أبريل 14, 2024

تيار قمح: من.. لماذا.. ومتى؟

wheatبدأت نقاشات عدد من المواطنين والمواطنات السوريين، حول ضرورة الربط بين المشروع المدني التنويري وقيم المواطنة والحقوق من جهة، والنضال اليومي بمختلف أشكاله من جهة أخرى، بعد تحطيم تمثال أبو العلاء المعري وقتل أسرى من الجنود السوريين من قبل «جبهة النصرة» وأخواتها.
كنت قد زرت لاهاي للحديث مع المدعي العام (للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو) أوكامبو في أيام ولايته الأخيرة بحضور من أصبحت نائبة عامة مكانه (فاتو بنسودا)، حيث تحدثنا في جرائم الحرب التي ارتكبتها السلطة الأمنية العسكرية بحق مدنيين.
قال لي أوكامبو يومها جملة مخيفة: «عندما تعطي السلطة أسوأ ما عندها، ثمة ردود فعل من المجتمع ستعطي أسوأ ما عند الناس، عندها يتشوه كل شيء، وستعود إلينا بعد فترة بملف مزدوج لجرائم هذا وذاك».
كتبت «مجموعة الأزمات الدولية» تقريرا في الاتجاه نفسه بعد أشهر. ولم يعد بوسع غرفة العمليات، التي أنشأتها الحكومات الست العاملة لإسقاط نظام (الرئيس) بشار الأسد السيطرة على أوضاع مختلة، شاركت فيها بدرجة أو بأخرى. وجاء اليوم الذي يكتب فيه أحد مهندسيها الأساسيين (روبرت فورد) عن ضرورة أن توقف المعارضة المسلحة الأعمال الوحشية ضد المجتمعات المدنية في مناطق سيطرة النظام، فيما وصل الخرف ببعض المعارضين إلى اعتبار كل مواطن روسي على الأراضي السورية هدفاً مشروعاً وأن يقول صناع «الائتلاف» في اجتماع مراكش «كل سلاح مقدس»، ردا على قرار الولايات المتحدة بتصنيف «جبهة النصرة» (فرع «القاعدة» في سوريا) تنظيماً إرهابياً.
كان موقفنا كمجموعة ترفض الانزلاق نحو العنف والمذهبية واستجداء التدخل الخارجي. وأن ما يجري سيذهب بنا إلى حرب مدمرة لا تبقي ولا تذر، فيما أصر البعض على أن «الشجاعة صبر ساعة»، وأن ما يجري ليس حرباً بل ثورة حتى النصر.
قبل أن يتحث روبرت فورد عن «النهاية الهادئة لحركة حزم المعارضة» بعامين، كتبت بأن ما يعرف بـ «الجيش الحر» سيهرب إلى تركيا أو معسكر الجيش السوري، أو سيصبح مملوكاً عند التكفيريين. فقد أتاحت لي تجربتي الحقوقية، في مناطق الصراع، مشاهدة ولادة «طالبان» وإنتاج المتطرفين في آزاد في كشمير ومتابعة الحرب اليوغوسلافية وأوضاع العراق بعد الاحتلال والحروب العبثية في أفريقيا.
لم أكن أتصور أن مشاهد القتل بالمنجل في رواندا، وقطع الأعضاء في سيراليون، يمكن أن تحدث شرقي المتوسط. ولكن في عالم غرائزي، من دون قيم وعقد وعهد، تصبح الآية القرآنية «النفس أمارة بالسوء» كلية الحضور، وتفقد النظرة التفاؤلية لإنسانية الإنسان الكثير من بريقها. إلا أن التاريخ يذكرنا بأن أوربة التنوير جاءت بعد محاكم التفتيش، وولدت الولايات المتحدة ومواثيقها المؤسسة بعد حرب أهلية قذرة، وإن كان بإمكان القوى التكفيرية والمستبدة أن تشوه جيل فليس بإمكانها قتل طموح الإنسان لمستقبل يشعر فيه بالانتماء لأحسن ما أنتج البشر بعيداً عن مستنقع الصفحات المظلمة.
كنا نتواصل ونحن في معمعات المقاومة المدنية، ونتبادل الرأي في عالم يغتال الرأي والسياسة والتفكير. ثوابت أساسية تجمعنا: التمدن في وجه التوحش، والعقلانية في وجه الظلامية، والإنسان في وجه المخدرات الغيبية، والمواطن كرد على تعبيرات الرعية والعبودية، والحقوق في وجه ما يسمى المكرمات، والدولة المدنية في وجه السلطة الأمنية، وسيادة التأمل والتفكير المستقل في وجه الارتزاق والتبعية السياسية.
لسنا حزباً سياسياً كما يظن بعض المهزوزين سياسياً، ولسنا طرفاً ينافس المعارضة نسبها التمثيلية واعترافاتها المهزلة. لا نبحث عن مكان في أزقة السياسة الصغيرة، ونرفض أن نصنف، وأن يصنف من معنا بالرغم عنه، في أي موقع أو تكوين. لقد فشلت الإيديولوجيات التقليدية في استيعاب الشبيبة، دافعة إياها إلى التطرف أو التهميش الذاتي أو الهجرة. وما أمسّ الحاجة إلى مشروع فكري ثقافي مدني، قادر على وقف النزيف المجتمعي في ظل حالة الخراب السائدة.
أكثر من مليوني طفل لن يتمكنوا من تجاوز الأمية التقليدية في عصر إلغاء الأمية الرقمية. من السهل أن نقول بأن نظام الأسد وراء كل هذه المصائب، أو اعتبار «المؤامرة على سوريا» التفسير الواقعي لخراب سوريا وفي هذه الثنائية البائسة نذكر بقول الفيلسوف المعري حين سؤل عن الخليفة عمر والإمام علي فأجاب:
فذا عمر يقول وذا علي كلا الرجلين في الدعوى غبي

لن نسقط في وحل العنف وعدمية التفسير المذهبي للتاريخ والوقائع. ولن نقبل انتداب ووصاية أحد. ونحن على ثقة بأن كرامة الإنسان أعلى..
الصغار يتحكمون بنا لأننا راكعون.. فلننهض.

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2015-03-23