوانية، اعتبرت في هذا الموقف وسيلة ضرورية لتحديد وتحجيم الخسائر.
إلا أن السلطة السورية، وقد كسبت أكثر من معركة سياسية إقليمية، نسيت البنية الهشة والمتآكلة للسلطة الأمنية، والبنية المهمشة للتعبيرات السياسية الحاكمة، والإفقار السياسي والمدني للشعب مع ما جرى من اختزال للعلاقة بين الحاكم والمحكوم بترخيص الأمن لهذا بالسفر، ولذاك بالعمل، ولثالث بشراء قطعة أرض، ورابع بإعطاء تصريح لوسائل الإعلام.. إلخ. تحول ضابط الأمن إلى ضابط لعملية التنفس البيولوجية والنفسية والثقافية والمدنية والسياسية للمواطن، بحيث لم يبق للأخير من المصطلح لا المعنى ولا المبنى.
ومع موت السياسي في حضن الأمني، أصبح الحديث في الإصلاح السياسي الضروري والعاجل هرطقة وتشتيتا لطاقات البلاد، ووهنا للأمة وإثارة لكل نعرات التفرقة في المجتمع طائفية أو قومية أو سياسية.
احتضر خطاب الإصلاح في المؤسسات المهيمنة على البلاد والعباد مع حملات الاعتقال المتتابعة وتصعيد التضييقات، وكانت الأمور تهرول نحو استكمال عملية اغتيال المواطنة والإنسان، بحيث استقر الأمر -كما كتبت قبل ثلاث سنوات- على أننا وصلنا لوضع “يمكن القول فيه دون مبالغة أن رفع حالة الطوارئ دون تعديل ودمقرطة دستور البلاد ومحاسبة الفاسدين يعد خطوة أقل من المطلوب، ليس فقط في مسار تكسير حالة الاستعصاء التي أوصلتنا الدولة التسلطية الأمنية إليها، بل ولمواجهة المخاطر التي تعصف بسفينة الوطن”.
بعد مجزرة حماة، نشرت مقالة قلت فيها إن الجنرال حافظ الأسد قد حطم أسس النضال المدني والسياسي في سوريا على الأقل لعقد من الزمن، وإننا سنرجع سنوات إلى الخلف على صعيد مفاهيم النضال النقابية والاجتماعية والثقافية والسياسية. فالطليعة المقاتلة، باختيارها للعنف والخطاب الطائفي، سمحت للدكتاتورية بالتوظيف المفرط لكليهما باسم تخليص البلد من الظلامية.
ولا أظن أنني كنت بعيدا عن الحقيقة. خلال سنوات، كانت أطروحات المعارضة هشة وبرامجها البديلة هزيلة وتنسيقها مع بعضها في غاية الضعف. لقد دفعت غاليا ثمن تحالف قطاع منها مع السلطتين السياسيتين في الأردن والعراق، ودفعت أغلى من ذلك ثمن حملات اعتقال واسعة هشمتها باستخدام الحل الأمني الذي يضعف المحكوم ويهشم المجتمع ويفقد الحاكم الشرعية السياسية والمدنية.. لكنها خزّنت -ومن عمق المأساة نفسها- فكرة مركزية تقوم على عقم وبؤس العنف السياسي في مواجهة الدكتاتورية.
لقد استوعبت التجربة السياسية الديمقراطية السورية حقيقة أن الدكتاتورية مزودة بكل الوسائل الضرورية لمحاربة العنف السياسي، وقامت قناعة مشتركة من القامشلي إلى درعا ومن الديني إلى العلماني وعند العربي والكردي، تقول إن مجرد اختيار العنف وسيلة لإسقاط الدكتاتورية يعني منح الطغيان تفوقا مسبقا على أرض المعركة يمنحه القدرة على التحكم في مختلف وسائل الرد دون محاسبة، خاصة إن كانت الدكتاتورية هذه صديقة للقوى التي تحكم المنظومة العولمية السائدة.
ففي كل أشكال مقاومة الدكتاتورية الداخلية تكمن أهمية اللا عنف في المترتبات الكلية على نتائج الصراع بين السلطة والمجتمع، بين أنصار الديمقراطية وأنصار التسلط. لأن كل تعزيز لدور العنف في الشأن العام ينعكس سلبا ولأجيال، على الاختيار الديمقراطي المدني في البلاد. هذا الدرس المشترك بين أركان المجتمعيْن السياسي والمدني، هو الذي استقاه الشباب الأحرار اليوم في رفضهم القاطع لأي شكل من أشكال العنف وأي تعبير طائفي وأي خطاب عصبوي منغلق.
