– مقاربة تاريخية
– الالتزامات الدولية
– خصوصية بوسنية أم سابقة خطيرة؟
في سابقة لم تعرفها القارة منذ توقيع الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية عام 1950، قامت جمهورية البوسنة والهرسك بنزع جنسية أكثر من 400 من مواطنيها إثر قرار اتخذته لجنة فوق قومية خاصة بمراجعة ملف المجنسين أثناء وبعد الحرب.
فما هي أبعاد ومخاطر هذا القرار على المسيرة الشاقة للملاءمة القانونية بين حق المواطنة وحقوق الإنسان؟
مقاربة تاريخية
شكلت كلمة “Nation” الجذر الأساسي لما ستقوم عليه حقبة تاريخية كاملة اصطلح على تسميتها بحقبة الأمة والدولة الأمة.
من جملة مشتقات هذه الكلمة تشكلت كلمة “Nationalité“، التعبير الأكثر قدرة على التحديد، والملموس بشكل عياني في إطار وحدة سياسية ممركزة. وهو يعني، من حيث المبدأ، الوضع القانوني الذي يميز “الوطني” أو “القومي” أو ابن البلد عن الأجنبي.
ترجم هذا التعبير إلى العربية بكلمة تفترق عن ترجمة مشتقه الأصلي: الجنسية. والتجنس، أخذ الجنسية، هو الانضمام إلى القوم. إنه في حد ذاته قبول وطني وعالمي بمبدأ يرفض نقاوة الجنس والعرق ويقبل طوعيا منطق الاختلاف (سواء كان الاختلاف في الدين أو اللغة أو الجنس أو اللون..) وهو يشبه الزواج المختلط عند قبيلة ربما كانت تحبذ الزواج الداخلي بين الأقارب، لكن ليس لها إلا أن تقبل منطق الحياة الأغنى.
وتعرف الجنسية في كتب القانون بأنها “رابطة قانونية سياسية تربط شخصا ما بدولة ما، مما يجعله واحدا من مواطنيها”. هي رابطة قانونية لأنها ترتب حقوقا وواجبات ينظمها دستور الدولة وقوانينها.
وهي سياسية لأنها تحدد الجماعة السياسية التي تشكل شعب الدولة كركن من أركانها إضافة إلى الإقليم والسلطة، بل ركنها الأهم.
سواء كانت الجنسية تعتمد حق الدم (Jus sanguinis) أو حق الأرض (Jus soli) فهي منذ نشأتها قضية وطنية بحتة تخضع للتعريف العام لسيادة الدولة. ويمكن القول إن النص الوحيد غير الوطني حول الجنسية هو معاهدة لاهاي الموقعة يوم 12 أبريل/نيسان 1930.
يؤكد هذا النص هذه النقطة:
– يعود لكل دولة أن تحدد بتشريعاتها الخاصة من هم وطنيوها.
– فقط هذه التشريعات لها الحق في تحديد ما إذا كان الفرد من رعايا الدولة أم لا.
معروف أن قانون الجنسية يتأثر بشكل شبه دائم بالخصوصيات الثقافية الاجتماعية، وأنه أيضا مقولب في نطاق دينامكية مصلحية.
فالمملكة العربية السعودية التي أقامها الملك عبد العزيز كانت تسمي وزراء عربا من خارج الجزيرة، في حين صارت قضية الجنسية فيها اليوم من أكثر المواضيع الاجتماعية السياسية حساسية ودقة.
وترفض إسرائيل مبدأ الأرض والدم لعدد كبير من الفلسطينيين أصحاب الأرض بالمعاني الحقوقية المختلفة، لتقر بمبدأ العودة إلى أرض إسرائيل لكل يهودي، حيث يصبح الدين المرجع الأساسي لمفهوم الجنسية وإن لم يكن الوحيد.
لكن هذا التأثر لم يعد في المطلق، وثمة ضوابط له، على الأقل من الناحية النظرية القانونية في كل دولة التزمت بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
الالتزامات الدولية
ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المادة 15 على مبدأين أساسيين: الأول حق كل فرد في التمتع بجنسية ما، والثاني عدم جواز حرمان شخص من جنسيته تعسفا أو إنكار حقه في تغييرها.
1- لكل فرد حق التمتع بجنسية ما.
2- لا يجوز تعسفا حرمان أي شخص من جنسيته ولا من حق تغيير جنسيته.
أقر المجتمع الدولي عام 1954 اتفاقية بشأن خفض حالات انعدام الجنسية، وجاء في المادة 1 من هذه الاتفاقية: “تمنح كل دولة متعاقدة جنسيتها للشخص الذي يولد على إقليمها ويكون لولا ذلك عديم الجنسية..”.
بدأ نفاذ الاتفاقية عام 1960، ثم تم اعتماد الاتفاقية الخاصة بخفض حالات انعدام الجنسية عام 1961 التي دخلت حيز التنفيذ في ديسمبر/كانون الأول 1975.
