توالى الأخبار القاتمة من مدينة حمص، بعد أربعة أشهر من هيمنة المقاومة المدنية على أشكال الرد الأخرى على التوحش الأمني، تَدْخُلُ عدة أشكال للعنف من المجتمع ضد المجتمع، ويتبلور تحالف المصالح والأهداف بين كل ذوي الأجندات الخاصة لمذهبة الصراع . فهل نجحت الأجهزة الأمنية في استدراج المقموع إلى برنامج القامع باعتبار هذا الاستدراج نحو التطرف والطائفية هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ الدكتاتورية؟
حتى لا نسقط في الصورة التبسيطية التي تجعل من سورية ما قبل البعث جنة حولها انقلاب الثامن من آذار ومن ثم آل الأسد إلى جحيم، من الضروري التذكير بأن الدولة السلطانية قد شجعت خلال قرون تكوين الملة والطائفة والعشيرة باعتبارها الأجسام الطبيعية لإدارة العلاقة بين المجتمع الواسع والسلطة المستبدة. ذلك رغم وجود نوع من الإدارة الذاتية اعتمد على التكوين العضوي والعصبي التقليدي. ومهما سعى المدافعون عن مبدأ “الخلافة التي لا تخطئ” إلى تجميل صورة الرجل المريض، فقد كانت الخلافة العثمانية ظالمة في علاقاتها السياسية بالمختلف مذهبيا ودينيا عن ملة الحاكم، هزيلة في تكويناتها المدنية، لصوصية في علاقاتها الضرائبية، عاجزة عن التجدد والتقدم الذاتي، بحيث صارت “أحسن قراراتها” تلك التي تصدر بضغوط خارجية.
الدولة الاستعمارية لم تكن أحسن حالا لأنها لم تعتمد قيم نهضتها أو ثورتها، بل قواعد استمرار هيمنتها. لذا كان العمل المؤسس للدولة السورية الحديثة ابن حركة ثورية تحررية داخلية حملت الجميل من تراثها والمفيد من عصرها: الوطنية الجديدة التي ولدت في إطار الصراع ضد الاستعمار والهيمنة الأجنبية في العشرينيات على أساس قيم الثورة السورية الكبرى الموحدة للمجتمع السوري بكل مكوناته نجحت في بلورة معالم للشخصية السياسية والثقافية السورية أبرزها قبول مدنية الدولة، وفق عقد اجتماعي يستند في واحدة من أهم ركائزه إلى مبدأ “الدين لله والوطن للجميع”، وبالتالي ولدت سورية المستقلة بمؤسسات برلمانية ضعيفة وثقافة مواطنية مدنية ناشئة لم تلبث حرب فلسطين أن أعادت لها البعد الوطني على حساب البعد المواطني. وليس من الغريب بعد النكبة، أن تكون سورية والبلدان العربية من أقل دول العالم اكتراثا بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. لقد اغتال خنجر إسرائيل عمليات النمو الذاتية للمواطنة والدولة الديمقراطية عبر جر دول المواجهة إلى مواجهة اضطرارية مع دولة لا تختلف عن القاعدة العسكرية الحديثة إلا ببعدها الاستيطاني السرطاني. وبهذا المعنى يمكن أن نتابع حركة العسكرة في استلام الحكم وفي توسع المؤسسة العسكرية في مصر وسورية. ولقد لعبت الإنقلابات العسكرية دون شك دورا كبيرا في بلورة عقلية تسلطية تفكر في القدرة على السيطرة على الجيش كوسيلة للإستمرار في الحكم، مهما كانت الإيديولوجيات جميلة وجذابة، دينية أو دنيوية.
لقد هدمت الدكتاتورية السياسية كل البنيات الناشئة للمجتمع المدني والدولة المدنية، وتركت الناس تلجأ لخيمة التدين وكوخ العشائرية بعد رفع كل أشكال الحماية عن الفرد واغتيال حقوق وحريات الأشخاص عن سابق إصرار وتصميم. وليس بغريب في هذا المعمعان أن توظف العلاقات العضوية وتستغل القضية الطائفية بشكل تغطي فيه على تجمع المصالح الأمني العسكري المهيمن على السلطات الثلاث والبنيات الحزبية والنقابية المرخص لها في البلاد. ولا نستغرب أن تكون البيئة الحاضنة للطائفية قد تنامت في حالة التصحر السياسي والفساد الاقتصادي والتفكك الاجتماعي والإفقار الثقافي التي سادت البلاد.
لقد سجل الشباب السوري عودة الشعب إلى التاريخ وعودة البلاد إلى الحياة، وكلما كان أكسجين الثورة أعلى، تراجعت الطحالب واحتضرت الطفيليات. لذا حملت انتفاضة الكرامة قيما كبرى في مواجهتها لسلطة التسلط ومنظومة الفساد، قيما تعتمد المقاومة المدنية السلمية في وجه المقاربة الأمنية للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، المطالبة بدولة ديمقراطية مدنية قوية في وجه أي تعبير من تعبيرات الطائفية، إحياء مفهوم المواطنة وسيادة الوطن منعا لكل تدخل خارجي في مسار التحول الثوري السلمي إلى الديمقراطي، ورفض أي شكل من أشكال العنف، ورغم فداحة الخسائر، بقيت الأغلبية العظمى من أبناء الحراك الثوري المدني تؤكد على هذه الثوابت وترفض الإنزياح عنها، لاعتبارها أي بكل بساطة، مؤشر انتصار للماضي الدكتاتوري على المستقبل الديمقراطي وعلامة تراجع عن أهداف نبيلة لا يمكن بدونها، تحقيق تحول ديمقراطي فعلي وبناء شبكات علاقات مدنية مواطنية جديدة وتأصيل القطيعة مع الإستبداد والفساد ومنتوجاتهما السلوكية والثقافية.
