لم يعرف المشهد السوري وضعاً أكثر سوءاً وقتامة ً مما هو عليه اليوم منذ الثامن عشر من آذار 2011. فقد تراجعت المقاومة المدنية إلى حد اختزالها في عمليات الإغاثة والمساعدة الإنسانية، وتبعثرت جهود القوى الديمقراطية بشكل لا سابق له.
لقد أثرت عملية الاستيلاد الخارجي للائتلاف الوطني السوري وفرضه ممثلاً شرعياً (وحيداً) للشعب والثورة على علاقة التنظيمات الديمقراطية المدنية مع عدد من الدول الغربية التي وضعت كل أوراقها في سلة الائتلاف وبأحسن الأحوال ما أسمته سياسة البناء والتوسع للوليد الجديد. في الجبهة الأخرى ازدادت سطوة القدرة العسكرية للجماعات التكفيرية الجهادية بشكل أجبر الأطراف المقاتلة الأخرى ليس فقط على التعامل معها كأمر واقع بل مساواتها في الشمال السوري على الأقل في الغَنم والغٌرم (الغنيمة والسلطة) تحت شعار تقديس البندقية المقاتلة لنظام بشار الأسد.
ثلاثة أحداث أبرزت للعيان هشاشة الائتلاف ومخاطر انفجاره عوضا عن مأسسته وتوسيعه: الأول مبادرة رئيسه أحمد معاذ الخطيب السياسية، ثانيها العملية القيصرية لتشكيل حكومة في اسطنبول والثالثة إعطاء مقعد سورية في وفد رئيسه مستقيل ورئيس وزرائه مغمور وهيكل خُمس أعضائه مجمِّد العضوية؟؟
أسقطت الأحداث الثلاثة القناع عن الوجه الحقيقي للتحالف ككتلة صماء قوامها الإسلاميون وفريق (قطر-الصباغ ) في وجه مجموعة لا يجمعها برنامج أو ايديولوجية أو تصور مشترك بل وحتى القدرة على تكوين إرادة سياسية مستقلة. إلا أن مجموعة دعم الشعب السوري ما زالت مصرة على أن بالإمكان الإصلاح والتوسيع عبر تشكيل جماعات طائفية (مسيحية، علوية إلخ) تعطى بعض المقاعد كذلك ضم بعض الفئات العلمانية الديمقراطية لتخفيف دور الكتلة الإسلامية الأقوى في الائتلاف اليوم.
في هذا الوضع المتأزم، لم تعد السلطة الديكتاتورية بحاجة إلى إظهار الحد الأدنى من الجدية في تعاملها مع الحل السياسي التفاوضي لتيقنها بأن القوى السياسية المناهضة لها لم تعد تشكل قوة حقيقية مؤثرة سواء في ساحة المواجهة العسكرية، أو لدى الجماهير المهمشة التي تحول أكثر من ستة ملايين منها إلى كائنات همها الأساسي البقاء على قيد الحياة . ولكي يزداد الأمر بؤسا، فشلت كل محاولات الفريق الإقليمي الدولي المكلف بتوحيد الفصائل العسكرية ( تركيا- قطر-السعورية- بريطانيا- الولايات المتحدة وفرنسا) في خلق قيادة عسكرية تعمل تحت راية برنامج سياسي واضح المعالم ونجم عن الاستفراد القطري التركي في قراري تشكيل حكومة مؤقتة وإعطاء مقعد سوريا للجامعة العربية شرخاً كبيراً بين الموقف السعودي والقطري انعكس مباشرة على الصعيد الميداني العسكري.
لم يعد خافياً على أحد. وبعد أن جرى تقديم الائتلاف بوصفه البديل الجامع لمعارضة داخلية وخارجية إسلامية وليبرالية تكفل بديلاً معتدلاً ومقبولاً من الحلفاء الأساسيين لما عرف بائتلاف أصدقاء الشعب السوري. ثمة اليوم مخاوف حقيقية من انفجار هذا الجسم بحيث لا يتبقى منه في الأسابيع القادمة سوى الكتلة الصماء الأبعد عن المشروع الديمقراطي المدني والتي لا يتجاوز فهمها للديمقراطية “الصندوق الانتخابي” الذي يشكل الحكم الحقيقي ليس فقط بين الإخوان والديمقراطيين بل أيضا كما عبر مسئول الإخوان رياض الشقفة، بين جبهة النصرة والآخرين (1).
لم يكن لدى العديد من الأطراف الأكثر اندفاعاً لدعم التسليح وإعادة موازين القوى بين الجيش السوري والمعارضة المسلحة علمُ بأهم الخطوات التي اتخذت في اسطنبول والدوحة، وتفاجأت بمعظمها بالشكل والمضمون والإخراج ، ولأول مرة منذ اجتماع تونس لتنصيب المجلس الوطني ممثلاً اساسياً للشعب السوري يدخل الشك والخوف إلى فرق العمل المختلفة المكلفة بمتابعة الملف السوري في الأوساط الغربية والخليجية.