بحيث ترفض الشبيبة الحرة أن تحمل عقابيل الدكتاتورية وأمراضها بإعلانها القطيعة في التفكير والممارسة مع نصف قرن من حالة الطوارئ وأيديولوجيات الطوارئ ومركبات الخوف.
كما سبق أن ذكرنا، مات الأسد سياسيا كمشروع وكتصور قبل وفاته الفيزيائية. وأصبحت الدكتاتورية من العقم بحيث لا تنتج سوى الفساد والاستبداد، وأصبح السكوت عن الأمر القائم جزءا من الخوف العام. لعل غياب رأس السلطة قد حّرك ما تبقى من نبضات في جسد مجتمعي منهك.
إلا أن السلطة الأمنية العسكرية لم تفعل سوى الاستفادة من الوقت لتعاود ضرب نويات التغيير في خريف دمشق الذي استحق اسمه باعتقال عشرة من أسماء الفعل الاجتماعي والسياسي آخرهم قبل 11 سبتمبر/أيلول 2001 بيومين، أي لأسباب ودوافع وحسابات داخلية أكثر من كونه قرارا استباقيا مرتبطا بما عرف بالحرب على “الإرهاب”.
لكن العالم تغّير والمعطيات الإقليمية تبدلت، وأصبحت نقطة قوة السلطة السياسية (الشرعية الوطنية التسلطية التي منحت البلد الاستقرار وواجهت المؤامرات عليه)، أصبحت عارا وشؤما على السلطة عينها. صارت السلطة مكشوفة الظهر والبطن.
وما الاندفاع المجنون عند مافيات الفساد لكسب ما يمكن بأقصى سرعة، إلا تعبير عن خوفها المبكر من نهاية عهد محتملة وضرورة نهب ما يمكن “قبل يوم القيامة”، كما يقول المثل. وها نحن مع ولادة الشرعية المواطنية للشعب نشاهد السقوط الذريع للشرعية الوطنية التسلطية وانتصاب الشرعية الشعبية المواطنية باعتبارها أرقى أشكال البرنامج القومي في زماننا ومكاننا.
خلال عشرين يوما من عمر انتفاضة الكرامة، تعرت الطبيعة الأمنية للسلطة في غياب واضح لقيادات حزبية من أحزاب الجبهة على اختلافها، والوزارات المختلفة، والإدارات المحلية والوطنية. وباستثناء ثلاث مداخلات سياسية، كان هناك خطاب واحد على الأرض هو خطاب السلطة الأمنية والحل الأمني والمواجهة المفتوحة مع الشبيبة.
لقد نال الشباب السوري في درعا حصته من طائرات الهليكوبتر وخراطيم المياه وسيارات الإطفاء والرصاص الحي منذ اليوم الأول، في حين انتظر قرابة أسبوع ليستمع لأول رد فعل سياسي على الحدث. وبرز للعيان، أن ما يحكى عن “الحزب القائد للدولة والمجتمع” لا يتعدى المادة الثامنة في الدستور الذي لم يدخل حيز التطبيق بسبب حالة الطوارئ، وربما لن يدخلها قبل أن يتحرر من كل ما هو حزبي وتسلطي في مواده.
وأن السلطة الفعلية تكمن في أخطبوط الأجهزة الأمنية الذي يتداخل مع كل الفعاليات المجتمعية بشكل سرطاني وسلبي يشل قدرتها على الابتكار والفعل المدني والحركة السياسية الخلاقة.
لا يعرف الشباب الذي صنع انتفاضة الكرامة الحسابات السياسية والتحالفات والعداوات والتكتيكات والإستراتيجيات، لقد همشته المنظومة السياسية السائدة فعثر على نفسه خارج سقفها وبنيتها وهياكلها. من هنا لا يعنيه كثيرا أن يتحدث عن إصلاح أو إسقاط النظام لأنه يتحرك خارج أي مساومات أو توليفات مع الأمر القائم ويعتبر القطيعة مع الدكتاتورية والفساد شرطا واجب الوجوب لبناء الحلم الجديد.
