أبريل 21, 2024

حماية المدنيين في الثقافة العربية

human peapleلم يكن من السهل التأسيس، في الثقافات البشرية القديمة، لمفهوم حماية المدنيين، والتمييز بين المقاتل وغير المقاتل. فهناك تداخل بين قواعد الحرب والمنظومة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وأحيانا تداخلت الغنيمة المادية من متاع ومال وأرض بالغنيمة البشرية من أطفال وسبايا. وعلينا انتظار ظهور دعوة السيد المسيح لاستقراء منطق جديد، يناهض مبدأ الاعتداء على الآخر أو احتقاره أو الإساءة إليه. فعلى أقل من مائة ميل من هنا (عمان)، جسدت حياة السيد المسيح القصيرة ووصاياه نضالا لا سابق له ضد العنف وزراعة مفهوم الاطمئنان النفسي والحماية الروحية بأسمى معانيها الإنسانية، حيث قامت أركان دعوته على منطق التماسك والتكامل بين الحقيقة والعدالة والحب والسلام. وقد جاء في إنجيل متى: “سمعتم أنه قيل لكم :أن تحب قريبك وتبغض عدوك. أما أنا فأقول لكم : أحبوا أعداءكم، وباركوا لاعنيكم، وأحسنوا معاملة الذين يبغضونكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم”.متى 43:5

 لقد أوجدت البشرية عبر التاريخ، أشكالا متعددة لحماية نفسها من العنف وفظائع الحرب أو على الأقل التقليل من أهوال الاعتداء على النفس والعرض والمعتقد والطبيعة والأرض. في المجتمع العربي قبل الإسلامي ابتكر العرب الأشهر الحرم وهي أشهر يحرم فيها وقوع الحرب لأي سبب كان ولأي مبرر كان حفظا للنفوس وردا للعدوان. وقد سميت الحروب التي جرت في الأشهر الحرام بالفجار والمفاجرة وعّير من خاضها ويعرف للعرب فجارات أربع.

 كرّم الإسلام الإنسان لآدميته، لم يفرق في هذا التكريم بين طفل وكهل، بين امرأة ورجل، بين أسود وأبيض أو عربي وأعجمي، مسلم أو غير مسلم. نص التكريم لا قيد فيه ولا حصر (ولقد كرمنا بني آدم)، والتكريم لغة يزيد عن الحق. من هنا شكلت هذه اللحظة التاريخية تأسيسا لحقبة جديدة تعطي كل أسباب التغيير المجتمعي أداة جوهرية تعتبر الإنسان، باستعارة تعبير إخوان الصفا، “أكمل الموجودات وأتم الكائنات وأفضل المخلوقات”. فالإنسان في القرآن الكريم خليفة الله تعالى في الأرض, ومزود بالعلم والعقل, وهذه الخاصية لم تكن لمخلوق سواه: “وإذ قال ربك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة”؛ أي الإنسان الذي جاء في وصفه: ” لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم”.

لا يمكن قراءة هذا التكريم دون حفظ حق الحياة باعتباره الشرط الواجب الوجوب للتمتع بأي حق أو تكريم. وعلى هذا الصعيد، القرآن لا ينتظر الكم ليحدد هوية الجريمة، فالضحية الواحدة خسارة لا تعوض والجريمة تبدأ بحياة الفرد الواحد كما جاء في القرآن الكريم:  “مـن أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”. إن كان هذا النص يؤكد على شيء، فهو أن الإبادة الجماعية في القرآن تبدأ بقتل نفس واحد.

السلام في الإسلام يعني السلم والسلام والسلامة والتسليم والصلح والبراءة من العيوب والسلام من كل عيب وهو اسم من أسماء الله الحسنى حيث جاء في القرآن الكريم: “هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام” (سورة الحشر: الآية: 23). وفي الحديث الشريف (اللهم أنت السلام ومنك السلام) وفي سورة يونس: “والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم” (الآية: 25). ولم يكتف الإسلام بذلك، بل أصدر القرآن أمره الإلهي للمؤمنين، قائلاً: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة” (سورة البقرة: الآية 208). والسلام في الاصطلاح لا يخرج عن هذا المعنى والسلام في القرآن الكريم هو الأصل والقاعدة والغاية والعزيمة في علاقات الناس مع بعضهم بعضاً أفرادا وشعوبا ومؤسسات.