تتلخص أهم أحكامها في الآتي: يطلب من الدولة المتعاقدة أن تمنح جنسيتها للشخص الذي يولد في أراضيها والتي لولاها يكون عديم الجنسية، ويجب منح هذه الجنسية أولا بحكم تنفيذ القانون لدى الولادة، ثانيا بناء على طلب يقدم إلى السلطة المختصة. إلا أنه يسمح للدولة المتعاقدة أن تخضع منح جنسيتها لشروط معينة:
أ – بحكم القانون لدى الولادة
ب – بناء على طلب يقدم إلى السلطة المختصة.. إلخ.
في 1955، عرفت محكمة العدل الدولية فيما يعرف بقضية نوتبوهم Nottebohm الجنسية بالقول: “صلة أو علاقة قضائية قائمة على أساس ارتباط اجتماعي وتضامن فعلي في الوجود والمصالح والمشاعر وتبادل الحقوق والواجبات”.
هذا التعريف، الذي يمكن متابعته في قرار للمحكمة الأميركية لحقوق الإنسان عام 1984 وآخر للجنة المفوضية الأوروبية حول المواطنة والاتحاد عام 1993، بقي يشكل الأساس في دفاع الأشخاص عن حقهم في جنسية، الأمر الذي جعل من النضال الحقوقي والمدني خلال نصف قرن أهم عنصر ضغط على “سيادة الدولة المطلقة في قضايا الجنسية”.
أدى ذلك إلى اتفاق دولي واسع على إلغاء حالة الأطفال عديمي الجنسية، دخل حيز التنفيذ عام 1990 بتصديق كل الدول الأوروبية على اتفاقية حقوق الطفل التي جاء في المادة 7 منها:
1- يسجل الطفل بعد ولادته فورا ويكون له الحق منذ ولادته في اسم والحق في اكتساب جنسية ويكون له قدر الإمكان الحق في معرفة والديه وتلقي رعايتهما.
2- تكفل الدول الأطراف إعمال هذه الحقوق وفقا لقانونها الوطني والتزامها بموجب الصكوك الدولية المتصلة بهذا الميدان، ولا سيما حيث يعتبر الطفل عديم الجنسية في حال عدم القيام بذلك.
بعد نقاشات طويلة عام 1997 أقرت الاتفاقية الأوروبية حول الجنسية، حيث يتقاسم الشخص مع الدولة مفهوم المواطنة لأول مرة في نص دولي.
اعتبرت الغاية من ديباجة الاتفاقية هي إقرار مبادئ قضائية للحماية وقوانين تخفض قدر المستطاع حالات نزع الجنسية. وجاء فيها أيضا أنه يتم أخذ المصالح المشروعة للدول والأشخاص بعين الاعتبار.
خصوصية بوسنية أم سابقة خطيرة؟
في زمن الحرب فيما يعرف بيوغسلافيا السابقة، خضع الأشخاص، بغض النظر عن أصلهم الديني أو القومي أو القاري، لاتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكولين الملحقين. وعلى هذا الأساس قامت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة.
ويلاحظ عموما عدم وجود جرائم حرب تم ارتكابها من أجانب، سواء كان هؤلاء من أصول عربية إسلامية أو مسيحية سلافية.
أرّخ اتفاق دايتون الموقع في ديسمبر/كانون الأول 1995 لمرحلة جديدة هدفها السلم الأهلي، وبالتالي نهاية الأوضاع القتالية خارج احتكار مؤسسة الدولة للعنف.
لذا نص الاتفاق على إخراج كل المقاتلين الأجانب. وهذا ما تم تنفيذه تباعا. وكوننا كنا آنذاك في الحقبة السابقة على شيطنة كل من شارك في قتال في بلد إسلامي، فقد عاد القسم الأهم إلى بلداهم، وذهب قسم آخر، خاصة الملاحقين في بلدانهم، إلى مناطق أخرى مثل الشيشان.
لم يتعرض “مجلس تنفيذ اتفاق السلام” لكل الحالات الحاصلة على الجنسية قبل توقيع الاتفاق، سواء بداعي الخدمة في الجيش البوسني أو الزواج من بوسنيات أو العمل الإغاثي، باعتبار هؤلاء قد أصبحوا من أبناء البلاد، ونال العديد منهم أوسمة بوسنية أو ترقيات في الرتب العسكرية.
يكفل قانون الجنسية في البوسنة والهرسك في الفصل 13 حق الحصول على الجنسية “إذا كانت ترجى منه مصلحة للبلاد”، فيما ينسجم مع قرار محكمة العدل الدولية لعام 1955.
ويمكن القول إنه وبخلاف أقلية متطرفة لم تهضم عملية اندماج هذه المجموعة من المواطنين الجدد، كانت هناك عملية تحول ناجحة لهؤلاء في مجالات المهن السلمية، فدخلوا في التجارة والمهن الحرة بل والزراعة.
