أبريل 14, 2024

الحوار الإسلامي العلماني، التجربة الشخصية والمعطيات الموضوعية

hewarمداخلة في ندوة مستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي المنعقدة في الدار البيضاء، السبت 23/10/2010.

لا بد من التذكير بكل المحاولات التاريخية التي أصلت لسيرورة الحوار الإسلامي العلماني منذ فرح أنطون والإمام عبده. وفي التجربة السورية والمشرقية عموما، كان الدكتور مصطفى السباعي عملاقا كبيرا سبق جيله، سواء في دوره في قانون الأحوال الشخصية السوري الذي شمل أكثر من مذهب بحواره مع رجال الدين الشيعة والعلويين والإسماعيليين أو في المناظرات الفكرية والتحالفات السياسية التي أعطت فيما أعطت،  الجبهة الإسلامية الإشتراكية في الخمسينيات. وحتى نبقى في نطاق موضوع الندوة، سأحاول الانتقال لمراحل أثرت وتؤثر مباشرة في معالم الحوار العلماني الإسلامي اليوم.

أبدأ بما عرفت وعايشت: بعد أن كنت نصيرا للحوار الإسلامي العلماني أثناء دراستي الجامعية، وبشكل خاص بين 1970 و1974، تخليت تماما عن هذه الفكرة مع صعود تيار إخواني متصلب  كنا نسميه اتجاه قطب-حديد نسبة إلى المصري سيد قطب والسوري مروان حديد. كانت الشبيبة في حركة الإخوان المسلمين تتجه أكثر فأكثر نحو فكرة الجهاد والحزب الإسلامي والحكم الإسلامي، وكنا في صلب الحركة الماركسية حينذاك نناقش جدوى العنف المسلح أو ما أسميناه البؤر المسلحة أو الثورية، فقد كنا جميعا أبناء هزيمة 1967، وكنا أيضا جيل المراهقة التي اعتبرت المقاومة الفلسطينية أمها بالتبني مع رفض السائد جملة وتفصيلا. وكانت الفكرة المركزية التي تناقش في كل الخلايا السرية إسلامية ويسارية: هل المقاومة المسلحة مشروعة فقط ضد العدو الإسرائيلي؟ وكما توصلت المنظمة الشيوعية العربية لضرورة خلق البؤر الثورية في كل مكان ولكنها كانت أقلية في أوساط الحلقات الماركسية، أنجب الجيل الإخواني الجديد الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين واستطاع أن يستقطب أغلبية شبابية ابتلعت التنظيم التاريخي، وبعد أن كنا نتعاون ونناضل مطلبيا ونتعاون علميا، بدأت الشبيبة الإخوانية تبتعد عن الأحزاب غير الدينية وتتبنى أكثر فأكثر فكرة الحاكمية الإلهية والخلاص الإسلامي، وأذكر في آخر جلسة نقاش مع طلبة من تنظيم الإخوان كانوا يسعون لإقناعي بحلّ “الطليعة الطلابية” وترك الأفكار الغريبة والعودة إلى الإسلام، فقلت لهم نحن نتحاور كمنظمتين لا كمنظمة إسلامية تبحث عن منتسبين، أجاب محاوري: “عاجلا أم آجلا ستدخلون في دين الله أفواجا فكن من أول الداخلين لا ممن يتبع الطريق نفاقا ومنفعة”.  وكان هذا الموقف في عام 1974 وراء قطيعة في الحوار بل والاجتماع العام مع حركة الإخوان المسلمين، قطيعة بكل الأشكال استمرت حتى اجتماع تشاوري مع عدنان سعد الدين في باريس في 1983 بوجود عدد من المثقفين والحزبيين. وقد ذكرّت المراقب العام للحركة يومها بأن الحركة في تراجع وهزيمة لإطروحات حقبة الصراع المسلح التي أحرقت الأخضر المدني وتركت لحالة الطوارئ كل أسباب البقاء. وأن سورية متعددة سياسيا متعددة دينيا ومذهبيا وهي لا تحتمل برنامجا إسلاميا يجري الحديث فيه عن قوننة التشريع الإسلامي، كما كان طرح جبهة إنقاذ سورية. واختلفنا ولم نعد لحوار أو لقاء، حتى وقف العملية الانتخابية في الجزائر ومشاركتي في مظاهرة لإطلاق سراح المعتقلين في التجمعات الصحراوية من الإسلاميين أمام السفارة الجزائرية. تقدم مني يومها الصديق سلطان أبازيد مع شاب وسيم ودمث، وقال لي: هذا مسئول حركة الإخوان المسلمين في فرنسا وهو يرغب بالتعارف عليك. كانت بداية حوار أكثر نضجا، أولا لغياب المشاريع الجاهزة المسبقة، ثانيا لغياب الإيديولوجية السياسية الشمولية وثالثا، كانت الحقبة حقبة إعادة اكتشاف العالم بعد هزات أرضية جيوسياسية من العيار الثقيل تبعت إنهيار معسكر وارسو والنتائج الكارثية لاحتلال الكويت ونتائج حرب الخليج الثانية. ويمكن القول أن لحقوق الإنسان الفضل الأكبر في مد جسور الثقة خاصة وقد اكتسبتُ وقتئذ صورة الحقوقي الذي لا يميز بين علماني وإسلامي يضطهد. الإنتقال إلى حوارات أوسع وأكثر أثرا كان على الصعيد العربي وبعيد الإحتكاك بالحركة الإسلامية السياسية في المغرب الكبير. ثم عملية التقريب بين الإتجاهين في ندواتنا الباريسية التي نعتز بقدرتها على جمع من كان اجتماعهم صعبا إن لم نقل من سابع المستحيلات. طبعا مجرد الإنتقال إلى دور التقريب، يحرم المرء من دور المفكر والناقد، ويصبح من واجبه التركيز على ما تجتمع عليه الكتلة الأكبر من الديمقراطيين العلمانيين والإصلاحيين الإسلاميين. ولعل من علامات النجاح في هذه المهمة أن يتصل بي المرحوم ماهر عبد الله ليطلب مني المشاركة في حلقة من برنامج “الشريعة والحياة” عن التقارب بين الإسلاميين والوطنيين، باعتباري كما كان يظن، من الإسلاميين!