يؤكد محمد حسين فضل الله على الطابع السلمي المبدئي للفقه بالقول:

“إن الفقه الإسلامي هو فقه إنساني؛ فمثلاً “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”، “وجادلهم بالتي هي أحسن”، “إن ربك هو أعلم بمن يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين”، “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”، “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”؛ ثم نقرأ: “ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم، وما يُلقّاها الذين صبروا وما يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم”. الإمام علي بن أبي طالب يقول إن الناس “صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”، والنبي يقول: “إن الرفق ما وضع على شيء إلا زانه ولا رفع عن شيء إلا شانه”، وإن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف”.

أما الإمام محمد الحسيني الشيرازي وهو من أبرز المدافعين عن أطروحة اللا عنف في الإسلام، فيؤكد على تحريم الإسلام للعدوان والطغيان بالقول: “لا يجوز الاعتداء والطغيان، كذلك لا يجوز التعسف في استعمال الحق، كما لا يجوز الفتوى والقضاء على طبق التعسف إذا كان التعسف يصل إلى الضرر الكثير في حق نفسه ومطلق الضرر في حق الغير، وإلا جاز إذ لا نص بالنسبة إلى لفظ التعسف، وإنما الميزان هو ما ذكر في الشريعة من لفظ، لا ضرر ولا ضرار..”

“وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” وفي المعنى نفسه كان الحديث النبوي الشريف الذي جاء فيه بلسان رسول الله: “إنما أنا رحمة مهداة”.

وهذا بلا نقاش منطوق الآية الكريمة: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ويخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين”. هذه الآية التي تؤسس لحماية المدنيين في كل زمان ومكان، بل وتطالب بالبر وحسن المعاملة والقسط والعدل في المعاملة مع أي مدني.

زرعت هذه الآية الكريمة الأساس الفقهي والقانوني والعرفي لحماية المدنيين، وجاءت مجموعة آيات وأحاديث وقواعد فقهية لتعطيها بعدها الكامل في التاريخ والثقافة عربية وإسلامية مثل: الأصل براءة الذمة، الضرر لا يزال بالضرر، لا تزر وازرة وزر أخرى، لا ضرر ولا ضرار، أحب للناس ما تحب لنفسك، من أغاث ملهوفا قضى الله له سبعين حاجة أولها تدبير أمر نفسه. لا عقوبة في العقوبة ولا عقوبة دون جرم، والخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة.

على هذه القواعد الجوهرية،أسست الحضارة العربية لدولة العهد والقانون وزرعت قواعد علاقات غير بربرية بين الدول تقوم على احترام المواثيق والاتفاقيات المعقودة، ولا يمكن تصور اتفاقية أو دستور يحترمان روح القرآن ولا يقومان على احترام المواثيق والأعراف والالتزام بالعهود، سواء كانت عامة أو خاصة: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً) (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) (إلا الذين عاهدتم من المشركين، ثم لم ينقصوكم شيئاً، ولم يظاهروا عليكم أحداً، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين).

حرم النبي محمد قتل النفس غير المقاتلة والاعتداء على النساء والشيوخ والأطفال والأملاك وقطع الشجر والإضرار بمصادر المياه والتحريق وكل ما يعود على الإنسان بنفع في الحروب ويروى عنه قوله “لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ولا شيخا”. ويحض القرآن على مبدأ الحياد الإيجابي، أي السعي إلى المصالحة في الحروب كمبدأ أول ثم التدخل ضد الفئة الباغية في حال استمرارها في العدوان. وقد بقيت الوصايا الأساسية مجتمعة على لسان وصية أبي بكر الصديق الشهيرة: “يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر، فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تعلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة”. تجمع أسس حماية الحقوق الأساسية للناس في زمن الحرب حيث تمنع التعرض للمدنيين والفئات المستضعفة وتطالب بالحفاظ على ما هو حي من النبات والحيوان. وقد أضيف لها عدم هدم بيت أو صومعة أو مكان عبادة في مأثورات للإمام علي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز.

