من الأرشيف
إثر عودة بعثة تحقيق للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان في نهاية 1994 من كردستان، استعمل أعضاء البعثة في تقريرهم تعبير جنوبي شرق تركيا للحديث عن كردستان تركيا. وقد وقف هيثم مناع وكان وقتئذ نائبا لرئيس الفدرالية في وجه هذا التعبير خاصة وأن موضوع لجنة التحقيق كان حول الأوضاع الكردية تحديدا. وعندما أصر محررو التقرير على رفض استعمال تعبير “كردستان تركيا (رغم أن أدبيات الفدرالية استعملته أكثر من مرة)، طلب مناع حق الرد وأن يكون نشر التقرير مع التنويه بأنه يمثل وجهة نظر لجنة التحقيق وحسب. ثم قرر المكتب الدولي للفدرالية حلا وسطا ينشر التقرير فيه ضمن تقارير الفدرالية مع حق مناع بنشر ملاحظات أساسية حول القضية الكردية في النشرة الناطقة باسم الفدرالية الدولية دون التعرض بالتحديد للإشكالية التي وقعت. وفيما يلي بعد تسعة عشر عاما على هذه الواقعة النص الذي نشرته رسالة الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان دون أي تعديل أو تحديث.
تأملات في القضية الكرديــة / الدكتور هيثم مناع
نائب رئيس الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان
يسود الحديث عند تناول القضية الكردية مقاربتين:
الأولى : “شرقية”، وتمثل وجهة نظر الأنظمة السياسية المعنية مباشرة بالمسألة الكردية وهي: تركيا، العراق، إيران وسورية. في هذه الدول، ومهما كانت درجة الاعتراف بالحقوق الثقافية والسياسية لهذا الشعب، تبقى القضية الكردية تعتبر “قنبلة موقوتة في خدمة الدول الكبرى أو الدول المجاورة” ومن هذه القناعة، فإن كل دولة تتغنى بطرح القضية الكردية عند الآخرين ولا تقصر في قمع الأكراد في عقر دارها.
أما المقاربة الثانية: فـ “غربية”، وهي ترى هذه القضية من منظار مصالح حلف شمال الأطلسي. ولذا تجعل اليوم مثلا من سيادة وسلامة الأراضي التركية موضوع تقديس وتابو كون الأمر يتعلق بالحدود الشرقية لهذا الحلف. ويتابع هذا الخطاب منطقه الخاص بنقل الاحساس بالذنب تجاه الشعب الكردي نحو الأنظمة المحلية وفقا للتحالفات اللحظية ومراكز المصلحة، فيما يجعل القضية تنحسر في إطار الاحتواء الذي تغطيه المهمات “الإنسانية” أكثر منه قضية عادلة تستحق الدفاع عنها.
وبين هاتين المقاربتين، ثمة رأي ثالث يحاول أن يسمع صوته، وهو وجهة نظر مناضلي حقوق الإنسان المعنيين بالمنطقة وشعوبها وفيما يلي الآراء الأساسية لهذا الصوت:
بدأت المأساة الكردية فعليا مع توقيع اتفاقية لوزان في 24 تموز (يوليو) 1923 من قبل الإمبراطورية البريطانية، فرنسا، ايطاليا، اليابان، اليونان، رومانيا، دولة الصرب والكروات والسلوفان، من جهة تركيا من جهة ثانية. وقد شكلت هذه المعاهدة وثيقة تقسيم كردستان وإلحاقها بأربع دول. ومن الجدير بالذكر غياب الأكراد والعرب والأرمن عن اجتماع واتفاق لوزان.
في الوقت الذي نوقش فيه تقرير عن الأكراد من قبل جمعية الأمم في ايلول (سبتمبر) 1925 في جنيف، قام الجيش التركي باغراق انتفاضة بيران من أجل استقلال كردستان تركيا بالدم (منع الأجانب إثرها من دخول المنطقة لأربعين عاما). كذلك قام الجيش البريطاني بالقضاء على الانتفاضة الثانية التي قادها محمود بيريزنجي لاستقلال كردستان العراق في نفس الفترة.
في 1932، ومع إعلان قبول العراق عضوا في جمعية الأمم، قام الجيش البريطاني بـ “إعادة النظام” إلى منطقة كردستان؟
في 8 تموز (يوليو) 1937، وقعت تركيا وإيران والعراق معاهدة سعد آباد، أول وثيقة إقليمية حكومية مشتركة لمناهضة الأكراد تنص على التعاون ضد كل ما يستهدف امكانية تغيير المؤسسات أو الحدود القائمة وكل نضال، مسلح أو غير مسلح، يعمل لهذه الغاية.
في 1945 قامت القوات الجوية البريطانية بقصف كردستان العراق لإجبار الزعيم الكردي مصطفى البرزاني على سحب قواته إلى كردستان الإيرانية.
