أكتوبر 13, 2024

ديموقراطية المنع والقمع

noفي 24 نوفمبر 2003 أصدر مجلس الحكم المعين بقرار من قوات الاحتلال في العراق، قرارا بمنع قناة “العربية” ما لم تتقدم بتعهد خطي- كما قيل لنا حينها- بعدم تشجيع الأعمال الإرهابية. ثم في فبراير 2004، كان آخر إجراء صحفي لمجلس الحكم منع قناة “الجزيرة” من تغطية نشاطاته. بعدها وفي السابع من شهر آب (أغسطس) 2004، قررت الحكومة العراقية المؤقتة إغلاق مكاتب الجزيرة لمدة ثلاثين يوما قابلة للتجديد. رافق القرار الأخير عدة مقالات من أسماء عراقية معروفة، منها من يعرب عن غبطته بهذا القرار بل ويلوم الحكومة لأنها تأخرت وأخرى تطالب بأن يصبح القرار دائما وليس مجرد عقوبة مؤقتة.

في بلد آخر، فرنسا، وبطلب من الحكومة الإسرائيلية، وضغط من اللوبي الموالي لإسرائيل، طالب المجلس الأعلى للسمعي البصري في الفترة نفسها، بتوقيف قناة المنار لبثها مسلسل “الشتات” قبل عام على ذلك وتشجيعها لأعمال العنف. كنت أتابع قضية المنار عندما وقع في يدي مقالة للسيد عزيز الحاج استوقفتني كثيرا وشعرت أمامها بأننا إن كنا ما زلنا في القرون الوسطى للإعلام فنحن في العصر الحجري للديمقراطية: فالسيد عزيز الحاج، يعتقد أن خطاب رامسفيلد تجاه الفضائيات مساوم ومهادن وأن إجراءات الحكومة بحق الجزيرة “خطوات صغيرة” في مواجهة جرائم كبيرة، حيث جاء في مقالته: خطوة عراقية صغيرة تجاه (الجزيرة):

“إن قرار غلق مكتب الجزيرة شهرا في العراق هو رغم إيجابيته ناقص جدا. إن المطلوب هو غلق مكاتب الفضائيات المارقة طوال المرحلة الانتقالية ولحين ضمان استقرار العراق وقيام نظام ديمقراطي برلماني فدرالي حقيقي”.

 ممثل سلطة صدام حسين السابق في اليونسكو يعطينا المثل الساطع على القدرة الخارقة لفئة من المثقفين على إتقان فن الدفاع عن الدكتاتورية وفن تمثيلها، ثم التمثيل بها والأدلجة لإعادة إنتاجها بآن معا، مطالبا بإغلاق قنوات “الجزيرة” و”المنار” و”العالم” كحد أدنى لحرية الإعلام وبناء السلم والديمقراطية في العراق.

سقط الدكتاتور لكن الدكتاتورية لم تسقط، وها نحن بصدد “كارتل” من المحترفين الذين استوعبوا سقف المطالب الأمريكية والمصالح الأمريكية والمفهوم الأمريكي “للحريات الأساسية”. بعضهم جاء من الستالينية أو الأصولية الإسلامية، وبعضهم الآخر  رضع في أحضان الدكتاتورية. وجميعهم فهم أن أجمل أشكال ممارسة الحكم دون مصاعب هو استيراد أنموذج تونس الخضراء القائم على اغتيال الديمقراطية باسم الديمقراطية وضرب حقوق الإنسان باسم هذه الحقوق. وهم لا يتوانون عن اتهام كل من يختلف معهم في الرؤية أو التصور أو التحليل بالتواطؤ العلني أو الضمني مع الإرهاب و”عرقلة التطور السياسي الديمقراطي في العراق ونشر الفوضى ومحاولة بث الفتن” في ” برنامج متعدد الرؤوس والأطراف، صدامي ـ لادني ـ إيراني”.

لنترك جانباً الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والمقرر الخاص لحرية التعبير في المفوضية السامية لحقوق الإنسان ومنظمات الدفاع عن حرية الصوت والصورة، ولنطرح سؤالا أكثر عملية وفجاجة: ما هي المعاني الحقيقية للرقابة اليوم؟ هل مازال بإمكان الدولة “حماية” (أو تعقيم) مواطنيها من موجات الأثير الفضائي؟ هل بالإمكان خلق جزر معزولة ووسائل تشويش جديدة تحول دون وصول السمعي و/أو البصري لهذا الصنف أو ذاك من الناس؟ هل بالإمكان تقديم وجبة طعام واحدة حتى لذوي الأمعاء الفكرية الخاوية؟

عندما أغلقت حكومة البعث السورية قبل أربعين عاما مجلة “المضحك المبكي” الكاريكاتورية قتلت هذا المشروع في مهده وأخرت مدرسة الكاريكاتير بالمعنيين الفني والسياسي في سورية عن نظيراتها في العالم والمنطقة. اليوم، لا يمكن لأحد أن يمنع أي فنان كاريكاتير من حمل لوحته لعشرات الآلاف من العشاق لفنه دون رقيب ولا محاسب. وإن كان لثورة الاتصالات من فضل على جنسنا، فهي وإن لم تخلق المساواة في دمقرطة المعارف فقد نجحت في جعل الرقابة والمنع وسيلة تجمع بين الحماقة والغباء والصلف والعجز.

