أكتوبر 13, 2024

طريق الثورة

TUNISكيف يمكن للمرء أن يكتفي بمتابعة تدشين الشعب التونسي لعودة العرب إلى التاريخ من بعيد بمظاهرات تضامن باريسية وأوروبية ونقاشات على الشبكة العنكبوتية والاجتماعية، أو ندوات تجمع بين أبناء تونس في الداخل والخارج مع العرب والأوروبيين؟

هل يمكن لكهل عرف الانقلابات التي عمدت ثورات والحركات الاجتماعية المجهضة والفورات السريعة التي تشبه البرق في مرورها، أن يترك ثورة من دم ولحم وروح تمر تحت ناظريه ويكتفي بمتابعة شبيبتها في العالم الافتراضي الاجتماعي؟ لم يكن ممكنا البقاء بعيدا عن تونس التي طُلِب مني في المطار آخر مرة، أن لا أعود إليها.

لا أذكر، ولم يعد يهمني التاريخ بالضبط. وقد رجعت لأقول لصديقي منصف المرزوقي المنفي في باريس بالهاتف من مطار مدريد يومها: انتهى الأمر يا منصف، نرجع معا أو نبقى منفيين عن تونس معا، هكذا قرر معتمد (sous préfet) قرطاج (وهو الوصف الذي أطلقه الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران على السيد بن علي).

اشترينا بطاقاتنا فرادى بالإنترنت، ليلة السفر نصح أهل عماد الدايمي صديقنا الشاب بعدم العودة لوجود أحكام قضائية بحقه لأسباب سياسية، لكنه بعد قليلِ ترددٍ قرر المجيء. شريك ندوات المنفى الثقافية فتحي بلحاج من التيار القومي التقدمي، في المقعد أمامنا. وبجواري توأمي التونسي منصف.

أولى روائح الثورة خرجت من صوت القبطان الذي أعلن “مرحبا بكم على متن طائرات الخطوط التونسية المحررة”، فقد قام طاقم الطائرات والشركات الوطنية بتخليص الشركة من أي وصاية.

نظر موظف المطار في الحاسوب فرأى مع اسمي عجابا، الأمر الذي اعتدت عليه في مطارات دمشق وعمان.. إلخ، فتوجه إلى مسؤوله الذي أبصرني من بعيد فعرفني وبادر بالقول “أهلا وسهلا بالدكتور في تونس الجديدة”. وعندما اقتربنا من باب الخروج كان صوت “تونس تونس حرة حرة والتجمع على بره” يدوي، فأمسكت بيد منصف وخرجنا معا ولا أدري بعدها تفاصيل ما حدث.. كان عرسا من أعراس الحرية ذكرني بعودتي إلى سوريا عام 2003 بعد ربع قرن من المنفى.

كنا قد اتفقنا على التوجه مباشرة إلى طريق الثورة، وأعني به الخط البري الداخلي الذي يختصر الظلم الاقتصادي والتهميش السياسي والمدني والحرمان التنموي في تونس الواقعة خارج خارطة اقتصاد الخدمات والصناعة السياحية، والذي كان نبراسا في كل انتفاضات وحركات تونس منذ قرابة قرن ونصف.

ناضل ضد الاستعمار بشراسة، وكان بمعظم سكانه مع الحركة اليوسفية فأهمله النظام البورقيبي، ولم يعتبر “التحرك” تغييرا فنقمت عليه منظومة بن علي.. لذا ركبنا في سيارتين: أربعة محامين بارزين كانوا في صدر الحركة المدنية (طارق العبيدي في الكاف، ومنيا بوعلي من تالة، وعبد الرؤوف العيادي في العاصمة، وعبد الوهاب المعطر في صفاقس) مع ثلاثة قادمين من فرنسا نحو المدن والقرى التي حملت على أكتافها مهمة زعزعة الدكتاتورية.