هل يمكن مع هذه المبادئ قبول مبدأ الاعتداء على المدنيين في السلم والحرب أو التبرير لخطف الصحفيين؟ وعلى أي أساس يحاول من يخطف صحفيا أو عاملا في الحقل الإنساني تبرير عمله، وهل لهذا في العرف والدين والقيم العربية أساس؟

هذه الأسئلة طرحت نفسها من جديد، مع خطف المدنيين وغير المحاربين في الأزمنة الحديثة كظاهرة عالمية. هذه الظاهرة كان لها دوافع اقتصادية حينا، سياسية حينا بل واجتماعية في بعض الأحيان. ويمكن القول أن الدين لم يكن أو وسائل التبرير الإيديولوجية لهذه الظاهرة. فليس لمافيا الخطف دين تختبئ وراءه، كما أن الاتجاهات اليسارية الثورية لم تكن دينية وأحيانا كانت ذات موقف مناهض للأديان. وقد بدأت ظاهرة الاعتداء على المدنيين في المجتمعات العربية والإسلامية متأخرة نسبيا من هنا عدم عمقها الفكري والنظري وسطحية الأطروحات التي تقوم عليها (مثل فكرة وقوع حوادث خطف في عهد النبي محمد، مع إعطاء نفس الأمثلة دائما: خطف ثمامة بن آثال وسلمة بن الأكوع ومن معه وبعض أهل الحرم ورجل من بني عقيل، وهي أمثلة لا علاقة لها بخطف المدنيين أو اعتقالهم تعسفا أو المس من كرامتهم، وليست سوى ذرائع لمنهج سياسي متطرف يبحث لنفسه عن ثوب ديني).

إذا كانت الصحافة وثورة الاتصال من بنات عصرنا، فالإعلام هو الابن الشرعي للديانات السماوية. فقد كانت الوثنية، كما ينوه مارك أوجيه في كتابه (عبقرية الوثنية) غير تبشيرية ولم تعرف، أو تختر الإعلام والدعاوة للتعريف بمعتقداتها، في حين كانت الديانات الكبرى تبشيرية وإنسانية الطابع والدعوة، وبالتالي جعلت من وظائفها الأساسية وظيفة الإعلام. وكما يقول الباحث الإسلامي مسعود صبري : نحن “نعتبر أن إحدى وظائف الرسالة  التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم هي وظيفة الإعلام ، والتي عبر عنها القرآن الكريم بالبلاغ، كما قال تعالى ” و قل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم، فإن أسلموا فقد اهتدوا ، وإن تولوا ، فإنما عليك البلاغ” (آل عمران :20) :” ما على الرسول عليك إلا البلاغ ” (المائدة :99)، وقوله تعالى :” يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته “( المائدة:67)، وقوله تعالى :” فهل على الرسل إلا البلاغ المبين “( النحل :82)، وقوله :” الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله “( الأحزاب:39)، وغيرها من الآيات التي تدل على أن الوظيفة الأولى للأنبياء والمرسلين والمصلحين هي رسالة إعلامية في المقام الأول ، وهذا يعني أن الصحافيين الذين يلتزمون آداب المهنة الصحافية، ولا يتخذون الصحافة وسيلة لنشر الرذيلة بكل أنواعها، جنسية كانت أو فكرية، يأتون عملا يشبه عمل الأنبياء والمصلحين، وهذا يدل على شرف وعظم العمل الصحافي إن التزم الآداب الشرعية، واحترم منهج الصحافة العلمي”.