لم تبدأ الإنحرافات الطائفية عن مسار الثورة الديمقراطية المدنية في حمص بل في العالم الإفتراضي، وحاولت أطراف ظلامية اختزال ثورة الشباب والشعب بحراك “أهل السنة” في وجه النصيرية والباطنية الرافضة والمجوس، واستطاع الإعلام الخليجي إعطاء زخم كبير لهذه الأطروحات على الفضائيات.
لقد حاولنا بكل الوسائل تحجيم هذا الصوت النشاز والمدعوم من أنظمة بدأت تتلمس رأسها منذ ثورة تونس، وبالأخص دول الخليج , وعلى وجه التحديد النظام السعودي وحلفائه في المنطقة . ولا شك، بأن الدعم الإعلامي والمالي الهائل الذي يتمتع به أصحاب هذا الخطاب، قد أعطى السلطة الدكتاتورية كل ما تحتاج إليه في حديثها عن مؤامرة خارجية ضد “النظام الوطني والمقاومة والممانعة”.. هكذا التقت مصلحة السلطة الأمنية وجنود التعبئة المذهبية من أجل خنق وتجفيف منابع العطاء الديمقراطي. الأول بالقتل والإعتقال والملاحقة لأهم كوادر الإنتفاضة الشعبية، والثاني في عنف الكلمات وتأجيج الأحقاد وتوفير البيئة الصالحة لعنف يواجه فيه عنف السلطة. ويلاحظ التقاطع الموضوعي بين شبيحة السلطة وتشبيحات المتطرفين في تغييب كلاهما لأهمية الحوار المجتمعي والتواصل المدني بحيث تستمر حالة تدنيس الوعي التي تنتجها الدكتاتورية. ناهيكم عن محاولات ضرب ترابط النضال الاجتماعي نحو الحرية مع النضال الوطني من أجل التحرير بوعي أو بدون وعي.
لا يمكن بحال من الأحوال، مقارنة قوة السلطة الدكتاتورية الضخمة بقوة فوج التطرف المحدودة. خاصة وأن المركب الأساسي للنضال الثوري ما زال يتقدم بشكل كبير على الأقلية المتطرفة في الحراك الاجتماعي. إلا أن خطر هذا الفوج يزداد يوما بعد يوم، ويساعد على ذلك عدة عوامل
أولها: لجوء السلطة الأمنية لخنق حالة الوعي المتقدمة للإنتفاضة عبر اعتقال خيرة كوادرها، وسحق الإعتصامات منعا للحوار الجماعي، وقتل المواطنين معززة الرغبة في الإغتيال والرد عند المقموعين.
ثانيها، نشوء حزب المستعجلين من الطبقة السياسية التقليدية خاصة في المنفى. حزب المستعجلين هذا يشعر بأن الإنضاج الطبيعي لقيادات التغيير في الداخل يعني تهميش الدور الذي يسعى له من الخارج، لذا فهو يضم اتجاها قويا يدعو للعنف والتصلب وتكريس الصراع الطائفي بحيث يصبح دور الخارج حاسما في علاقات القوى الداخلية.
لعل كارثة الكوارث في هذه اللحظات الصعبة التي تعيشها الحالة الثورية المدنية في البلاد ناشئة من هذه التقاطعات بين شبيحة القامع ومتطرفي المقموع. المقهور يجد في الرد الطائفي وسيلة تنفيس وتعبئة ضد توحش الأمن، والقامع يجد في خطاب البعض عن ثورة أهل السنة ما يحتاج إليه لتحييد الأقليات وقطاعات واسعة من السنة الرافضين لأي هوية مذهبية للنضال السياسي.
لا يمكن لثورة مذهبية أن تنتصر في سورية على الدكتاتورية. بل لعل الطائفية والمذهبية أول مسمار في نعش الثورة. من هنا نؤكد للمرة الألف، أن ثورة أهل المواطنة هي السبيل الوحيد للقضاء على الدكتاتورية والتخلص من حكم العائلة والأجهزة الأمنية والمحسوبيات والعلاقات العصبية والزبونية.
لقد أصبح من الضروري تحقيق الفرز الواضح بين القطب الديمقراطي بكل مكوناته، والقطب الإستبدادي بكل تعبيراته. لم يعد هناك مكانا للصمت أو المهادنة، لأن المهادنة تعني المشاركة في اغتيال أجمل ما قدمت لنا انتفاضة الكرامة، المواطنة في وجه الرعية، المدنية في وجه العصبية، السيادة في وجه الهيمنة الخارجية والديمقراطية كمنهج جامع لكل السوريين.
24/07/2011
أسامة الطويل، خلدون الأسود، صدى حمزة ، ماجد حبو، محمد أسامة عمار، محمد ذياب، ناصر الغزالي، وليد خليفة، هيثم مناع، محمود حلاق، فراس قصاص، عائشة أرناؤوط، سعيد لحدو، حسان الأسود،أيمن الأسود