في كردستان إيران، تم الإعلان في 22 كانون الثاني (يناير) 1946 عن جمهورية مهاباد الكردية في حفل شعبي كبير. وقد انتخب قاضي محمد بالإجماع رئيسا لأول جمهورية كردية في التاريخ. الا أن الفرحة لم تكتمل، و تمكنت القوات الإيرانية من احتلال كردستان والقضاء على الجمهورية الوليدة واعدام قادتها بعد 11 شهرا من ولادتها. و بذلك تم القضاء في المهد على تجربة تميزت بالتسامح ما بين القومي والخيار الديمقراطي.
في 23 شباط (فبراير) 1955، أقامت حكومات تركيا وإيران والعراق وباكستان حلف بغداد الذي انضمت اليه بريطانيا في 4 نيسان (ابريل) . مرة أخرى استهدَفَ التنسيق ما بين الحكومي طموحات الشعب الكردي وشعوب المنطقة.
منذ 1922 إلى 1958، كانت انجلترا تقوم مباشرة بقمع كل انتفاضة كردية في العراق، بلد المصالح البترولية المتميزة للمملكة المتحدة. وليس من قبيل الصدفة أن أول اعتراف دستوري بالشعب الكردي جاء بعد قيام الجمهورية في 14 تموز (يوليو) 1958 اثر حركة الضباط الوطنيين. حيث جاء في المادة الثالثة من الدستور المؤقت الصادر في 27/07/1958 ان المجتمع العراقي يقوم على التعاون الكامل بين جميع المواطنين وعلى احترام حقوقهم وحرياتهم، ويتشارك العرب والأكراد في تكوين العراق ويضمن الدستور الحقوق القومية في إطار الكيان العراقي.
وقد أدى الخلاف بين الرئيس عبد الكريم قاسم والسيد مصطفى البرزاني إلى إعلان أطول انتفاضة في التاريخ الكردي المعاصر في كردستان العراق. وقد غذى غياب الاستقرار السياسي عن العاصمة بغداد مواقف المزايدة الشوفينية المناهضة للأكراد باسم الوحدة الوطنية ووحدة التراب العراقي الخ. وذلك حتى اتفاق 11 آذار (مارس)، الذي و بالرغم من نقاط ضعفه، اعترف بحقوق ثقافية وسياسية للشعب الكردي. وبالرغم من الصراع مع حكومة بغداد، فقد تم الاحتفاظ بعدة مكاسب حتى ولادة الحكومة الفدرالية من جانب واحد على ثلثي أراضي كردستان العراق في 1992.
وكما يمكن لأي متتبع أن يلاحظ، فقد دفع الشعب الكردي في الماضي الثمن غاليا لخمسة عاهات أساسية:
1 – الثراء النفطي لكردستان الذي دفع، دون شك، القوة الاستعمارية الأولى في المنطقة (انجلترا) لأن تخوض مباشرة حربها ضد الأكراد.
2 – الخيارات الإستراتيجية لحكومة أنقره و انتمائها لحلف شمال الأطلسي (15 من 25 مليون كردي في العالم في أقل الإحصاءات تقديرا يعيشون في كردستان تركيا ومع ذلك نجد منظمات حقوق إنسان تستعمل تعبير جنوب شرق تركيا وتعتبر مصطلح كردستان تركيا محرما!).
3 – الدعم الغربي غير المشروط لشاه إيران.
4 – الصراعات الإقليمية التي دفع الشعب الكردي غالبا ثمنها (دعم سورية لحزب العمال الكردستاني في تركيا في وقت تقمع السلطات السورية فيه مليون ونصف كردي على أراضيها، دعم العراق لأكراد إيران، إيران التي لعبت بطاقة البرزاني لتحصل على تنازلات حدودية مع العراق وهكذا).
5 – التكوين المجتمعي الكردي ، فباستثناء تجربة مهاباد والحركة الثقافية الكردية في تركيا، كان النضال يعطي الأولوية للريف على المدينة مع الأمراض القاتلة لعاهة المجتمع الكردي التقليدي: القبيلة. يقول كندال مدير المعهد الكردي في باريس بهذا الصدد:
” تبدو لنا القبيلة باعتبارها العائق الأساسي لولادة الوعي القومي، وحتى سلطان الدين الطاغي على الشعب الكردي لا يشكل سوى الزخرف. وهذه الظاهرة مسؤولة برأينا الى حد كبير عن فشل معظم الانتفاضات والعصيانات التي ناضلت لبناء دولة كردية مستقلة و موحدة، والتي اندلعت في كردستان منذ بداية القرن التاسع عشر وكانت تنتهي بسبب الخيانات، في قلب التحالفات، انقسامات الجبهة الكردية والإيديولوجية القبلية.” (عن: الأكراد وكردستان، تحت إشراف جيرار شاليان، بالفرنسية، ماسبيرو، 1978، ص 40) إن الصراع ما بين الكردي في مناطق الحكم الذاتي اليوم يعطي أفضل مثال على هذا.
