أبريل 13, 2024

المحاسبة في العراق

IRAQلم أتفاجأ، وقد كنت في أولى بعثات التحقيق التي وصلت بغداد بعد الاحتلال، وأعددت أكثر من تقرير عن الفلسطينيين في العراق والتعذيب في السجون، بوثائق موقع ويكيليكس.

وكانت اللجنة العربية لحقوق الإنسان مع 31 من المنظمات الحقوقية قد تبنت ووزعت بعدة لغات عالمية دراسة الباحثين جيمس بول وسيلين ناهوري (الحرب والاحتلال في العراق)، وفيها توثيق متميز لكل ما يتعلق بتدمير التراث الثقافي واستعمال الأسلحة العشوائية والشديدة الإيذاء والاعتقال التعسفي والخطف وسوء معاملة السجناء والتعذيب المنهجي والهجوم على المدن وقتل المدنيين والأعمال الوحشية والنزوح وأخيرا وليس آخرا منظومة الفساد والاحتيال والأعمال غير المشروعة.

هذا العمل المتميز الذي صدر في 2007 عن مركز دراسات الوحدة العربية واللجنة العربية لحقوق الإنسان في كتاب مشترك. لم أتفاجأ بالوثائق التي شكلت لكل ملاحقٍ لمجرمي الحرب هدية لا تقدر بثمن. ففي عام 2006 رد علينا المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية طالبا المزيد من التوثيق والوقائع، ومنذ ذلك الحين، ثمة عمل على التوثيق لم يكتمل بعد لصعوبة العمل الميداني في العراق وعدم وجود خبرة جيدة لدى الحقوقيين العراقيين.

اليوم، وبعد كل ما تم تجميعه، يضاف إليه صهريج المعلومات الموثقة الجديدة، لم تعد كلمات كالاحتلال والحرب الأهلية تكفي للتعبير عن المشهد العراقي، لقد نقلت قوات الاحتلال والأجهزة البوليسية العسكرية التي أنجبتها ما يمكن تسميته حالة التوحش. التوحش في القتل والنهب واستلاب حقوق الناس.

حق الحياة لم يعد له أدنى معنى، أما الحريات الصحفية فماذا تفعل به صحيفة تطبع خمسمائة نسخة في إصدارين في الأسبوع. حرية الصحافة هي ابنة التهديد اليومي بقتل أصحاب القلم والكفاءات الذهنية والعلمية والخبراء. لقد نجحت قوات الاحتلال والمليشيات والجماعات الإرهابية على اختلافها في تحويل البلاد إلى حقل تجارب لتعدد أشكال الموت والدمار.

إثر 11 سبتمبر/أيلول 2001، أعلنت الإدارة الأميركية حالة الحرب على الإرهاب، حرب غير محددة الحدود والهدف والجماعات وحجم التدمير والأمد مع كل ما يترتب على ذلك من تحطيم لبنى القانون الدولي والعلاقات بين الدول والشعوب والمواثيق الخاصة بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.

وإن كانت الإدارة الأميركية قد نجحت في الحصول على ما يمكن تسميته “تشريع العدوان بالدفاع عن النفس” في حربها على أفغانستان، فلم يكن ممكنا تكرار السيناريو في العراق، خاصة وقد نزل الملايين إلى الشارع في كل أنحاء المعمورة ضد الحرب. إلا أن الإدارة الأميركية كونت خارج نطاق الأمم المتحدة تحالفا دوليا لاحتلال العراق بدعوى تحطيم أسلحة الدمار الشامل التي ادعت وجودها على أراضيه. وتحركت منذ ذلك التاريخ في خروج واضح عن الشرعية الدولية، ثم شرعنت هذا الخروج بفرض الأمر الواقع على المؤسسة الأممية والمجتمع الدولي.

يمكن القول إن مباشرة العدوان على العراق في 2003 دون موافقة مجلس الأمن وبانتهاك واضح لميثاق الأمم المتحدة لاحتلال أراضي بلد عضو كانت جريمة عدوان وفق قرارات سابقة للمنظمة الدولية التي اعتبرت عملا مشابها جريمة عدوان يستوجب تطبيق الفصل السابع بحق المعتدي (احتلال الكويت).

ولو أن الأمم المتحدة لم تقم بواجبها في كوسوفو كما يجب، تاركة لحلف الناتو تقرير مصير الإقليم، إلا أن العدوان على العراق لم يتوقف مع احتلاله وتحطيم ما تبقى من بناه التحتية خاصة منها ما يتعلق بالاتصالات والماء والكهرباء والنقل.

بل تبع ذلك تفكيك مؤسسات الدولة العراقية وخلق حالة فوضى في محاولة لجعل الشعب العراقي يرضخ للاحتلال باعتباره عنصر الاستقرار الوحيد. إلا أن هذا الشعب لم يرضخ لقدر الاحتلال وباشر عدة أشكال للمقاومة السلمية والمسلحة، وخلقت حالة الفوضى أيضا عصابات الجريمة المنظمة للسرقة والنهب والخطف، كذلك مشاركة أطراف ملوثة بالطائفية والمذهبية والتطرف الديني في بلد متعدد المعتقدات والقوميات.