يمكن القول أن هذه المرحلة، التي سبقت احتلال العراق، كانت مرحلة ذهبية في الحوار ونوقشت فيها طبيعة الدولة السائدة ومشروع دولة عهد وعدل ومفهوم مدني للعمل السياسي والتأكيد على دنيوية الفعل السياسي والمسؤولية الشخصية والجماعية خارج أي تقديس للمواقف والأحزاب، وأخيرا القدرة على إنتاج مشاريع نظرية-سياسية  مشتركة.

هزّ احتلال العراق كل المفاهيم وزعزع جل التجارب، فقد سبق الإسلاميون العرب العلمانيون العرب في التعامل والتنسيق مع الاحتلال (ندع المثل الكردي جانبا)، وبرز للعيان، أن كل الأحزاب الإسلامية، سنية وشيعية، هي أحزاب لا تختلف عن العلماني والوطني والليبرالي والشيوعي بشيء. اللهم إلا أن ما تعتقد وتعبيء الجمهور بما يمكن تسميته عقدة الخصاء الفرويدية. ونقصد بعقدة الخصاء ما يتحدث عنه فرويد في وصف مشكلة المرأة مع غياب القضيب، الحزب الديني لديه الله فوق رؤوس الأشهاد يقدس باسمه أفعاله وخياراته ويرفع باسمه من قيمة برنامجه السياسي ويعلل باسمه القتل والتعذيب وسحق الآخر إلخ. فكل ما يفعله العضو في الحزب الإسلامي سنيا كان أو شيعيا في العراق، يرتدي عباءة الدين. ولولا الأحزاب الدينية لما استطاع بريمر أن يغطي الوجه القبيح للاحتلال. لأن العلمانيين في مجلس الحكم كانوا أقلية. ويمكن القول أن العدوى قد عبرت الحدود لحركة الإخوان السورية ومشتقاتها، فإذا بهم يتحاورون مع المرتزقة الجدد والمحافظين الجدد بعد أن كنا متفقين على رفض الإستقواء بالخارج من حيث المبدأ والنتائج (لأنه يشوه الخارطة النضالية الفعلية للمجتمعات في الداخل ويحطمها بشكل غير مباشر). وقد دفعت المعارضة الديمقراطية في سورية مثلا ثمن أشكال استفراد الإخوان بتجاوز إعلان دمشق لتكوين ما عرف بجبهة الخلاص، التي كانت أول معول هدم لوحدة العمل الوطني المعارض، والتي ضربت الثقة المشتركة لأي عمل مستقبلي مع الإخوان المسلمين عند قطاعات هامة من المعارضة داخل البلاد، ناهيكم عن كونها زجت المعارضة الديمقراطية في صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل. ولا شك بأن   صمت العديد من الأحزاب الإسلامية والعلمانية عن انتهاكات مخيفة لحقوق الإنسان في العراق مقابل ورقة حسن سلوك أمريكية (اليوم يكشف موقع ويكيلكس أن أكثر من 200 ألف شخص اعتقلوا في ست سنوات وكانت وزيرة حقوق الإنسان قد أعترفت بالحكم بالإعدام على اثني عشر ألف شخص في خمس سنوات في العراق الجديد؟) قد طرح بقوة ضرورة إعادة الفرز والتصنيف على أسس أخرى.

