أبريل 20, 2024

رمضان الدكتاتورية الأخير!

dictaitershipمن الصعب إجراء استفتاء للرأي في بلد مثل سورية، ولكن من السهل القول أن أقل من عشرة بالمائة من السوريين كانوا يتابعون التصويت على مشروع قرار غربي حول سورية في مجلس الأمن. في حين كانت أنظار المجتمع الأكثر ارتباطا بحركة التغيير موجهة نحو دمشق وحلب، في حين لم تسمح أوضاع المجتمع الواسع المعاشية والإنسانية حتى بتتبع وسائل الإعلام.
قال لي مناضل في محافظة درعا على هاتفه الفضائي: ‘لقد شهدتُ في الأسابيع الماضية حالات بتر لأطراف اليد والقدم أكثر من خمس عشرة مرة بسبب غياب جراحين مختصين وأماكن تليق بكلمة جراحة. ينقصنا الأطباء وينقصنا الدواء وينقصنا الغذاء. القصف العشوائي حولنا إلى كائنات برسم الموت. أنا كمقاتل اخترت بنفسي ذلك، ولكن عدد المقاتلين نسبة لمجموع الضحايا هو الأقل.. ليس لأنهم جبناء، ولكن لأن القصف أعمى ويهدف أكثر لإرهاب الناس منه لمواجهة المسلحين.
الإنسان هو أرخص ما في سورية اليوم، كل المواد الغذائية ومواد الطاقة كالغاز والمازوت نادرة بل غائبة تماما عن بعض المناطق، الناس تقطع الشجر وتجفف روث الحيوانات من أجل طهي الطعام، أصبحت أسعار الذخيرة خيالية، الدواء يزداد سعره، الإنسان هو السلعة الوحيدة الرخيصة الثمن. حاولت تمرير بعض الأخبار للفضائيات الخليجية لكن يبدو أن الأمر عندهم غير مهم. يريدون أخبارا على مقاس سياستهم الإعلامية، يبحثون عن مجزرة، نحن ككائنات بشرية لم تذبح بعد لم نعد نستحق ولو ريبورتاجا صغيرا عن أوضاعنا’.
لم تكن عملية دخول دمشق في الأسبوع الماضي مدروسة بالمعنى العسكري، هي عملية استباقية لما صار يعرف بالتصعيد الأمني العسكري من قبل السلطة لمواجهة التعبيرات النضالية الجماعية المرافقة لشعائر رمضان.
هذه التعبيرات التي وبرغم دخول الجيش حماه ودير الزور والبوكمال في العام الماضي، لعبت دورا أساسيا في تحول الحراك الأسبوعي إلى حراك يومي السنة الماضية. إلا أن مبنى الأمن القومي في الروضة، القديم والمتواضع والأقل حماية بين كل فروع الأمن، لم يلبث أن أصبح الخبر الأول لكل وسائل الإعلام. ولأول مرة منذ بداية ثورة الكرامة، الإعلام السوري الرسمي وتلفزيون المنار التابع لحزب الله هما من يحقق السبق الصحافي! إلا أن الأمر لم يتعد كلمة (عاجل). احدى محطات التلفزيون حاولت بث صور قديمة باعتبارها للعملية، تبين بعد دقائق أنها صور لتفجير وقع في حي اللطامنة في حماه قبل أسابيع. بعضها الآخر لم يحترم صورة الشهيد معن العودات الذي اغتالته أجهزة الأمن في 8 آب 2011 وأن تقول بأنها جثة وزير الدفاع بعد مقتله. باستثناء هاتين الواقعتين المزورتين، لا صور ولا مشاهد.
طبيب يسكن على بعد عشرات الأمتار من المبنى أخبرني بأنه لم يغادر منزله صباح 18 ولم يسمع أي صوت خاص يومها. من خارج المبنى كل المعالم طبيعية. قبل عامين وفي الشهر نفسه استدعاني اللواء هشام بختيار لهذا المبنى نفسه، وقد تأملت البناء مليا من الداخل والخارج.
مبنى يمكن أن يقال فيه مقر حزب أو مقر إدارة حكومية ولكن يصعب الحديث عن مبنى يضمن الحماية لمن يجتمع فيه. فهل كان هذا المبنى هو المكان التقليدي لاجتماع خلية الأزمة التي قادت واحدة من أشرس المعارك ضد الحراك الاجتماعي بل والمجتمع ؟؟
لا أدري إن كان لغز 18 تموز سيصبح موضوع تحقيق شفاف، ولا شك بأن عدد من سيدعي القيام بهذه العملية ‘النوعية’ سيتجاوز الخمسة أطراف. لكن تبقى القاعدة الصحيحة في الملفات الأمنية الكبيرة في سورية حتى اليوم، أن الذي يعرف لا يتكلم، والذي يتكلم لا يعرف. والاستنتاج الأساسي هو أن التماسك الظاهري لقمة السلطة لا يعني الكثير في أية تقديرات مستقبلية حول عمر النظام.