ولم تنجح الأطراف العراقية المتواطئة في بناء جيش لكل العراقيين وساهمت مع قوات الاحتلال في تكوين مليشيات مسلحة أدخلتها بشكل هيكلي في أجهزة الأمن الجديدة التي تحولت إلى مرتع لفرق الموت وحولت العراق في غياب السيادة الوطنية لفضاء يشعر كل تنظيم مسلح -مهما كانت أطروحاته- بإمكانية العمل فيه.

من وجهة النظر الحقوقية والواقعية، جريمة العدوان هي التي زرعت الأرضية الصالحة لمختلف أشكال العنف التي يعيشها العراق وقوات الاحتلال هي المسؤول القانوني عن سلامة السكان المدنيين في مناطق الاحتلال. أما المجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال بحق السكان المدنيين في مختلف مدن العراق دون محاسبة أو حتى مراجعة من قبل قوات محتلة كذلك خلق وضع الموت فيه جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية والمليشيات فيه قضية عادية وترحيل عشرات الآلاف من السكان من عاديات الأمور.

وفق المعلومات الموثقة لمنظمات حقوق الإنسان، والتي عززتها الوثائق المنشورة مؤخرا على موقع ويكيليكس، نحن أمام جرائم حرب يعاقب عليها القانون والعرف الدوليين. هذه الجرائم تشمل بشكل أساسي:

القسم الأول:
الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 أغسطس/آب 1949، أي فعل من الأفعال التالية ضد الأشخاص أو الممتلكات الذين تحميهم أحكام اتفاقية جنيف ذات الصلة:

1- القتل العمد، (يوجد أمثلة وشهادات).

2- التعذيب أو المعاملة اللا إنسانية (يوجد أمثلة وشهادات)، بما في ذلك إجراء تجارب بيولوجية.

3- تعمد إحداث معاناة شديدة أو إلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة، (يوجد أمثلة وشهادات).

4- إلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها دون أن تكون هناك ضرورة عسكرية تبرر ذلك وبالمخالفة للقانون وبطريقة عابثة، (يوجد أمثلة وشهادات).

5- إرغام أي أسير حرب أو أي شخص آخر مشمول بالحماية على الخدمة في صفوف قوات دولة معادية.

6- تعمد حرمان أي أسير حرب أو أي شخص مشمول بالحماية من حقه في أن يحاكم محاكمة عادلة ونظامية، (يوجد أمثلة وشهادات).

7- الإبعاد أو النقل غير المشروعين أو الحبس غير المشروع، (يوجد أمثلة وشهادات).

8- أخذ رهائن، (يوجد أمثلة وشهادات).

القسم الثاني:
الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة، في النطاق الثابت للقانون الدولي، ووجود أدلة على وقوع الأفعال التالية:

1- تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين بصفتهم هذه أو ضد أفراد مدنيين لا يشاركون في الأعمال الحربية.

2- تعمد توجيه هجمات ضد مواقع مدنية، أي المواقع التي لا تشكل أهدافاً عسكرية.

3- تعمد شن هجمات ضد موظفين مستخدمين أو منشآت أو مواد أو وحدات أو مركبات مستخدمة في مهمة من مهام المساعدة الإنسانية أو حفظ السلام عملاً بميثاق الأمم المتحدة ما داموا يستحقون الحماية التي توفر للمدنيين أو للمواقع المدنية بموجب قانون المنازعات المسلحة.

4- تعمد شن هجوم مع العلم بأن هذا الهجوم سيسفر عن خسائر تبعية في الأرواح أو عن إصابات بين المدنيين أو عن إلحاق أضرار مدنية أو عن إحداث ضرر واسع النطاق وطويل الأجل وشديد للبيئة الطبيعية يكون إفراطه واضحاً بالقياس إلى مجمل المكاسب العسكرية المتوقعة الملموسة المباشرة.

5- مهاجمة أو قصف المدن أو القرى أو المساكن أو المباني العزلاء التي لا تكون أهدافاً عسكرية، بأية وسيلة كانت.

6- قتل أو جرح مقاتل استسلم مختاراً، يكون قد ألقى سلاحه أو لم تعد لديه وسيلة للدفاع.

7- تعمد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية العلمية أو الخيرية والآثار التاريخية، والمستشفيات وأماكن تجمع المرضى والجرحى شريطة ألا تكون أهدافاً عسكرية.

8- قتل أفراد منتمين إلى دولة معادية أو جيش معاد أو إصابتهم غدراً.

9- إعلان أن حقوق ودعاوى رعايا الطرف المعادي ملغاة أو معلقة أو لن تكون مقبولة في أية محكمة.

10- المشاركة في نهب أي بلدة أو مكان حتى وإن تم الاستيلاء عليه عنوة.

11- استخدام أسلحة أو قذائف أو مواد أو أساليب حربية تسبب بطبيعتها أضرارا زائدة أو آلاماً لا لزوم لها أو أن تكون عشوائية بطبيعتها بالمخالفة للقانون الدولي للمنازعات المسلحة، بشرط أن تكون هذه الأسلحة والقذائف والمواد والأساليب الحربية موضع حظر شامل وأن تدرج في مرفق لهذا النظام الأساسي، عن طريق تعديل يتفق والأحكام ذات الصلة الواردة في المادتين 121 و123.