لم يكن بالإمكان التوقف في كل مكان بسبب أوقات حظر التجول، لكن كان يكفي النزول لشراء زجاجة ماء حتى يكتشف أحد المارة أو المواطنين أحدنا فيبدأ التجمهر حولنا، ولا يلبث أن يتحول التجمهر في دقائق إلى مظاهرة صغيرة.. مظاهرة طالما عملنا لأسابيع عدة في باريس طيلة عقدين من الزمن، لتجميع عدد مشابه لها، للتجمع ضد الدكتاتورية الباردة في ساحة حقوق الإنسان.

لا أدري إن كان للفندق ما يسمى باللغة السياحية نجوم، بل حتى لم يعلق بذهني اسم الفندق، لكن بالتأكيد درجة الحرارة في الغرفة منخفضة جدا لعدم وجود تدفئة حديثة أو قديمة أو مياه ساخنة.. الأغطية والحركة هي الوسيلة الوحيدة لرفع حرارة الجسم، فنقص النوم منذ أسابيع يجعل القدرة على تحمل البرد أقل، لكن الدفء الذي قدمه أهل القصرين لأرواحنا لا يعادله إلا تلك الشحنة الثورية التي عبّر عنها أهل تالة بعد ظهر اليوم نفسه.

قيل لنا إن هذه الروح الثورية في تالة عمرها قرون، وكأنها في المياه الجوفية للمدينة.. وبالتأكيد، فإن إحساس المرارة والظلم بادٍ على وجوه لم تمنعها قسوة الحياة من القدرة على التعلم واكتشاف تاريخها وعالمها والتعرف على سمات حقبتها.. كثير من الخريجين الجدد في المنطقة من دمشق وحلب، لذا ورغم طلاقتي بالدارجة التونسية كانوا يكلمونني بإحدى اللهجات السورية.

أربعة أجيال تجمعت حولنا لتذكرنا بأن مدينة تالة دخلت التاريخ المغاربي باعتبارها الشرارة الأولى أو الدفعة الحاسمة في انتفاضات وحركات تحرر وحركات اجتماعية تحتاج عالما كبيرا في التاريخ الاجتماعي -كالفقيد علي الوردي- يسجلها لكل عربي ولتراث الإنسانية.

تذكرت أول سفرة لي مع منصف إلى موريتانيا بعد منع دكتاتورية ولد الطايع لنا من الدخول، وكم كان شعب موريتانيا كريما وشهما معنا، وكم كانت النقاشات غنية، لكن كان ثمة شعور بأننا أمام انتقال بدأ في القصر وقد يعود إليه. أما في تاله فشعرت بأن الشعب هو صاحب النقلة التاريخية، ولن يقبل بعد سرقة الحرية والثروة من الدكتاتورية بسرقة الثورة، كما عبر ببلاغة الجنوب التونسي الدكتور بن منصور.

بعد نقاشات ليلية حول إدارة الناس لشؤونهم بأنفسهم في المدينة وحالة الطمأنينة في غياب أجهزة بن علي، كانت والدة أحد المناضلين في القصرين قد أعدت العشاء الذي وصَلَنا -رغم حظر التجول- في الفندق الخالي من وجبات الطعام.

ووقفت أستعيد صدمة الشهادة الجماعية مع ولاية القصرين في باريس ليلة 8 يناير/كانون الثاني الجاري.. كنا في قاعة أجيكا الباريسية ننظم ندوة عن المقاومة المدنية بمشاركة الشبيبة التونسية.. أنهينا ندوتنا السنوية من أجل إغلاق غوانتانامو مع سامي الحاج هذا العام، ثم غيرنا اللافتات ومتحدثي المنصة، وامتلأت القاعة سريعا، وقد رافقنا مصور الجزيرة المغامرة.

