ديسمبر 06, 2024

المقاومة بعد 1701

1701 إن كان، كما يقول المثل الشعبي العراقي، “عفا دين حزب الله”، فلأنه أظهر الهوة الكبيرة بين السلطات الاستبدادية العربية ومجتمعاتها، والهوة الأكبر مع جيل من المثقفين الذين صاروا مثقفي صالونات في حقبة دخل فيها المرض والأمية والجوع القرى ومدن الصفيح في بلدان الجنوب التي تحولت ثروتها لمادة استبداد داخلي واستعباد خارجي. في قاموسنا كحركة حقوق إنسان كنا نتحدث عن قضاء تعليمات ونقصد بذلك محاكم أمن السلطان التي تأخذ قرارها منه بحق كل من يعارضه. اليوم يمكننا الحديث عن ملوك ورؤساء التعليمات الذين ينتظرون كلمة السر ليس من البيت الأبيض، فهذا امتياز لا يتمتعون به دائما، وإنما من كوندي أو رامسفلد. السؤال الضروري: كيف يمكن أن يتحول الموقف المتقدم لأنصار الحرية في العالم في دعم المقاومة والشعبين اللبناني الفلسطيني إلى إنضاج حالة وعي أممية جديدة، كيف يمكن إعادة الفرز بين البربرية والعدالة في تصنيف جديد يجمع العلماني والإسلامي، الكردي والفارسي والتركي والعربي مع قوى التغيير في أمريكا اللاتينية. الإدارة الأمريكية في تحديدها لمراتبية الحلفاء وضعت إسرائيل في قمة الهرم وصغار الليبراليين الجدد في البلوعة. على كل من يرفض التصنيف المذل للذات أن يكون في صف التغيير بالمعنى المحلي والإقليمي والدولي.  ويتطلب هذا من الأطراف الموجودة في فوهة المدفع إعادة النظر في خطاب تحالفاتها. يجب أن تتحول المقاومة الفلسطينية بتكويناتها المختلفة والمقاومة اللبنانية إلى قوة جذب ليس للجمهور الطبيعي لهما، بل لكل أنصار الحرية داخل وخارج منطقتنا وهذه مهمة صعبة، ولكن لا يمكن لأية مقاومة أن تتحول إلى قوة تاريخية بكل معنى الكلمة عبر الصمود البطولي وحده، بل أيضا عبر تحولها لقوة استقطاب لكل المناهضين لعمليات تدنيس الوعي وتجاوزها  لحدود القوم والمعتقد والمذهب.

المقاومة قدرة ذاتية على الفعل ورفض لغياب الدور ومشاركة في الحياة العامة وشؤون الخليقة. المقاومة لا تتوقف مع إطلاق النار ويخوض بها الحقوقي بتوثيق جرائم الحرب الصهيونية من أجل محاكمة الجناة والباحث في تقييمه لنقاط القوة والضعف في مواجهة البربرية الإسرائيلية.  وهناك مهمة إعادة البناء. هذه المهمة اليوم في قدسيتها كالواجب الديني. لا بد من التضامن الواسع مع الشعب الذي نصبته الأحداث قربانا للأمة ومثالا للتضحية. من الضروري التبرع بالمال والخبرات واستنفار المنظمات الإنسانية القادرة على الفعل والمساعدة العاجلة..  

كيف يمكن أن ينتظر المرء من دكتاتورية مجلس الأمن قرارا ديمقراطيا وعادلا ؟ هكذا مجلس ينجب هكذا قرارات، ولا حاجة للوقوف طويلا عند فارق النتيجة قبل وبعد الوفد العربي، فهذه النتيجة لم يصنعها التدخل العربي الرسمي بقدر ما فرضها الوضع الميداني، كما أن هناك نقاط غائبة عن القرار الدولي لأن الإدارة الأمريكية ترفض إعطاء أي وسام لحزب الله، الذي سماه العصابي بولتون بالعصابة الإرهابية معتبرا القضاء عليه شرطا لوقف القتال. هل من الضروري التذكير بسؤال وزير الخارجية القطرية المشروع: “هل تريدون قرارا غير قابل للتطبيق ولا يحترمه أحد”.