من هذا التعريف الديني، نعود لتعريف مدني نعتمده لا يتعارض معه بل يتناول أكثر من بعد له: “الصحفي بمفهوم المهنة النبيل هو شاهد الحقبة ومؤرخ اللحظة وأمين بيت مال الحياة اليومية للناس. وبهذا المعنى، وبقدر ما يكون أمينا في رسالته، فهو يتصدى مباشرة أو بشكل غير مباشر لعملية تدنيس الوعي في المجتمعات البشرية ويتعرض للمخاطر التي يعرفها ناشط حقوق الإنسان والمراقب الدولي وعامل الصليب والهلال الأحمر باعتباره في فوهة الحدث”.

بوصفه كذلك، صحفي ينسجم مع أخلاق وقيم مهنته، نجد رفضا عفويا وشعبيا في العالم العربي لفكرة الاعتداء على الصحفي. كذلك نجد مقالات شجب في جملة الأوساط، علمانية ودينية، لعمليات خطف الصحفيين، منذ اعتقال السوفييت في أفغانستان لصحفيين تسللوا لنقل صورة عما يحدث تحت الاحتلال السوفييتي، وخطف صحفيين أوربيين في لبنان الحرب الأهلية، والتعدي على الصحفيين في مختلف بلدان العالم. ويمكن القول، أن ثورة الاتصالات وعصر الفضائيات قد عزز الوعي العام بأهمية الصحفي كمصدر أساسي للثقافة اليومية للناس. لذا أصبح التعاطف مع الصحفيين الذين يعتدى عليهم قضية تثير التعاطف الشعبي وليس فقط تضامن أهل المهنة والكار. كذلك أصبح النقاش في هذا الموضوع أكثر شمولا واتساعا وعمقا. وليس أدل على ذلك من حلقات التضامن الكبيرة في أوساط الجالية الإسلامية في فرنسا مع الصحفّيين الفرنسيين عند اختطافهما، والتعاطف الكبير في العالم العربي مع قضية فلورنس أوبيناس. هل من الضروري التذكير بأن صفحة التضامن مع الصحفي العربي تيسير علوني كانت تستقبل في أوج الحملة من أجل إطلاق سراحه قرابة 30 ألف زائر في اليوم.يمكن القول أن اختطاف صحافيين من فرنسا، مشهود لهما بالأمانة المهنية والعلاقة الطيبة مع العالم العربي قد لعب دور الصدمة في الوعي العام العربي. قبل ذلك كان الاختطاف موضوعا مشوشا في ذهن العامة والخاصة، البعض يجد فيه سلاح الضعيف والبعض الآخر يرفض جملة وتفصيلا منطق الغاية تبرر الوسيلة. لكن ممارسات قوات الاحتلال في العراق خلقت دون شك، زعزعة في جملة القيم والمقومات الأخلاقية لسلوك الأفراد والجماعات، وبالتالي، لا نستغرب نقاشا حادا حول قضية خطف صحفي أمريكي مثلا. وقد كان لقضية الصحفيين الفرنسيين أن أعادت طرح السؤال في نطاقه الصحيح: قضية السلامة النفسية والجسدية للمدنيين في ظروف الحرب والأزمات. وكان للعدد الكبير من تدخلات رجال الدين ما همش وجهة النظر التي تبرر أو تتفهم مسألة خطف مدني من بلد الدولة المحتلة. الشيخ  يوسف القرضاوي يؤكد أن “الإسلام يرفض خطف المستأمنين والاعتداء عليهم خاصة إذا كانوا قد جاءوا للبلاد الإسلامية في مهمة إنسانية مثل الصحفيين الفرنسيين لأنهم يقومون بنقل حقائق ما يجري في العراق للرأي العام في بلادهم وفي العالم”. موضحا: أن “الإسلام يحتاط في أمر الدماء، ولا يجوز للمسلم أن يخطف الأبرياء الذين ليسوا لهم في العير ولا في النفير، وليس لهم علاقة بالحرب، ويشدد (الإسلام) على حقن دماء الناس”.

