أبريل 19, 2024

من أدولف آيخمان إلى صدام حسين مرافعة من أجل العدالة الدولية

nuremberg

شهدت الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي عملية تفكك لأهم الإيديولوجيات المعاصرة. مما ترك فراغا كبيرا في الثقافة العامة وعمليات تكوين الوعي الجماعي. كما أنه كثيرا ما سقطت مع العمارات الشاهقة لإيديولوجية ما كل الأفكار النيرة والخيرة التي أنجبتها أو كانت في صراع معها ضمن توجهاتها العامة، من مدرسة بودابست الفكرية مثلا إلى مدرسة فرانكفورت، تيار ماركس الراهن، نقاد الليبرالية والليبرالية الجديدة، الخ. بحيث عملت آليات الهيمنة الأمريكية على ضرب الموكب الإيديولوجي السوفييتي وبالمعية، الحركة الفكرية الناقدة له وللعالم. ذلك بالمعنى العام للكلمة، في عملية توطين شمولية لتصورها للحياة والكون والمستقبل، كما وضرب فكرة الاحتجاج الضرورية لكل تجديد. المبدأ في ذلك: “ليس البؤس فقط للمغلوب، وإنما لكل من لم يركب حافلة الغالب”.

في هذا الوضع، صعدت للسطح أطروحات: عنصرية قوميا، متطرفة دينيا ومتهورة عرقيا. فيها من السطحية والتبسيطية بحيث بات من الضروري استحضار مفهوم حنا أرندت حول “ابتذال الشر The Banality of Evil”. ذلك أن نقاش العديد من السياسيين والأكاديميين الأمريكيين في الدفاع عن المصلحة القومية الأمريكية في مواجهة العدالة العالمية يصب في هذا التوجه. فالثالوث المقدس لتطويعconditionnement الأدمغة في الحقبة الأمريكية المعاصرة (الخوف، الأمن والانصياع الطوعي) يبرر كل السياسات وكل المواقف. وإن لم يكن كل أمريكي موضوع حماية (وإلا ما هي مبررات الحرب على الإرهاب؟)، فالإدارة الأمريكية تضمن حماية مواطنيها (مجرمين كانوا أو أبرياء) من أي شكل من أشكال العدالة  خارج حدود السيادة الأمريكية، أما داخل الحدود، فعند “كاترينا” الخبر اليقين.

عشية الحرب الكونية الثانية، تمكنت البشرية من كسر منطق العدالة القومية وقبول فكرة المحاكم المتعددة الجنسيات. ذلك لأول مرة منذ المحكمة التي تشكلت في عام 1474 من قضاة من الألزاس والنمسا وألمانيا وسويسرا لمحاكمة بيتر دوهاغينباخ Peter de Hagenbachبجرائم القتل والاغتصاب وغيرها من جرائم انتهكت فيها “قوانين الله والإنسان” باستعمال تعبير المحكمة. تم هذا أثناء احتلاله لمدينة بريزاخBreisach. بتعبير آخر، لأول مرة في ظل الدولة-الأمة التي نشأت مع الحضارة الغربية وجعلت من السيادة قضية مركزية جرى تشكيل محكمة فوق قومية.

رغم أن محاكمات نورنبرغ كانت كالطفل المنغولي، عسكرية البزة، استثنائية المسيرة، انتقائية الهدف، فقد شكلت سابقة فقهية تعتبر العدالة قضية أقوى من الحدود وأعلى من السيادة. وبهذا المعنى، فتحت آفاقا واسعة لكل الحالمين بعدالة دولية عابرة للحدود والقارات يعتمد قانونها الجنائي على الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