القرار 1701 أمريكي فرنسي معدل بضرورات تسمح بقبوله خارج حدود إسرائيل. ولكنه قرار جد ردئ ويمكن القول أن نقاط القوة فيه عندما يكون غامضا لأنه في النقاط الواضحة قرار يعطي إسرائيل في نيويورك ما عجزت عن تحقيقه في مارون الراس. إسرائيل خاضت الحرب ببرنامج واضح أسماه أولمرت إعادة لبنان عشرين سنة إلى الوراء. لذا حطمت البنية التحتية للبنان وليس البنية التحتية لحزب الله، قتلت المدنيين أولا، عادت بأخلاق الحروب إلى ما قبل حلف الفضول.. لا عهد ولا قانون كل مدني لبناني هدف لأنه لم يعلن الثورة على حزب الله، كل من يركب سيارة محملة بالخضار هدف عسكري، كل من يسعف بناية مدنية محطمة هدف، كل من يشارك في جنازة يمكن أن يدخل في النعش القادم.. نحن أمام حالة همجية فوق المحاسبة تحتقر القانون الإنساني الدولي وهيئة الأمم المتحدة وتنال حماية مطلقة من الإدارة الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. لا شك بأن الإدارة الأمريكية الغارقة في المستنقع العراقي تبحث عن أية نقاط ارتكاز تعيد لها الإعتبار. المشكلة أن ما يسمى الحرب على الإرهاب والعدوان الأمريكي الإسرائيلي قد أعلنا احتضار الشرعية الدولية في المفهوم الذي ولدت معه بعد الحرب العالمية الثانية. الآن من يحترم قرارات الأمم المتحدة؟ لا بد من تعبئة الفراغ الناجم عن هذا الاحتضار بتعزيز مقومات العدالة الدولية. ولا يجب أن يغيب عن البال أن هناك قبل وبعد الحرب السادسة، لن تكون الأمور كما كانت، لقد زجت الحرب بمئات آلاف الشبيبة إلى الفعل السياسي والتفكير بضرورة الدور السياسي، وهذا إنجاز هائل سيعطي الحياة السياسية دما جديدا إن لم نقل سيكون في صميم عملية غسيل دم أصبحت أكثر من ضرورية.

لم يعد في عالمنا من معنى لحروب وطنية على مقاس الدول وحدودها. هناك تداخل في الاستقلال إذا صح التعبير interdépendance يحول دون قيام دولة بالحرب لوحدها ولمصالحها الخاصة. وأقول لكل العرب والمسلمين: ألا تستغربون معي أن هناك من يقول: الإدارة الأمريكية تطالب إسرائيل باستمرار الحرب متناسيا أن أحد أسباب الترف الاقتصادي الإسرائيلي والتفوق العسكري هو أن إسرائيل ليست فقط مشروعا صهيونيا وإنما أيضا دولة وظيفية، وبهذا المعنى فهي تحاول تعزيز دورها هذا عبر دخولها طرفا رئيسا في حقبة ما بعد احتلال العراق. ما حدث باختصار هو عدوان ثنائي أداته العسكرية إسرائيلية بسلاح وغطاء سياسي أمريكي.

خاض حزب الله هذه الحرب كحزب حديث بكل معاني الكلمة، وبشكل أدق، في التركيب والوظيفة. بل أكثر من ذلك أقول إذا كتب أنطونيو غرامشي “الأمير الحديث” فنحن بحاجة إلى غرامشي عربي يكتب “الحسين الحديث” لدراسة تجربة حزب الله بعين علمانية ديمقراطية موضوعية. خارج الأحكام المسبقة والكليشيهات الجاهزة. طبعا هذا الكلام لا يناسب أنصار “معسكر الخير”. لكن كنت أتمنى أن أسمع كلمة “العدالة” على لسان هؤلاء منذ سمعت بمعسكر الخير هذا. لذا أستعيد الآية القرآنية “لقد خاب من حمل ظلما” وأطمح لتقييم لا يظلم الحزب الذي لم يقتل يوما في حرب أهلية ولم يعتد إلا على من اعتدى وطبق قاعدة العين بالعين في ضرب المدن. بكلمة الحزب الذي احترم القواعد الإسلامية التي يعلن عنها والقواعد الدولية للقانون الإنساني التي يقبل بها. إذا كنا نريد من هذا الحزب ألا يتسلح ممن يعطيه السلاح ويأتي إلى مطار بورجيه الفرنسي لعقد صفقة طائرات فرنسية مقاتلة سنكون من السذج. هناك بالتأكيد تحالفات إقليمية لحزب الله لا تحول دون صورته عن نفسه وطموحه الخاص لدور إقليمي متميز، يعزز ذلك ضعف القيادات الشيعية العربية في العراق. وقد نجح الحزب كقوة استقطاب فوق مذهبية الأمر الذي لم ينجح به أي فصيل سياسي ديني في العراق.

حرب معسكر الخير على حزب الله لم تنته، وهي غير مرشحة لأن تنتهي اليوم، لأن هذا الحزب قد تجاوز المعطيات التقليدية لاستمرار حركة سياسية في المنطقة. فهو لم يعد مجرد تمثيل سياسي مؤقت لفترة انتخابية. لقد غيّر في بنية التفكير ونهج التغيير وأسلوب النضال، أي أنه دخل بجدارة في مشروع مستقبلي يجمع بين النهضة والكرامة.

——————————-

 تاريخ 13/08/2006