كعادتها لم تفوت “منظمة القاعدة” الفرصة، فدخلت على الخط لتعلن بوضوح علاقتها المباشرة مع جبهة النصرة وأخواتها بحيث لم يعد بإمكان بريطانيا وفرنسا الاستمرار في وضع رأسهما في الرمال. على الصعيد الميداني تعيد السلطات السورية استيراد وسائل المواجهة الجزائرية للجماعات الإسلامية في التسعينيات عبر تشكيل مجموعات عسكرية اجتماعية (Paramilitary) لتخفيف العبء عن المؤسسة العسكرية وإطالة أمد الصراع بشكل يسمح لها بتفتيت الجماعات المقاتلة المعارضة والبروز كحامٍ للدولة ووحدة الأراضي السورية وفرصة عودة الامن للبلاد. مستغنية عن المناطق النائية والمهمشة التي تتنازع عليها اليوم “جبهة النصرة” ومجموعات مقاتلة محلية وكتائب من الجيش الحر وفرق الحماية الشعبية الكردية ويغيب عنها قوة المثل الإيجابي بحيث يرتبط في الوعي الجماعي للمواطن السوري أكثر فأكثر التهجير، والقتل والخراب مع وجود المعارضة المسلحة.
في هذا الوضع تتصدر المشهد المأساوي أسئلة ثلاثة: هل تنجح جبهة النصرة في فكفكة إمكانية التوحد العسكري للمعارضة المقاتلة السورية ؟ وهل يتمكن أنصار الحل الأمني العسكري للسلطة من إمساك كل مفاتيح القرار في دمشق ؟ وأخيراً هل مازال بإمكان المعارضة المدنية الديمقراطية أن تُشكل قوة مادية قادرة على الفعل باعتبارها المدافع الاول عن الحل السياسي استنادا إلى إعلان جنيف؟
علّ هذه الأسئلة الوجودية هي التي تجعل المشهد السوري أشد قتامة من أي وقت مضى. لأن جبهة النصرة تكتسب قوتها ليس فقط من المساعدات الخارجية والضخ الدائم لها بالأجانب، وإنما من الطريق المسدود أمام مفاوضات جدية تعطي الحل السياسي المكان الذي يستحق وأنصار الحل العسكري الأمني في السلطة يتداولون بيانات وعمليات جبهة النصرة باعتبارها الداعم الاول لاستمرار نفوذهم وقوتهم في الجيش وفي البلاد.
من المأساوي أن مجموعة أصدقاء الشعب السوري لا تنظر لأبعد من أنفها عندما تصر على إعادة سيناريو (توسيع وإعادة هيكلة المجلس الوطني) الذي سبق وفشل. كذلك من الصعب مطالبة أي مجموعة عسكرية في الجيش الحر بمواجهة مفتوحة مع الجماعات المسلحة التكفيرية اليوم في غياب برنامج سياسي تجتمع عليه كتلة فاعلة وقوية من الأحزاب السياسية الديمقراطية والحراك المدني داخل البلاد بالتنسيق مع كل من التزم حتى الآن ببرنامج للتغيير الديمقراطي يؤكد على مدنية الدولة ومواطنية المؤسسات والتغيير الديمقراطي الشامل في البلاد.
لقد أصبح واضحا للعيان أن هناك مجموعات مسلحة تعتبر التسلح والقتال وسيلة من أجل غاية سياسية أرقى، ومجموعات سياسية أساسية تعتبر بأن الحل التفاوضي السياسي على أساس إعلان جنيف هو السبيل الوحيد لوقف الدمار والعنف في البلاد، إلا ان التدخلات الخارجية وقفت حتى الآن عائقاً دون قيام هذه الجبهة الواسعة القادرة على إعطاء مهمة الاخضر الإبراهيمي معانٍ عملية قابلة للتحقق كترجمة لوفاق تاريخي ملزم بين الطرفين الأقوى في المعادلة الدولية ( الفدرالية الروسية والولايات المتحدة).
فهل تسمح التناقضات الإقليمية الهامة التي نشهدها اليوم بتعزيز هذا الخيار أم أنها ستكون سبباً في زيادة العنف والدمار ؟ لعل الرد على هذا السؤال هو الذي يجعلنا نتمسك بالحل السياسي التفاوضي في هذه المرحلة الصعبة التي أصبح خيار الشعب فيها بين الفوضى الهدّامة والحق الطبيعي لكل سوري في رؤية نهاية النفق.
————————–
1) في تصريح لرياض الشقفة المراقب العام يقول: “لن نواجه جبهة النصرة ولكن سنختلف معها ونبين الخطأ من الصواب، وفي حال استمروا على موقفهم سيكون القرار للشعب السوري، وصناديق الاقتراع ستحسم هذا الجدل”. الائتلاف السوري يتمنى “على كتائب “جبهة النصرة” أن تحافظ على مكانها في الصف الوطني السوري، وأن تتابع بذل جهودها في محاربة النظام الأسدي، ودعم حرية الشعب السوري بكل أطيافه”. يبدو لمن يقرأ هذه التصريحات أن “جبهة النصرة” قد خرجت للتو عن الصف الوطني بمبايعتها الظواهري؟؟