ثمة واجهات استعراضية تحاول أن تعمي بصيرة المراقب المحايد كلما طرحت قضية الأكراد في الشرق الأوسط: إيران التي تقدم المساعدة لضيوفها اللاجئين الأكراد ضحايا الحكومات العراقية والتركية وتعلن عن تضامنها مع الشعب الكردي المسلم. الحكومة العراقية التي تضم الى وفودها الرسمية أكرادا كلما تطلبت الضرورة ذلك. حكومة أنقره التي تفتح الباب للمراقبين الحقوقيين في المحاكمات المناهضة للأكراد. الحكومة السورية التي تقدم مفتي الجمهورية كمثل للإندماج الناجح للأكراد في المجتمع السوري. حكومة كردستان العراق التي تنظم زيارات تحت رقابتها تعرض فيها وجهة نظرها الخاصة.
ماذا يريدون أن يخبئوا وراء هذه الواجهة؟
واقع أن كلمة حكم ذاتي لكردستان في إيران تعني فتوى تكفير ؟ أن السلطات السورية تمنع حتى اليوم الأسماء الكردية والمدارس الكردية ؟ أن تركيا ترفض حقوق الشعب الكردي السياسية والثقافية والمدنية. وأن العراق، الذي اعترف ببعض الحقوق لم تتورع حكومته عن ارتكاب مجازر جماعية عدة في حلبجة وأنفال مع سياسة تهجير واسعة للسكان الأكراد…
ولا يمكن للوضع الخطير في كردستان العراق إلا أن يزيد الأمور سوءا. فقد قتل مئات الأكراد المدنيين في الصراع بين الميليشيات وسياسة الهيمنة التي تتبعها منذ 6 أشهر.
ان التصريحات المختلفة للسيد طالباني التي تخفف من وجود مشكلة كردية في أقسام كردستان الأخرى تأتي لتعطي الدليل على الطبيعة الانتقالية للمرحلة الراهنة: بين زعامة مضى عهدها وقيادات شابة قيد التكوين. لم تعد القضية الكردية في 1923 أو في 1945. فالوعي السياسي والثقافي الكردي يشق طريقه عبر رموز مستقبلية. إن مثل ليلى زانا وليس أنموذج الآغا هو الذي يمثل القضية الكردية يوما بعد يوم، الأمر الذي تعززه عدة عوامل أهمها: التكوين الواسع للمثقفين الأكراد خارج الأطر التقليدية، وجود جالية كبيرة في المهجر تمثل كردستان وتقدم صوتها الثقافي ودعمها المادي، والمكان المتنامي لأبناء المدن في الحركة السياسية والجمعيات الكردية المدنية والثقافية والحقوقية.
يعرب البعض عن تشاؤمه من إمكانية نيل الأكراد لحقوقهم. أما بالنسبة للمناضل من أجل حقوق الإنسان فإن المادة الأولى من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لا يمكن أن تستثني الشعب الكردي:
” لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.”.
اننا نقترب من لحظة يصبح فيها الأمر القائم الحالي مصيبة للأكراد وكافة شعوب المنطقة. و إذا كانت مهمة نشطاء حقوق الإنسان تكمن أيضا في الوقاية، فإن من واجبنا تشجيع كل صيغ التفكير الخلاق من أجل حلول مستقبلية للتعاون بين شعوب ومواطني المنطقة سواء في إطار فدرالي أو غيره، بشكل تحترم فيه حقوق الشعب الكردي.
من الضروري اليوم قبل الغد، التخلي عن سياسة القمع والهيمنة التي تتبعها حكومات المنطقة تجاه الشعب الكردي والأقليات من أجل آفاق اعتراف متبادل بين شعوب المنطقة في إطار احترام حقوق الإنسان والشعوب قبل سيادة الحدود التي تشكل ميراثا استعماريا تعسفيا.
علينا ان نتعلم شعوبا وحكومات، من درس تفكك الاتحاد السوفييتي و يوغسلافيا من أجل إعادة النظر في المستقبل وتقبل فكرة شعب كردي صاحب سيادة . هذا هو التحدي الموجه إلى كافة الديمقراطيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في المنطقة قبل أن ترسم القوى المناهضة للديمقراطية مستقبلنا بشكل آخر، وفي حمام جديد من الدم.
نشرت هذه التأملات في العدد 13 من الطبعة العربية لرسالة الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، نيسان/أبريل- أيار/مايو 1995. ونشرت قبل ذلك بالفرنسية في النسخة الفرنسية
La lettre de la FIDH.