يمكن القول أن الحادث المشهدي، الأكثر إثارة على صعيد عالمية المحاسبة والعقوبة في الأدبيات الغربية المعاصرة، كان ابن عملية تنتهك بالمعنى المباشر القوانين الوطنية والعرف الدولي واحترام مفهوم السيادة. باعتبار أن الجرائم الجسيمة ضد الإنسانية هي أعلى من هذه “الاعتبارات”، وبالتالي تسمح لدولة معنية بالمحاسبة في قضية لم تقع على أراضيها ولم تكن ضد سلامتها ولم تنل من مواطنيها. هذا المثل الذي نستعيده يتجسد ببساطة في عملية اختطاف لمسئول نازي كبير من على الأراضي الأرجنتينية في 1961 (خرق سيادة دولة مستقلة هي الأرجنتين) من قبل مخابرات دولة لا تقيم معها أية اتفاقيات أمنية (إسرائيل) لشخص من دولة ثالثة (ألمانيا) لمحاكمته على جرائم ارتكبها قبل قيام دولة إسرائيل. يصف أوري أفنيري هذه الأحجية بالقول: “حالة قامت فيها دولة (أ) باختطاف مواطن من دولة (ب)، وهو أصلا مواطن تابع لدولة (ج)، نفّذ جرائمه في دولة (د)، ضد مواطني الدول (هـ، و، ز) رغم أن هذه الجرائم كلها كانت قد نفذت، في حين لم تكن دولة (أ) موجودة بعد”(1).

إنها محاكمة أدولف أيخمان التي يذكّر الصحفي أفنيري الإسرائيليين بأنها: “محاكمة وافقنا عليها بالإجماع”. يومها لم تقم قائمة هنري كيسنجر على قضاء أخلاقي يحمل مخاطر عودة محاكم التفتيش (كما يقول اليوم في المحكمة الجنائية الدولية)، ولم تفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل لخرقها قواعد القانون الدولي، وخصصت الصحافة الغربية أهم رموز الفكر والقانون والكتابة لتغطية الحدث.

لكي يكون النقاش في مستوى الرهانات التي يحملها: مفهوم الاختصاص الجنائي العالمي والمحكمة الجنائية الدولية أولا، مبدأ المحاسبة بين الفلسفة والقانون ثانيا، فكرة الجريمة في البناء النفسي للبشر ثالثا، وإمكانية تأصيل عدالة عالمية فوق المصالح السياسية والاقتصادية والقومية رابعا، سنختار ثلاثة أسماء كبيرة في القرن العشرين يجمعها الثقافة والجنسية الألمانية. كما أنه أقل ما يقال فيها أنها ليست معادية لدولة إسرائيل: حنا أرندت (1906-1975)، كارل جاسبرز (1883-1969)  وماكس هوركهايمر (1895-1973). ذلك لإطلالة نقدية على ما جرى.

يعرض هوركهايمر، أحد مؤسسي مدرسة فرنكفورت للفكر النقدي، القضية بالقول: “أحد جلاوزة القومية-الاشتراكية المدعو أيخمان، المكلف بإبادة اليهود في ألمانيا والدول التي يحتلها الألمان، تم القبض عليه في الأرجنتين من قبل إسرائيليين،  واقتيد لإسرائيل ليمثل هناك أمام محكمة ويحاكم”. مضيفا : “إذا كانت المحكمة ستلفظ حكمها وفق معايير العدالة وحسب، عليها أن توقف المحاكمة لعدم الاختصاص. فكون الأسباب الشكلية للمحاكمة واهية مسألة لا يرقى لها الشك. أيخمان لم يقتل في إسرائيل، وإسرائيل لا يمكن أن تقبل بأن يصبح اختطاف المجرمين السياسيين-في المنفى الذي يعيشون فيه بالحق أو بالباطل- قاعدة عامة. العقوبة هي الوسيلة التي تفرض بواسطتها دولة معينة احترام القانون داخل حدودها بغاية الردع. أما ما عدا ذلك من نظريات العقوبة فيفضي بنا لميتافيزيقيا سيئة. قبول فكرة أن العقوبة في إسرائيل ستؤدي إلى ردع الخلفاء المحتملين لأيخمان ضرب من الجنون. ومهما يحدث لأيخمان في إسرائيل، فإن هذا يثبت عجز اليهود الواعين لأنفسهم وحقوقهم، وليس قوتهم… الأسباب الجوهرية التي قدمت لعدالة القضية غير كافية. يقولون بأن المحاكمة ستنير الشبيبة في الداخل والشعوب في الخارج حول ما كان عليه الرايخ الثالث. إذا لم يتم نقل هذا النمط من المعارف عبر أدبيات عالية المستوى وأعمال علمية متاحة لجمهور واسع ومطبوعة بلغات ذات ثقافات كبيرة، بل تم عبر الأحداث المرتبطة بالموضوع في وعي الأجيال الراهنة والقادمة، عبر وقائع المحاكمة والإثارة العالمية، في هذه الحالة ستذهب الأمور في اتجاه خاطئ… عند الشبيبة الإسرائيلية، كما أيضا عند الجماهير التي نطمح لكسبها عند الشعوب الأخرى، يجب ايقاف الشك غير الواعي بتحول الضحايا الذين سقطوا إلى وسيلة سياسية. كذلك عدم تحولهم لخدمة تكتيك أو دعاية، ولو كان الأمر لغاية وطنية مشروعة. تصبح مقاومة قوى الخير للقوى المحطِمة مشلولة عندما يتم استعمال الأسلحة الروحية المفروغ منها من قبل الخصم. المحكمة الجنائية بحسابات سياسية جزء من ترسانة العداء للسامية، لا من اليهودية. لهذا حسابات دولة إسرائيل خاطئة. الاضطهاد والقتل الجماعي يشكلان موضوعا أساسيا في التاريخ العالمي (…)”(2).