 لقد عبر بعض الإسلاميين جسورا لم يجرأ أكثر الليبراليين الجدد عبورها، وتفككت فكرة أن الحزب الإسلامي  يحمل أصالة وطنية وقداسة دينية وحصانة أخلاقية. وتحول هذا الحزب إلى حزب سياسي كغيره من الأحزاب، له ما له وعليه ما عليه ويفترض التعامل مع كل حالة بذاتها وفق ما تقول وتفعل.

مع سقوط ورقة التوت، عاد الكثير من الأحزاب السياسية الإسلامية للعبة الإستقصاء غير المعلن والإبعاد واحتكار مواقع العمل المشترك وجعل العصبية التنظيمية هي المرجع المسلكي في النضال العام والعمل العام. مع ما يمكن تسميته الغطاء الإيديولوجي للعصبيات والمحاباة.

ففي كل التجارب الإعلامية المشتركة أو القائمة، وحيث ارتقى إسلامي لموقع المسؤولية الأول، تتم عملية احتلال هادئة للموقع، بحيث تصبح السياسة العامة وخطة العمل وتحديد الضيوف قضية تحت السيطرة، وأحيانا بنفس آليات عمل الإعلام الحكومي العربي.. وقد أرسل لي صديق إسلامي رسالة كانت قد وصلته من مدير محطة تلفزيونية فضائية عندما اقترح عليه مناضلا وطنيا كبيرا يقول فيها: “الإعلام وسيلة اعتقادية وعقائدية خطيرة لا يمكن تسليمها لغير الموثوق بإيمانهم والتسويق لهؤلاء إنما يكون على حساب الإسلام ونهجه”. أنا لا أتحدث عن إسلاميين متطرفين، بل عن ما يمكن تسميته غطاء الوعاء.

أقول بصراحة وفي هذا المنبر حتى لا تنحصر مهمتنا في النفاق الكلامي المتبادل، أن ما أصبح أكثر وضوحا وجلاء من ذي قبل عند معظم التعبيرات الإسلامية هو التمسك بالشكليات أكثر، من هيئة وملبس وعبادة، والتحلل من النواظم الأخلاقية والسلوكية أكثر. بحيث أصبح الناظم الأساسي، باستثناء كلمات جرت شيطنتها (مثل العلمانية والجندر مثلا)، ميزان القوى الميداني. مع عدم الإمتناع عن توظيف القضايا المذهبية لشحن الجمهور حيث يمكن ذلك. ويتم من بعض الأطراف توظيف المعطى الديني للحديث عن إسلامية أو عدم إسلامية الآخر ضمن معايير ذاتية وذرائعية. ونلاحظ بوضوح، أنه عندما يكون الطرف الإسلامي قويا، يقوم بكل عمليات الإستبدال الضرورية لتغطية الفضاء المدني: جمعيات خيرية إسلامية، أسلمة النوادي، السيطرة على وسائل الإعلام، السيطرة على مراكز الدراسات والبحوث، إضعاف غير الإسلاميين بل وغير الحزبيين. باختصار، عندما ندخل في منطق استراتيجيات السلطة، الفكر الشمولي حاضر ناضر وهو المسهل لعملية احتلال الفضاءات العامة.

 مثل بسيط، في التحالف الدولي لملاحقة مجرمي الحرب الذي ولد بعد عدوان الرصاص المسكوب على غزة. منذ البدء كان ثمة محاولة لإضعاف المنظمات الفلسطينية غير الحكومية داخله والتدخل في توجهاته (عبر طلب استبدال العلاقة مع المنظمات غير الحكومية باللجنة المركزية للتوثيق التي عينتها الحكومة المقالة، وطلب الإطلاع على أية دعوى قضائية قبل تقديمها) وعندما رفضنا هذا، لم تزودنا اللجنة المركزية للتوثيق بحالة واحدة لأي ضحية من ضحايا العدوان الإسرائيلي، وكل ما نناضل به هو من مركز الميزان لحقوق الإنسان ومؤسسة الضمير لحقوق الإنسان. وأكثر من ذلك، تم اختطاف عدد من المحامين من التحالف والدفع لهم عبر هيئات موازية بشكل أثر سلبا على تحركنا وخلق حالة بلبلة في أوساط المحامين.