الشيخ محمد حسين فضل الله يصرح يؤكد على: “رفض خطف الأجانب سواءً أكانوا فرنسيين أو غير فرنسيين ولاسيما الصحفيين الذين لا يسيئون إلى القضايا الإسلامية وخصوصاً مع التهديد بقتلهم، لأن ذلك يسيء إلى صورة الإسلام والمسلمين في العالم ويخالف القاعدة القرآنية الشرعية في قوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى)”.

وفي 30 أغسطس 2004 أصدر الإخوان المسلمون بيانا يؤكدون فيه على رفضهم لأسلوب اختطاف الصحفيين الذين يدخلون العراق بهدف ممارسة عملهم الصحفي البحت وتغطية الأحداث وكتابة التقارير عنها، كما يرفضون أي مساس بالنفس الإنسانية بدون وجه حق .

ويمكننا أن نقرأ على صفحات الأنترنيت طرفا واسعا من النقاش حول ضرورة حماية الصحفيين، عن السؤال الأزلي: هل ترك الصحافي عمله كصحافي يسمح باختطافه، هل يجوز ذلك إن لم يكن بالدليل القاطع يعمل لصالح جيش الاحتلال، هل يجوز الحكم عليه بالإشاعة والتخمين؟ أليس من الظلم أن يحاسب الصحفي على لقاء مع بريمر أو مقابلة مع بن لادن؟

هل يعني ذلك أنه تخلى عن القيم الأساسية للعمل الصحافي وفق نظرية المسئولية الاجتماعية للصحافة؟ هذه النظرية التي تدعو إلى ألا يكون الإعلام قائما على الكسب، بما يضر مصالح المجتمع الإنساني، ومن العجيب أن يكون أساس هذه النظرية التي طرحت بشكل معاصر في تقرير ” لجنة حرية الصحافة الأمريكية الصادر عام 1947م، جرى التنبيه فيه إلى أن التجاوزات التي تحدث من قبل الإعلام والصحافة لها أكبر الضرر على المجتمع. بشكل يرفض جعل الكسب غاية للصحافة إن قام ذلك على ضرر لمصالح المجتمع، ويرفض تبرير البحث عن زيادة عدد القراء في موضوعات مثيرة، بكلمة، ضرورة اعتماد ضوابط أخلاقية مهنية تحمي الصحافة من جنوحات أية سلطة، باعتبارها أيضا، سلطة رابعة. فيما يكثفه ديني إليوت بتعريفه لطبيعة المسئولية الإعلامية من خلال ثلاث زوايا، هي :

أولا : مسئولية الإعلامي تجاه المجتمع العام ، ويتحقق ذلك من خلال إتاحة المعلومات وعدم إلحاق الضرر بالآخرين.

ثانيا: مسئولية الإعلامي تجاه المجتمع المحلي، وهي امتداد للمسئولية الأولى، وتعتمد على نشر ما يتوقعه الأفراد من المجتمع، وما يتوقعه المجتمع من الأفراد، وإخبار الناس بما يحقق صالحهم الآني والمستقبلي، وأداء الرسالة السابقة بطريقة لا تقلل من ثقة الناس في مهنة الصحافة والإعلام.

ثالثا : مسئولية الإعلامي تجاه نفسه، من خلال أداء الرسالة الإعلامية بأقصى قدر من الدقة والأمانة والصدق والموضوعية لما يعتقد أنه صالح للمجتمع (عن محمد حسام الدين).

الخطف هو اعتداء على سلامة النفس والجسد وحرية الشخص وخطر لا يمكن تقديره على حق الحياة. وبهذا المعنى ترفضه الديانات السماوية والفلسفات الإنسانية الكبرى. وإن كان الفقهاء يقولون، كما يذكر مسعود صبري، “بأنه لا يجوز أن يعتدي المقاتلون المسلمون على غير المسلمين”، فإني أحب أن أؤكد على أصل الحرمة غير مرتبط أو مرهون بالدين بل بالشخص، فلا يجوز خطف الصحافيين المسلمين أو غير المسلمين، لأن في ذلك تعبير عن الظلم، وقد جاء الحديث القدسي الصحيح: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا”.