في تلك السهرة التي تابعها كاملة جمهور الجزيرة مباشر، طلب أحد المناضلين التدخل لإعلان خبر ورده على الفيسبوك: وفاة شهيدين من القصرين واعتداء بوليسي على المتظاهرين وعدد كبير من الجرحى.. وبدأ العدد يزداد طوال السهرة التي أكملتها على الفيسبوك حتى الرابعة صباحا، ثم نمت ساعتين واستيقظت أحضر قليلا من الطعام لضيفي طارق بن هبة أحد أنشط الكوادر النقابية والجمعياتية التونسية الفرنسية في باريس، لكنه اتصل ليقول لي: اتفقنا على التظاهر دون ترخيص بعد ساعتين، فقد سقط أكثر من عشرين شهيدا. ولحسن الحظ لم يتدخل البوليس الفرنسي لتفريق الآلاف المتضامنة مع الشبيبة التونسية والجزائرية.

القصرين نفسها استقبلتنا بمظاهرة حملتنا إلى كل المعالم الأساسية الجديدة في المدينة: ساحة الزهور المعمدة ساحة الشهداء، الساحة الرئيسية التي تحطمت فيها صورة الصنم وبرنامج 7 نوفمبر، إذ أمسك أحد الشباب بقطعة من البرنامج الحجري المكسر وقال “احمل معك ذكرى أهم من حجارة جدار برلين.. حبوا يهمشوا أهل البلاد الداخلية، كل العرب سيتعلمون في المدارس قصتنا مع الدكتاتورية والحرية”. عزة نفس عند الجريح والعاطل والمحامي والعامل والفلاح والبائع وربة البيت والمعلمة وكل فئات الناس، شبيبة وشيابا.

شعرتُ بل حقا كنتُ في مناطق محررة من كل تسلط أو سوء استعمال للسلطة.. كنت أحدث أصدقائي لأتأكد من أنني لا أعيش حالة هلوسة فكرية، ثم وقفت أحدّث شابا في القصرين “لو أنني كتبت مقالة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أقول فيها: عندي حلم، أتمنى أن تقوم ثورة عربية سلمية غير عنفية، لا أيدولوجية تحكمها ولا صنم يمثلها، مدنية وديمقراطية يشارك الشعب كله في صناعتها، وليس تلك الطائفة أو أولئك القوم أو تلك المنطقة.. تكسّر تفاهات المحافظين الجدد بتصدير أنموذجهم من فوق ومن الخارج وتعيد للشعب حقه في صناعة حاضره ومستقبله.. تنبثق من المجتمع ومن الداخل.. ماذا كان العالم سيقول عني؟ هذا المهبول يخلط بين جمهورية أفلاطون الحديثة والوحل الاستبدادي العربي.. فبكى وقبلني وقال: كم فكرت في البحر والانتحار قبل هذه الثورة”.

لا أستغرب رجفة كل من كتب القرار رقم واحد واحتل الإذاعة وحاصر قصر الرئاسة وتحدث عن ثورة، فقد صار الفارق جليا بين الانقلابات والثورات، بين الشعارات والممارسات، بين لجان ينتجها المجتمع لتكون أعلى وأرقى أشكال تنظيم الحياة اليومية في الظروف الانتقالية ولجان مهمتها الرقابة البوليسية والرشوة وحماية منظومتي الفساد والاستبداد. فقد حطمت الشبيبة التونسية زعامات تماثيل الإسمنت والإسفلت، لتعيد إلى الحلفاء والياسمين وخبز كلّ أمٍ طعمَ الحياة وحق الأمل.

كم من المظاهرات عشت في أيام خمسة، كم من المدن نقلتنا إلى عالم الحلم.. الرقاب وتاجروين والدوز وتونس وصفاقس وسوسة وتالة وسيدي علي.. هل يمكن إلا أن يقع المرء في حب هذه الحسناء المسماة بالثورة.. كنا نسهر الليالي للدفاع عن معتقل واحد، فوضعت الشبيبة الثائرة موضوع إنهاء الاعتقال السياسي على طاولة بحث أي حكومة.. كنا نطالب حق التنظيم والتعبير والتجمهر، وها نحن في وضع يقول فيه المواطن “لسنا بحاجة إلى أن تعترف بنا حكومة لا نعترف بها”.. الإذاعات ومحطات التلفزيون تحولت إلى منتديات مفتوحة، وتم تجاوز ما عرفنا من سقف للحريات، وما قال تقرير التنمية العربية يوما إنها شرط أساسي للتنمية (الحريات الثلاث) يعيشها الشعب، وهو على استعداد لبذل كل التضحيات من أجل الاحتفاظ بها..