بدأت مصائب قدماء “الأنصار” (وهذا هو التعبير الأكثر شيوعا في أوروبا لوصف من يناصر قضية فيغادر بلده وأهله لينضم لأصحابها، كما سمي من ناصر الجمهوريين الإسبان مثلا) منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001.
ولم يمض سوى شهر ونصف حتى بدأت القوائم تنهال من ما وراء الأطلسي على الأوروبيين بشكل عام ومنطقة يوغسلافيا السابقة بشكل خاص.
وقد تابعتُ أول عملية هجوم على منظمة خيرية في ديسمبر/كانون الأول 2001. ولدينا شهادات تعذيب وسوء معاملة ومصادرة أدوات ووقف خدمات للناس في كوسوفو.
بعدها بشهرين سمعنا عن أولى حالات الاستجواب في البوسنة. أما حالات الإبعاد فبدأت مباشرة بعد 11 سبتمبر/أيلول، حيث تم ترحيل مواطنين مصريين إلى بلدهما، وقد حكم عليهما هناك بالسجن عشر سنوات.
بعد ذلك كانت جريمة تسليم ستة جزائريين يحملون الجنسية البوسنية للسلطات الأميركية. وهم إلى اليوم في غوانتانامو دون تهمة أو جرم، بل لقد برأت ساحتهم غرفة حقوق الإنسان والقضاء البوسني بعد وقوع ما لا يمكن إصلاحه.
استمرت الضغوط الأميركية لينجم عنها تشكيل “لجنة مراجعة الجنسية البوسنية الممنوحة للأجانب”. وهي لجنة محدودة الموضوع والزمان تملك صلاحيات فوق القانون والمحاكم، وهي مكونة من اثنين من الصرب واثنين من الكروات واثنين من المسلمين وثلاثة من الأجانب (إسباني وبلغاري وأميركي).
وهي بهذا المعنى أول حالة “عولمة” لموضوع الجنسية ينتزع من الدولة البوسنية سيادتها فيه، ليس لتعزيز المواطنة وضمان حقوق الأشخاص، كما نادت وسعت المنظمات الحقوقية منذ نصف قرن، وإنما في سابقة تزرع الهشاشة في صلب قضية الجنسية في القارة التي حرصت منذ 1930 على تقديم نفسها باعتبارها الأكثر غيرة على احترام حقوق المواطنة.
حتى اليوم، ثبتت اللجنة المذكورة جنسية 349 من المواطنين الجدد، وسحبت الجنسية من 411 شخصا، إضافة إلى رفض كل حالات اللجوء السياسي التي تقدم بها أشخاص كانوا في البوسنة وناصروها وليس بإمكانهم العودة إلى بلدانهم لأسباب سياسية.
وهي بفعلتها تخالف صراحة أصول منع الترحيل المنصوص عليها في الفصل 60 و 64 من الدستور البوسني، وتمارس خرقا فاضحا للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية (التي صدقت عليها البوسنة والهرسك في 12/7/2002) وبروتوكوليها السادس والسابع، والاتفاقية الأوروبية حول الجنسية.
هل من الضروري التذكير بأن جميع الحالات المطروحة على طاولة نزع الجنسية اليوم يشملها الفصل العاشر من قانون الجنسية (الفقرة آ)؟ إنه يتحدث عن إمكانية الحصول على الجنسية إن استمر الزواج لخمس سنوات، لكونهم في البوسنة منذ أكثر من عشر سنوات. وإن مقارنة بعض حالات نزع الجنسية مع حالات تم فيها تثبيتها تبدي تطابقا في المعطيات، يجعل التساؤل عن جدية عمل هذه اللجنة مشروعا.
إن سياسة الحكومة ووزارة الأمن البوسنية القائمة على الترحيل العشوائي والاعتباطي بدعوى “تنظيف البلاد من الإرهابيين الإسلاميين”، وتوكيل لجنة بمصير مواطنين لم يرتكبوا جرما ولا جنحة، لا تشكل تحطيما منهجيا لفكرة قيام دولة قانون تحترم دستورها والتزاماتها الدولية فحسب، بل تصنع سابقة خطيرة.
أولا، لأنها في الذاكرة الجماعية الأوروبية تعود بنا إلى الوضع الرث لقضية الجنسية الذي ساد أوروبا في ظل الحكومتين الفاشية والنازية. وثانيا، لأن كل نضال المدافعين عن الحقوق المدنية تركز منذ 1948 على تخفيف وطأة سيادة الدولة بهدف تخفيف العسف في قرارات سحب الجنسية والحرمان منها.
ها نحن اليوم أمام تدخل دولي في قضية سيادية، الغاية الأساسية منه إنتاج مئات المحرومين من الجنسية وإرسالهم تعسفا إلى بلدان لا يمكن فيها ضمان حرياتهم وسلامتهم النفسية والجسدية.
__________________
عن الجزيرة نت 10/6/2007