إن كان العدوان محرما بصفة عامة، فإن القرآن الكريم أكد على تحريمه في حالة الكره، وأكد ألا يدفع الكره الناس إلى العدوان ، قال تعالى : (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) المائدة: 2. بل منطوق الآية يؤكد كما يجمع المفسرون على أنه مهما كان كره بعض المسلمين لقوم بسبب قيامهم بخطأ أو جرم كبير، فلا يكون ذلك أيضا دافعا للاعتداء. يتبين من خلال الأدبيات الحديثة التي تناولت مسألة خطف الصحفيين، رفض هذا المنطق باعتباره نوع من الاعتقال التعسفي في لغة حقوق الإنسان  والحبس بلا ذنب في لغة الفقهاء، معروف أنه لا يشترط في الحبس أن يكون في مكان معد للحبس، بل قد يكون منع الإنسان عن مباشرة حياته نوعا من الحبس المحرم، وقد عرف الفقهاء الحبس بأنه : تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه والخروج إلى أشغاله ومهماته الدينية, والاجتماعية. وليس من لوازمه الجعل في بنيان خاص معد لذلك, بل الربط بالشجرة حبس, والجعل في البيت أو المسجد حبس. (الموسوعة الفقهية ، ج16/283).

والحبس، كما يذكر مسعود صبري، “لا يشرع إلا في الاتهام، مع الاختلاف الوارد بين الفقهاء في مشروعيته، وإن كان الراجح جواز الحبس للمتهم، غير أن خطف الصحافيين وحبسهم عن عملهم في غير محله، لأنهم غير متهمين” .

كما بينت في كتاب “الإسلام والقانون الإنساني الدولي”: لا يوجد باتفاق كبار رجال الدين، سنة وشيعة وإسماعيلية وعلوية وموحدين وإباضية، وفقا لمراجعاتنا، أي نص أو فتوى أو قراءة تشير لخلاف أو تعارض مع اتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكولين الملحقين بها. وكون البلدان الإسلامية قد أقرت بهذه الاتفاقيات التي أجمعت على أن العاملين في الصحافة ممن لهم عقد الأمان، ولهم ذمة وعهد في أية دولة يدخلونها، وجب احترام العهد باعتباره من قواعد الإسلام الأساسية كما سبق وأوضحنا، وقد نصت المادة (79)من البروتوكول الإضافي الأول الملحق باتفاقيات جينيف لسنة 1949 “يعد الصحفيون الذين يباشرون مهمات مهنية خطرة في مناطق النزاعات المسلحة أشخاصاً مدنيين … يجب حمايتهم بهذه الصفة بمقتضى أحكام الاتفاقيات وهذا البروتوكول، شريطة أن لا يقوموا بأي عمل يسيء إلى وضعهم كأشخاص مدنيين، وذلك دون الإخلال بحق المراسلين الحربيين… “.

 لا يجوز نقض هذا العهد، إلا إذا خالف الصحافيون مهنتهم، وتحولوا من مدنيين يقومون بواجب الإعلام الإنساني عن الأحوال الحربية وقت القتال والاحتلال، فإن أصبحوا جزءا من جيش المحتل بأي صورة من صور الجيش ووظائفه، فقدوا صفتهم كمدنيين، وشملتهم اتفاقية جنيف الثالثة.

بعد هذا العرض، يمكننا أن نلاحظ، أن الاتجاهات السائدة في الخطاب الديني والسياسي والثقافي الشعبي والمعرفي في العالم العربي تعتبر اليوم، قضية خطف الصحفيين تعد على العهد، تعد على الأمن الشخصي، نوع من الإفساد وانتهاك لحق الحرية الذي سنه الله لخلقه جميعا واعتبرته الفلسفات الكبرى حقا طبيعيا لكل إنسان.

بحث مقدم إلى ندوة حماية الصحافيين في زمن الأزمات ، الدكتور هيثم مناع ، عمان 15/5/2005