لن أتوقف كثيرا عند سيدي بوزيد ولقاء والدة البوعزيزي والمشاركة في مظاهرة حاشدة لإسقاط الحكومة، فقد وعدت أهل الولاية بكتاب عن تونس الجديدة يتجاوز بالذاكرة الجماعية ما سبق أن كتبته عن الحقبة الدكتاتورية.

لقد كانت هذه الولاية المُصدِّرَ الأول لأجهزة الشرطة والجيش، وتم إهمال أي مشاريع إنتاجية أو تنموية فيها لعقود، وكأن السلطة التسلطية أرادت أن تقول لأهلها “مصدر عيشكم في مؤسسات حمايتي”. وكما كانت غدانسك أرضية الانقلاب على الأيدولوجية الممجدة للطبقة العاملة في بولونيا، وقف أبناء العاملين في أجهزة الأمن والجيش يطالبون بعمل آخر ومستقبل آخر.

وفي السنوات الأخيرة، صاروا يصدرون زوارق الموت وسكان منازل الصفيح العشوائية كغيرهم من ولايات الداخل التونسي كالقصرين وجندوبة إلى ضواحي العاصمة، وكان التحاقهم بالحركة الاجتماعية المدنية في الحوض المنجمي وولاية قفصة المؤشر الأول لسقوط الدكتاتورية. وجاءت تحركات المدن لتكمل انتفاضة الولايات الداخلية فإذا بنا أمام مجتمع الثورة.

كانت النقاشات جد عميقة حول المستقبل وإمكانية المزاوجة بين التنمية المستدامة والديمقراطية للنهوض بالبلاد والعباد. سمعت قصصا عن محاصرة واغتيال العقول والطاقات لا تصدق حتى أثناء الثورة، كذلك عمليات الشغب المفبركة لتشويه صورة الثورة، وكأن ثمة أيد خفية تخاف من القدرات العبقرية لهذا الشعب. وكم جرى النقاش في تصورات لسيناريوهات التغيير ونجاحه.

لم يعد هناك نخبة وعامة، ومن المضحك التوقف عند كلمة العفوية، كذلك من السخف الحديث عن غياب صور قيادات، فهناك وفرة في الطاقات والإمكانيات فجرتها الثورة، وكل من يعتقد بأن بالإمكان إدارة الأمور بنفس الطريقة التي غادر بها الرئيس المخلوع البلاد، أي توافق بعض رموز القديم مع واشنطن وباريس، لم يفهم الشيء الكثير.

لن يكون ثمة فراغ، ولا يستغرب قيام حقبة ازدواجية سلطة، يتلاشى فيها القديم وتولد فيها الدولة الجديدة. لكن الاحتمالات متعددة، هي حقبة نضال مفتوحة لن تحتمل “الشابور بختيارية” من أي طرف، ولن ترتسم معالمها دون منح هذا الشعب العظيم الحق في رسم معالم مستقبله بنفسه. وواجب الشرفاء في هذا العالم أن يكونوا في مستوى التضامن والدعم لهذا الشعب الذي علمنا من جديد معنى الحياة.

سجلّت جملة لا تنسى من متخرج من دمشق وعاطل عن العمل في سيدي بوزيد، قال “يا عزيزي لن يعادي هذه الثورة إلا ظالم في بلده أو رافض لسيادة الشعب، وفي الحالتين لا يمكن تصنيفهم أصدقاء للكرامة الإنسانية”.

الجزيرة نت 30/01/2011