مقابل حالات الفشل هذه كان هناك نجاح في دفع الإسلاميين، بما في ذلك السلفيين، لتشكيل منظمات لحقوق الإنسان. وبالفعل أصبحت الخارطة اليوم تضم عددا هاما من الجمعيات التي شاركت في إغناء ثقافة حقوق الإنسان وهمشت الخطاب الذي كان يختزل هذه الحقوق بالمستورد الغربي.

اليوم، الوضع أسهل بكثير، لأننا نعيش حقبة نزع القداسة عن الحزب الإسلامي، وبالتالي فهو حزب كغيره من الأحزاب، ولم يعد بإمكانه أن يتهم الحزب العلماني بموبقة واحدة لم يرتكبها هو نفسه. وكم حدثت في السنين السبع الأخيرة اصطفافات واصطفافات مضادة مختلطة في الجبهتين. لذا يمكن القول أن الدور التاريخي للحوار والتقارب قد تم تخطيه، وأننا اليوم في مرحلة الإصطفافات والتحالفات من أجل دولة مدنية ديمقراطية يناضل من أجلها إسلاميون وعلمانيون، ويناضل ضدها إسلاميون وعلمانيون أيضا.

وبودي استخلاص بعض العبر من اللقطات الشخصية والقراءة المستعجلة:

1-   لقد نجحنا، كجمع محدود العدد من المثقفين المناضلين في تأصيل فكرة الإعتراف بكامل عناصر الجغرافية السياسية كشرط واجب الوجوب لحياة سياسية طبيعية وصحية، ويمكن القول أن من يدافع عن هذه الفكرة اليوم لم يعد أقلية في المجتمعين السياسي والمدني.

2-   لقد نجح الإحتلال في زعزعة مفهوم السيادة ليس فقط على صعيد الدولة وإنما أيضا على صعيد الأحزاب السياسية. وبالتالي نشأت تشنجات وعصبيات جديدة خارج الاصطفاف التقليدي الذي رافق صعود الحركة الإسلامية السياسية.

3-   دخل مفهوم الشخص القوى السياسية نفسها، بحيث أصبح هناك شخصيات حوارية مقبولة من معظم الإتجاهات كونها بالممارسة تمكنت من إثبات أن ما تقوله هو محصلة قناعة عميقة وليس مجرد تكتيكا سياسيا، كذلك شخصيات “الله غالب” معروفة بأن علاقتها بالآخر نفعية ومصلحية أكثر منها استراتيجية، وهي غير مؤهلة بنيويا للقيام بعملية بناء مشتركة للممارسة السياسية النبيلة القادرة على خوض معارك نهوض كبيرة.

4-   لا يوجد وصفة سحرية للتقارب والحوار، هناك تجارب عيانية محددة بالزمان والمكان والموضوع وقادرة بوصفها كذلك، على تأصيل أخلاقيات جديدة في التحالفات والنضالات اليومية.

لقد ساهمنا، كلجنة عربية لحقوق الإنسان في حوار علماني إسلامي حول شكل التغيير في تونس (صدر في كتاب “تونس الغد” الذي شاركت فيه مختلف أطياف اللون السياسي التونسي) وأول وثيقة سورية في هذا القرن بين الإسلاميين والعلمانيين،  والحوار بين عدة أطراف مصرية في ندوات مشتركة، وإصدار كتب حول الإصلاح الدستوري في السعودية لشخصيات مختلفة المنابع والتعريف بالتجربة المغربية (القطب الديمقراطي) وخلق نواة صلبة من الحكماء تستمر في الحوار الفكري والمدني بغض النظر على المواقف السياسية المباشرة والآنية. وأظن بأن الخطوات التي حدثت، رغم كل النقاط السلبية التي أشرت لها وأردت التركيز في هذه المداخلة عليها من أجل تجاوزها، قد زرعت تراكمات لا يحتاج بعدها أي حوار للعودة إلى نقطة الصفر.

———– 

الحوار المتمدن – العدد: 3165 – 2010 / 10 / 25