يخلص هوركهايمر في ملاحظاته النقدية للقول: “إن المؤسسة التي تريد معاقبة آيخمان دون ضرورة لذلك ستؤدي لجعله يتعرض لشيء يشّرف الموتى. إن الطبقة السياسية الإسرائيلية لا ينقصها الذكاء وحسب، بل القلب أيضا. هي لا تعرف ولا تشعر بما تفعل. إنني أعلن عدم كفاءة المحكمة وأطالب بإعادة آيخمان إلى البلد الذي اختطف منه. من محكمة كهذه، لن يخرج ما هو مفيد لا لأمن أو وضع اليهود في العالم ولا لوعيهم لصورتهم عن أنفسهم. المحكمة، إعادة: آيخمان سيسيء مرة أخرى”(3).

يمكن القول أن رأي هوركهايمر يعتمد، من الناحية القانونية، على معطيات الحقبة التي يعيشها. حيث سيادة القانون هي السلاح شبه الوحيد للأمان النسبي للأفراد منذ القرن التاسع عشر. فإذا كانت “الديمقراطية قد وجدت من أجل الأغلبية” كما يقول، حقوق الإنسان تتعلق بالأفراد، ومن الضروري احترام حق آيخمان كإنسان. ليس فقط من حيث المبدأ، ولكن أيضا من باب الحكمة السياسية. هو يدافع عن محاكمة فكرية عالمية الطابع تدخل الجريمة الجسيمة في التاريخ العالمي للبشر وليس فقط في ذاكرة أبناء الضحايا. فهوركهايمر يرفض توظيف التراجيديا الإنسانية ويعتبر المسألة اليهودية أكبر من أن تصبح في عهدة  سياسيين قصيري النظر.

أما وجهة نظر كارل جاسبرز فسيتم الاعتماد في عرضها على مراسلاته مع حنا أرندت. ذلك  باعتبارها الصيغة الأكثر عفوية وصدقا حول الموضوع، ولأنها، كما يقال، خالية من أي شكل من أشكال الرقابة الذاتية (4).

عند إعلان دولة إسرائيل، اعتبر جاسبرز الحدث الحل الأفضل للمشكلة اليهودية، كما ويعتبرها دولة اليهود وليس فقط أمة للإسرائيليين(5). وهو يصل في إعجابه بإسرائيل، أثناء العدوان الثلاثي على مصر، لتنصيبها “قوة أخلاقية وسياسية كتلك التي نشاهد عند ولادة الدول”. يقول :“ستصبح إسرائيل المحك للغرب. إذا تخلى الغرب عن إسرائيل، فسيعرف مصير ألمانيا الهتلرية التي لم تفعل شيئا ضد اغتيال اليهود. الخطر دائما حاضر. أنا أعتقد بضرورة تقدير الأعمال الإسرائيلية، معتدلة، جريئة وذكية كما هو حال أفضل الغربيين”(6). في 24/2/1957 يتحدث جاسبرز عن عظمة إسرائيل واعتدالها وحكمتها من جديد، ويهاجم الأمم المتحدة التي تبنت مفهوم العدوان على مصر. يصل في تطرفه للقول: “إزالة دولة إسرائيل تعني نهاية الإنسانية”(7).