12-الاعتداء على كرامة الشخص، وبخاصة المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة.

13- الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري على النحو المعرف في الفقرة 2 (و) من المادة 7، أو التعقيم القسري، أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي يشكل أيضا انتهاكاً خطيراً لاتفاقيات جنيف.

هذه الحالات يمكن ملاحقتها قانونيا وفق الاختصاص الجنائي العالمي أمام محاكم أوروبية وبالنسبة لجريمة التعذيب يشمل ذلك المحاكم الأميركية كذلك التحرك أمام القضاء البريطاني ومن جديد أمام المحكمة الجنائية الدولية لأن مجمل الأطراف المذكورة صدقت على اتفاقية مناهضة التعذيب ولأن المدعي العام للمحكمة الجنائية لم يرفض الاختصاص في رده علينا بل طالب بتوثيق وتعزيز الأدلة والبراهين.

ووفق ما هو موثق الآن من المفضوح من وثائق أميركية، يمكن إقامة دعاوى قضائية بحق أسماء معروفة متورطة على سبيل المثل لا الحصر رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري ووزير داخليته بيان جبر صولاغ ورئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي ووزيرا الداخلية والدفاع، لمنهجة ممارسة التعذيب من قبل الحكومة ومؤسساتها كذلك ملاحقة كل من يثبت تورطه أو مشاركته أو تشجيعه لجريمة التعذيب والقتل خارج القضاء من قيادات وعناصر المليشيات والقيادة السياسية الحالية بدءا بنوري المالكي أمام المحاكم الأوروبية.

لا يعني تأسيس هيئة قانونية تجرّم انتهاكات معينة لقوانين الحرب أن مجرمي الحرب سيحاكمون بالفعل. فهذا الأمر يظل أمراً على الدولة وأيضاً الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى أن تفعله.

فاتفاقيات جنيف تطلب من جميع الأطراف أن يبحثوا عن جميع الأشخاص المشتبه في اقترافهم انتهاكات جسيمة ومحاكمتهم أو تسليمهم. ويمنح القانون الدولي جميع الدول حقاً قانونياً بمقاضاة مجرمي الحرب بمقتضى نظرية السلطة القضائية الدولية.

فبينما حاكمت بعض الدول مجرمي الحرب أحيانا (على سبيل المثال، محاكمة الولايات المتحدة لمجرمي مذبحة مي لي (في فيتنام)، يظل النمط السائد أكثر من غيره، رغم التزامات اتفاقيات جنيف، إما مجرد عقوبة إدارية أو حصانة.

في القانون الدولي، لا تخضع إلا جرائم خطيرة للسلطة القضائية الدولية. والدولة هي التي لها السلطة القضائية الأساسية على هذه الجرائم، وتحديد ما إذا كان فرد سيحاكم أم لا يعتمد، من بين أشياء أخرى، على ما إذا كان قانون الدولة المحلي يسمح بمحاكمة مثل تلك الجرائم.

وتشمل أكثر الجرائم الخطيرة الخاضعة للسلطة القضائية الدولية الانتهاكات الخطيرة لقوانين الحرب وأعرافها، الجرائم ضد الإنسانية، ومنذ حكم محكمة الجنايات الدولية ليوغسلافيا السابقة في قضية تادك، انتهاكات المادة الثالثة المشتركة في اتفاقيات جينيف الأربع لسنة 1949 التي تنطبق على النزاعات المسلحة غير الدولية.

في وضع كهذا، وضمن معطيات القوانين العراقية والقانون الدولي، ليس للشعب العراقي أفرادا وجماعات من ملجأ فعال سوى مطالبة رئيس الوزراء الجديد في العراق:

أولا: بالتصديق الفوري على ميثاق روما للمحكمة وإعلان انضمام العراق لها طرفا كامل العضوية دون أية تحفظات الأمر الذي يسمح للمحكمة بممارسة اختصاصها في كل الجرائم الجسيمة.

ثانيا: أن يوجه رئيس الوزراء باسم الحكومة العراقية والسلطة التشريعية في البلاد رسالة إلى المحكمة يطلب فيها، وفقا للمادة 12 الفقرة الثالثة، النظر في الجرائم التي وقعت قبل تاريخ التصديق والتي ما زالت قيد البحث والاستقصاء والتحقيق، وما زالت مستمرة شكلا وموضوعا أو أسلوبا ونهجا من أي طرف كان على الأراضي العراقية.

إن أي طرف عراقي داخل السلطة التشريعية أو التنفيذية يقف في وجه هذا المشروع، إنما يقر بدوره في تغييب القضاء الجنائي والمحاسبة، في غياب لأي هيكل قانوني قادر على المحاسبة المستقلة داخل البلاد. ويقر أيضا بشكل غير مباشر بتورطه في الجرائم الجسيمة التي حدثت وتحدث، عبر الحرص على عدم كشف الجرائم ومرتكبيها.

10-11-2010  الجزيرة نت