‘عين العرب’ وبلدات كردية عديدة شمال وشمال شرقي سورية تشرف على الأمن والإدارة بل والتموين فيها لجان شعبية تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي. منبج والعديد من قرى وبلدات شمالي حلب تسيطر عليها مجموعات محلية تسمي نفسها الجيش الحر دون أن تتواصل بالضرورة بقيادته في تركيا، وهناك جماعات عديدة تجمعها تسمية ‘القاعدة’ دخلت في الأيام العشرة الأخيرة من تركيا والعراق ولبنان كما كشفت عن ذلك مصادر إعلامية سعودية. تذرير السلطة بالمعنيين الإداري والعسكري يحدث بشكل متسارع، ولكن هل ثمة فاصل بين المواجهة مع الوحدات التي تتابع سياسة الحل الأمني كضرورة والمواجهة مع الدولة كمؤسسات ضرورية لتحجيم الفوضى واقتصاد العنف؟
لا شك بأن الساعات القادمة ستحدد السرعة التي ستتهاوى فيها مرتكزات النظام القديم، الأمر الذي سينعكس مباشرة على سيناريوهات المرحلة الانتقالية.
ولا يمكن القول أن الفضائيتين اللتين تقودان الحملة الإعلامية لإسقاط النظام (الجزيرة والعربية) تقومان بأي دور إيجابي على هذا الصعيد، فالمهم هو سقوط النظام، وبعدها، لكل حادث حديث.
لا شك بأن الأعين الخارجية التي بدأت منذ فترة تعد أبحاثا وخططا لما صار يسمى (اليوم الثاني) ستجد نفسها بعيدة جدا عن أرض الواقع. وحتى قرارات مؤتمر المعارضة السورية في القاهرة في مطلع هذا الشهر التي طالبت بدعم الجيش الحر والمقاومة المسلحة، ونسيت المطالبة بدعم المقاومة المدنية وتشكيل لجان شعبية وملتقيات مواطنة قادرة على الحد من فوضى العنف والجريمة المنظمة والمنظمات الجهادية الملوثة طائفيا ومذهبيا، هذه القرارات لن يقف في جبهة الدفاع عنها إلا جمع من الديمقراطيين يدافعون عن وثيقة عهد وطني لا يقر بها المتطرفون.
رغم كل هذه الهزات الأرضية في سورية، ما زالت السلطة الأمنية العسكرية تتابع نفس السياسة: ترك المناطق غير الاستراتيجية في حالة فوضى أمنية وتجويع اقتصادي، السيطرة على الطرق الرئيسية ومصادر الطاقة والسلاح النوعي ودفع المقاومة المسلحة نحو بلدات نائية يسهل قصفها بعيدا عن الإعلام والشهود.
هذه السياسة لم تعد قادرة على مواجهة الاستنفار العام لكل من يريد المواجهة العسكرية والحسم العسكري. ورغم غياب المركزية والتخطيط المشترك والتعاون بين الأطراف المقاتلة المناهضة للنظام، فمن الواضح أنها تسيطر أول بأول على مناطق عديدة وبالتالي تخلق حالة بلبلة وفوضى في القوات المسلحة ترافقت بانشقاقات لعدد كبير من الجنود وصغار الضباط، ولكن أيضا بانسحابات للجيش من عدة مناطق مع ما يترتب على ذلك من فوضى أمنية.
هل يمكن الحديث عن انتقال سياسي بأقل الخسائر في هذا الوضع المضطرب؟ لا شك بأن استنفار الأطراف الأكثر تشددا في الأيام الأخيرة سيترك للسلاح وحده، على الأقل في هذه الأيام الحق في التعبير، ولا شك أيضا في أن أنصار قيام سورية مصابة بمرض نقص المناعة الذاتية المكتسب كثيرون. أما باقي الأصوات، فلن يسمع صداها إلا عندما يصل أصحاب الحسم العسكري إلى الاقتناع بأن صيانة سورية من الحرب الأهلية والتمزق، تستلزم توافقا تاريخيا بين القطاعات التي تفكر بالإنسان والمجتمع والدولة في صفوف المعارضة المسلحة والمؤسسة العسكرية والطبقة السياسية الملتزمة بدولة ديمقراطية مدنية ذات سيادة.

القدس العربي 22-07-2012