من المفيد التذكير بهذه المواقف التي تعكس ما يمكن تسميته نقل الشعور بالذنب عند العديد من المثقفين النقديين الأوربيين وبشكل خاص الألمان. هؤلاء كانوا يحاولون، بوعي أو دون وعي، عبر الموقف الداعم لإسرائيل في السراء والضراء، وضع حد لكابوس معسكرات الاعتقال النازية وجرائم الإبادة الجماعية في أوربة. بالمقابل، رغم نشاطها في شبابها في الحركة الصهيونية، تعتبر حنا أرندت صاحبة فضل كبير في عقلنة موقف جاسبرز حيث كانت أكثر واقعية ونباهة منه. لذا لم تمتنع أن تكتب له مباشرة أن “اعتبار إزالة دولة إسرائيل نهاية للإنسانية مسألة غير مبررة حتى في الشعور” (8). وهي التي كانت تحدثه عن اللاجئين الفلسطينيين وزودته بما لديها من معلومات عن مجزرة كفر قاسم.

في بحر هذا التحول الذي كان نتيجة عوامل عدة، ليس أقلها أهمية مراسلاته مع حنا أرندت، تحرر موقف جاسبرز أكثر فأكثر من رومانسية العاشق إلى الحس العملي الضروري القريب من حنا أرندت. موقف يدافع عن وجود دولة يهودية، مع ضرورة التعامل معها كغيرها من الدول. في هذه الفترة تحديدا كانت قضية آيخمان، لذا سيكون الموقف ابن محاكمة عقلانية تذكرنا بالجامعي والباحث أكثر مما هي ابنة العواطف والمشاعر:

“تبدو لي محاكمة آيخمان مصدر قلق لأنني أخشى من أن تفشل إسرائيل في الظهور بشكل لائق بالرغم من الموضوعية التي ستحكم الحدث. فكما أن واقعة كهذه تقع خارج ما يمكن تصوره إنسانيا وأخلاقيا- كما قلت بشكل خارق للمعتاد- هناك أيضا إشكالية القاعدة القانونية للمحاكمة: نحن أمام شيء آخر غير القانون، ومن الخطأ التعبير عن كل ما يجري بمقولات قضائية. الاختطاف من الأرجنتين حدث خارج الشرعية، وإن كان مبررا من وجهة نظري، فلا يمكن أن يكون ذلك على أساس قضائي. هذا عمل سياسي، وهنا نصبح أمام مظاهر محرجة!

إسرائيل لم تكن موجودة عندما وقعت الجرائم. إسرائيل ليست اليهودية، ومن حسن الحظ أن غولدمان طرف المعادلة الآخر لبن غوريون. اليهودية أكثر من دولة إسرائيل، وهي ليست متطابقة معها. إذا ضاعت إسرائيل، فلن يضيع الشعب اليهودي معها. ليس من حق إسرائيل الحديث باسم الشعب اليهودي برمته.

وإذا ما صرح آيخمان: ها أنا، فيمكن لمصطادين مهرة أن يتمكنوا من أسر النسر. لكنكم هنا لا تتحدثون لا باسم القانون ولا باسم سياسة عظيمة. في نظر العالم والتاريخ، كما في نظري، أنتم تريدون الانتقام (الأمر المفهوم عند أناس مثلكم)، أو أنكم من التفاهة بمكان. افعلوا بي ما شئتم. لن أقول كلمة واحدة، ولن أطالب بأي دفاع. أعرف ما فعلت وإن ندمت على شيء فهو أنني لم أقتلكم جميعا.  