لم تتبلور بعد تنظيمات سياسية جديدة تعبر عن الجديد المرافق للانتفاضة، وباستثناء “حركة شباب 17 نيسان للتغيير الديمقراطي” التي ولدت قبيل الانتفاضة بأسبوعين، فإن جملة أشكال التعبير الأخرى مشتقة من الحقبة السابقة خطابا وأسلوبا ونهجا. ويمكن القول إن العديد منها يحمل بضاعته القديمة لحقبة مفتوحة جديدة لا بد له -حتى يعيش- من إعادة نظر شاملة في تجربته وتصوراته للذات والآخر والثورة.
لقد قضت السلطة الدكتاتورية في سوريا على عنصر هام من عناصر المدنية: هو العلاقة بين الواقع والخطاب السياسي. حيث تشوهت الكلمة وتشوه الشعار وتشوهت الحقائق وتجردت الأشياء إلى درجة فقدان حس التمييز. لقد أصبحت تنتج الخلايا الخبيثة في عملية دورانها حول نفسها، وبذلك لم تعد قادرة على حماية نفسها من سرطانها.
لذا تشوهت علاقتها بغريزة البقاء الموجودة في أعماق كل من يمارس الحكم. وخلال قرابة نصف قرن، تكفل الاستبداد السلطوي بسحق الشخصية القضائية وقتل الشخصية الأخلاقية وإلغاء الخصوصية النوعية للكائن البشري. ومع التحطيم المنهجي للقدرات الذاتية للمجتمعات، نما الإحساس بهذا العجز السياسي الوطني وليس فقط عقم وبؤس الأنموذج السياسي/الاقتصادي وراء العديد من شعارات الشبيبة التي تؤكد الوحدة الوطنية والتلاحم الشعبي والتحرير، وليس فقط مناهضة الطائفية والتسلط ومحاربة نهب المال العام.
فلسفة الشبيبة تقول إن المناعة الذاتية أساس الحق والقوة، وليس بالإمكان الدفاع عن الوضع القائم باعتباره ضمانا من الخطر الخارجي، لأن هذا الوضع هو السبب الأساسي في جعل الخطر الخارجي قائما.
الدولة الراهنة بشكلها الحالي لم تعد تمثل طموحات أحد، وصورتها السلبية مزروعة عند الأغلبية الساحقة من أبناء المجتمع. لم يعد بالإمكان العودة إلى نواظم مشتركة عليا دون اعتبار المواطنة، وليس الحكومة أو الرئيس، الجامع الوحيد للكيانات المحطمة والدافع الأوحد للاجتماع السياسي.
لكن ما معنى المواطنة في غياب الحقوق الفردية والجماعية؟ ما هو مبناها في غياب تعريف واضح للأشخاص بغض النظر عن جنسهم ودينهم وقوميتهم؟ هل ارتقينا إلى قبول فكرة الفضاء السياسي والمدني الأوسع الرافض لكل استثناء وإقصاء؟ هل توافقنا على نزع القداسة عن الشأن العام لنتساوى أمام القانون في الوازع والناظم والرادع؟ هل بالإمكان جعل سلامة النفس والجسد شعارا ثقافيا/سياسيا عاما، أي زرع مناهضة التعذيب في الوعي الجماعي؟ هل وضعنا أسس إعادة الروح للسلطة القضائية المحتضرة تحت ضربات الأمن والمتنفذين؟ كل هذه الأسئلة يتم طرحها اليوم في معمعان القطيعة مع التسلط وأمل بناء نهضة الإنسان والأوطان.
هل نحن بصدد تبلور حركة مدنية واسعة من أتون حركة مئات آلاف الشباب الذين ينخرطون كل يوم في النضال من أجل التغيير الديمقراطي؟ هل ستقوم الطبقة السياسية التقليدية بعملية غسل الدم الضرورية لتكون بمستوى الوضع الثوري؟ هل ستخرج الجموع المدجنة عن صمتها وارتهانها؟
كل هذه الأسئلة تطرح اليوم في صلب التجربة الرائدة التي يخوضها الأحرار منذ انتفاضة 18 مارس/آذار وحتى اليوم. حيث تتماسك أجهزة القمع دفاعا عن بقائها بالحفاظ على كل الخلايا السرطانية في تكوينها، أي تعجز عن التجاوز والخروج من العقل التسلطي والممارسات التسلطية التي أودت بحياة مائتي شهيد على الأقل. وهي اليوم في مواجهة إقدام الشبيبة، عاجزة عن فك الشيفرة الجماعية التي يتحدث بها الجيل الجديد.
12-04-2011