من الناحية العملية، لم تتوقف قناة الجزيرة عن أن تكون الأكثر مشاهدة  في المجتمع العراقي العربي (ليس لها نفس المتابعة في الأوساط الكردية بالتأكيد). ووفق أكثر من خبير إعلامي، لم تنخفض ساعات وموضوعات البث الخاصة بالعراق. كذلك بقيت للجزيرة إمكانية اللقاء والتعريف بعدد هام من الجغرافيا السياسية غير الحكومية. وتمكنت القناة من التكيف مع قرار المنع بحيث صار التذكير بهذا القرار وسام لها في أوساط شعبية واسعة.

بتعبير آخر، لم ينجم عن إغلاق القناة خفض في المتابعة أو ضعف في الأداء أو تغييب للمشهد العراقي عنه. بالتأكيد هناك تكلفة مادية للجزيرة من جراء استئجار ما يعوض أماكن البث الطبيعي أو شراء الصور من محطات ومراكز إعلامية أخرى. لكن قصة الجزيرة في بغداد  ليست سوى مثل جديد على أن الرقابة والمنع في القرن الواحد والعشرين هو وسيلة تحمل من الرعونة أكثر مما تحمل من الجدوى. وهي لا تتعدى من حيث الفاعلية  تحقيق نزوات متأخرة عند عقليات تسلطية في طور الانقراض.

في بغداد، تم إغلاق المكاتب. وفي باريس، جرت محاولة لإغلاق السماء بوجه ما تقدمه ثورة الاتصالات. مجلس الدولة الفرنسي، أي الهيئة التي يحق لها مناقشة قرار المجلس الأعلى للسمعي البصري، أصدر في 20 من شهر آب، بعد يوم من مواجهة قضائية-سياسية، قراره بعدم ترك الحرية للمجلس الأعلى بإغلاق قناة تلفزيونية. ذلك لتقدير المجلس بأن هكذا قرار يحمل أبعادا لا حصر لها وهو نفسه قد يكون ابن ضغوط ليست بالضرورة موضوعية. فهو بالتالي قد سحب من يد مجموعات الضغط المختلفة قدرتها على إغلاق السماء أو مصادرة الأرض بشكل أتوماتيكي. في حين مازالت النداءات والمقالات ممن راهن على الاحتلال الأمريكي تطالب ببقاء لون فضائي واحد في الجو، ومحطة حكومية واحدة أرضية.

أنتجت الدكتاتورية في العراق نخبا مختلة تخاف من المواطن بل وتتصوره ملوثا ومخيفا يحمل كل جراثيم التطرف والعنف والإرهاب. العبارات التي كان يكررها أعوان صدام عن التخلف الشيعي الذي يحتاج لصاعق كهربائي يخرج النجف من القرون الوسطى أيام انتفاضة رجب تتكرر اليوم في الحديث عن أتباع السيد مقتدى الصدر. إنها العلاقة بالعامة، أو بهذا الصعلوك الذي تسعى أشباه النخب لإعطائه لقب مواطن فيرفض ذلك ليبقى مجرد “أداة” يمكن التلاعب بها من كل عابر سبيل.

ألا يرى اللص اللصوصية في كل مكان. وإن كان هذا المسؤول أو ذاك مأجورا عند هذه الدولة أو تلك، فكل مواطن عراقي يمكن أن يكون مأجورا. الخطيئة الأصلية التي ارتكبها الشلبي ليست مشكلة شخصية عند هؤلاء بل مسلكا عاما  لكل الناس. لذا يجب عزل المواطن العراقي عن آفات الخارج القميئة حتى لا تتكرر قصة سقوط بغداد، وحتى لا يأتي من يأتي هذه المرة بالدبابة الإيرانية أو القطرية أو اللبنانية…

لأصحاب مدرسة الممنوعات نقول: الأصل في الإعلام الإباحة. فحتى تلفزيون قوات بينوشيه المسلحة لم يطالب الديمقراطيون التشيليون بإغلاقه واعتبروا واجبهم في مقاطعته ونقده. هكذا كان موقفنا من محطة يمولها مجرم ضد الإنسانية وأخرى أفرزها البنتاغون. لكننا رفضنا ونرفض منطق إغلاق أي صوت بما في ذلك المحطات المفبركة بقرار من إدارة متطرفة أو قامع ثري. لا لأنها توزع المن والسلوى، أو لأنها لا تشارك في عملية تدنيس الوعي، لكن لأن مقص الرقابة أعمى بامتياز ولأننا لا نملك الحقيقة ولا نملك الحق بمنع أحد من التعبير عن رأيه.

إن كان من الضروري وجود عهد أخلاقي للصحفي والوسيلة الإعلامية، فإن الاحتكام للقانون يبقى أفضل الوسائل لتحديد ما إذا كان هناك تحريض على القتل أو دعم للإرهاب أو تشويه للوقائع أو ثلب وكذب.

———————

18/7/2005