بالتأكيد، هذا الكائن لن يتحدث بهذه الطريقة. فهو بحكم طبيعته لا يتمتع بهذا المستوى. لكنه إذا ما تحدث بهذه الطريقة، فسيكون وضع إسرائيل مرعبا. ورغم صرخات الرأي العام وغضب اليهود، سيكون للعداء العالمي للسامية “شهيد”.

المحاكمة على الأغلب ستجري، ولن تكون محاكمة قانونية. لكن سرد وقائع تعيد لذاكرة البشرية ما حدث يعطيها معنى. استجواب شهود تاريخيين ومراكمة وثائق بهذا الحجم الهائل بشكل دقيق وبعيدا عن متناول أي باحث.

من المؤكد صعوبة حدوث كل هذا في إطار إجراءات قضائية، ولكن نظرا لكل ما يتعلق بذلك، لن يتم توضيح الملابسات إلا في حال تمكن القضاة الإسرائيليين من تنظيم الأمور بحيث تختفي كل المسائل غير الأساسية المرافقة. عندها يمكن أن تحرز نجاحا كبيرا. أنا خائف لأنني أخشى من الخسائر على إسرائيل. ولن يتم تجنب هذه الخسائر إلا إذا تمكن القضاة من تطوير سلوك غير متوقع، ولا يمكن بناءه بشكل عقلاني يتجاوز الآفاق القضائية ليثبتوا للعالم أجمع بأنهم بشر يفكرون. كما أن الصحافة الإسرائيلية، أو على الأقل الصحف الكبيرة، يمكنها أن تفعل ذلك. وأخشى أيضا أن لا تقود تأملات فذّة ونقاشات معقدة إلى الضياع في اللانهائي، وأن لا يكون غياب البساطة سببا في تغييب العظمة الإنسانية الضرورية للتعامل مع هكذا وقائع. نحن بحاجة لروح أنبياء الماضي الكبار كعاموس وأشعيا، ولا يمكننا انتظار ذلك من الأرثذوكسية اليهودية. كما لا يمكننا انتظاره من ذوبان اليهود في القوميات الحديثة (أو من الاستغناء عن اليهود من أجل إسرائيل) أو من بعض تعبيرات الذكاء الخارق للمعتاد.” (9)

في نهاية رسالته لحنا أرندت المؤرخة في 14/12/1960، يعرب جاسبرز عن مخاوفه من أن تكون المحاكمة مصدر إحباط وتمرد لصديقته هذه ومن عواقب سلبية يمكن أن تعود بالضرر على إسرائيل.

بعد يومين على هذه الرسالة، كتب كارل جاسبرز رسالة أخرى يقول فيها:”محاكمة آيخمان تشكل فعلا قضية فظيعة. والطريقة التي ستدار بها ستترك آثارا ليس فقط على إسرائيل بل على العالم أجمع: سواء كأنموذج أو كأنموذج مضاد antimodèle، كسابقة في طريقة التفكير والفهم. لقد قلت لك بأن المحكمة قائمة على أسس غير صحيحة. الآن لدي فكرة جنونية ومبسطة قليلا: سيكون خارقا للمعتاد أن يتم وقف الإجراءات القضائية لحساب إجراءات تحقيق وكشف وقائع، بغاية أكبر قدر من الموضوعية للوقائع التاريخية. النتيجة النهائية لا تكون حكما يصدر عن قضاة، وإنما تأكيدات تتعلق بوقائع الجرم، قدر ما يمكن تحصيلها. من ثم، تعلن إسرائيل بأنها غير راغبة في إصدار حكم، لأن الأحداث تتجاوز الحدود القضائية لدولة واحدة. أكثر من ذلك، في الوضع الحالي يمكن لإسرائيل أن تصدر حكما لحسابها. ولكن المسألة ليست كذلك. هذه القضية تعني البشرية. تقدم إسرائيل الوقائع والمجرم لمن؟ للأمم المتحدة؟ الرد المحتمل: لا أحد يريد تناول هذه الحالة. نحن هنا أمام عنصر جديد سيترك آثاره البالغة على الأمم المتحدة ويخلق حالة ارتباك لتصور الرأي العام للعدالة والكرامة البشرية. فالأمر لا يتوقف عند الاعتبارات القضائية”.

يمكننا هنا أن نتابع ولادة فكرة محكمة جنائية دولية عند مفكرين كبار عبر نقاش سياسي وفلسفي معمق، المنطلق فيه هو الطريق المسدود لمحكمة وطنية في جريمة ضد الإنسانية، أو سقف وحدود المحاكم الوطنية في الجرائم الجسيمة كجرائم الحرب والإبادة الجماعية والعدوان والجرائم ضد الإنسانية. السيناريو ستقترحه حنا أرندت في ردها على جاسبرز في 23/12/ 1960 بالقول: “لنعد لفكرة محكمة عدل دولية، أي الإجراءات التي يمكن أن تؤدي إلى قيام مثل هذه المحكمة. هكذا مبادرات ليست جديدة، وقد حكم عليها بالفشل حتى اليوم، بسبب مقاومة الجمعية العامة. الإمكانية الوحيدة تبدو لي بأن يضاف لمحكمة العدل الدولية في لاهاي محكمة للجرائم ضد الإنسانية hostes humani generic. محكمة تحاكم الأفراد مهما كانت جنسيتهم. وما دامت هذه الوضعية غير قائمة، فإن كل محكمة تمتلك الصلاحية، باحترامها لمبادئ  القانون الدولي (…) أنا مع محكمة دولية للعدل تمتلك صلاحيات كهذه” (10)

من الواضح أن أرندت، وتبعها في الرأي جاسبرز، كانت أيام المحكمة تتبنى فكرة الاختصاص الجنائي العالمي للمحاكم الوطنية، لكن تفضل عليها قيام محكمة جنائية دولية. أما جاسبرز فيطالب بأن يتوقف دور القضاء الإسرائيلي عند تقديم الوقائع والاحتفاظ بالمتهم دون إصدار أي حكم. ذلك باعتبار حكم كهذا من اختصاص محكمة عدل دولية تابعة للأمم المتحدة لها صلاحية المقاضاة في الجرائم ضد الإنسانية (رسالة 14/2/1961).

ليس الرابط بين حنا أرندت وآيخمان ببسيط. وإن كان كلاهما ولد عام 1906، يصعب التعرف على معالم مشتركة في شخصيتهما. امرأة أحبت في ريعان شبابها أستاذها مارتن هايدغر في ثورة على التقاليد، وضابط أحب الفوهرر في مزاودة غير مشروطة، إن لم نقل عمياء، في أسوأ التقاليد البيروقراطية. هي بحثت عن المعرفة عند الآخر (ين)، بينما كان هو أسير فكرة تفوق معرفي وعرقي مفترض. هذه المرأة أعطت خير ما عندها لتفكيك جنوح السلطة، أما هو فأعطاها فرصة لا تفوت لاكتشاف فضيحة أخرى اسمها جنوح الطاعة abus d’obéissance.لم يجل بخاطرها، عندما كلفتها مجلة “نيويوركر” بتغطية محاكمة آيخمان كمراسلة صحفية، أنها ستثير زوبعة هامة في حياتها: مواجهة مفتوحة مع وسط لم تجعل يوما معركتها معه أو عبره. لكنها كانت تعرف جيدا أن الحياة محطات ومواقف، وكانت لديها الجرأة الكافية كي لا تكون مجرد مراقب عادي لوقائع جلسات محكمة.

من نافل القول أن هذا الاختيار لا يقع ضمن ما يمكن أن يسميه “محترفو صناعة الهولوكوست”، تصيّد باحث عربي في ماء اللا سامية العكر. فما يهمنا بالضبط، ليست النقاط التي أثارت ثائرة اللوبي الموالي لإسرائيل والمؤسسات الصهيونية واليهودية، بل قدرة حنا أرندت الأصيلة على الانتقال من التمركز حول الضحية إلى تحليل شخصية الجلاد. هذه العلاقة بين مفهومها لابتذال الشر والمفهوم الإسلامي (النفس أمارة بالسوء) والفرويدي (رفض مبدأ الطبيعة الخيرة) وملاحظات ميشيل فوكو في الانصياع الطوعي (هذا القسم سنخصص له بحثا مستقلا). وأخيرا، وهذا مربط الفرس، قدرتها على تقزيم التعامل الوطني مع الجرائم ضد الإنسانية، وأسلوبها الأصيل في التوصل إلى ضرورة قيام محكمة جنائية دولية.

في نقاشها مع جاسبرز، تستعرض حنا أرندت الحجج الإسرائيلية الرسمية للترويج للمحكمة الآتية: لقد حدث خطف شخص محكوم من قبل محكمة نورنبرغ، وتم إخراجه من الأرجنتين كون هذا البلد يأوي رقما قياسيا من قدماء النازيين، ولم يقم يوما بتسليم أي مطلوب رغم مناشدات الدول المنتصرة والأمم المتحدة، لم تطلب منا ألمانيا استلام مواطنها، وأخيرا، في الأوضاع الحالية كان ما قمنا به الخيار الأفضل. تتناول حنا أرندت مختلف السيناريوهات المحتملة للتعامل مع مجرم ضد الإنسانية. فتطرح مثل شالوم شفارلزبالد، الذي اغتال في باريس أحد أهم المسئولين عن مذبحة اليهود (Pogrom) في أوكرانيا في العشرينات ثم سلّم نفسه لأقرب مركز للبوليس. يومئذ استمرت المحاكمة سنتين وكانت فرصة للتعريف بالمذابح التي وقعت في أوكرانيا. وقد أصدرت المحكمة حكما بالبراءة على القاتل. كانت باريس، تنوه أرندت، “تتمتع بفقه قانوني متقدم يسمح بكل عناصر محاكمة عادلة يتابعها الرأي العام، أين هذا من بوينس أيرس؟ لكن بنفس الوقت، هل من المفترض أن يحوّل الفراغ القضائي ما حدث في القدس إلى مجال للدعاية والكذب؟ كيف يمكن أن نذهب مع الحكومة الإسرائيلية لتصديق أن آيخمان قد جاء بملء إرادته (تعذيب؟ مجرد تهديد؟ الله وحده يعلم تفاصيل ما فعلوا به)” (11). بعد ذلك تعود لمناقشة موضوع مركزي، هو عجز المصطلحات القضائية والمقولات السياسية عن تناول الموضوع بشكل مناسب. الأمر الذي يجعل من فكرها السياسي وفلسفة العدل في أعماقها ما يوصلها إلى ضرورة إدماج الجرائم ضد الإنسانية في التشريعات القضائية الوطنية (ما نسميه اليوم الاختصاص الجنائي العالميUniversal jurisdiction) (12).

في كتابها “آيخمان في القدس”، تستعرض أرندت المحاكمة بتفاصيلها الصغيرة: من القاعة إلى وصف المتهم إلى رواية القصة من معسكرات الاعتقال، القتل الجماعي، الترحيل نحو معسكرات الموت من أوربة الغربية والشرقية والوسطى، وصولا للشهود والحكم. يرافق ذلك وقفة عند كل حدث رمزي، كل واقعة ذات دلالات ودروس من مثل: قضية تعامل يهود مع الرايخ الثالث لقتل اليهود(التي أقامت القيامة ضدها)، مبدأ احترام القانون في دولة مجرمة، اللحظات الأخيرة قبل الإعدام لشخص يصر على قيامه بواجبه كمواطن باحترام القانون ولا يمتنع عن الاستشهاد بصورة تراجيدية بعمانوئيل كانت لتبرير هذا السلوك. كذلك، ما هو حجم الشعور بالذنب؟ هل يمكن الحديث عن براءة المتهم؟ هل كانت المحكمة عادلة؟ ما هي شخصية المجرم؟ وما هي الجرائم التي لا يفترض ارتكابها، رغم جسامتها، شخصية باثولوجية؟ بل لم تمتنع أرندت عن القول: “كان من الواضح للجميع، مهما كانت أقوال النائب العام، أننا لسنا أمام “وحش” ولم يكن بالإمكان إلا أن نفكر بأننا أمام مهرج”(13).

إن نواقص المحاكمة، التجاوزات، الإشكاليات، ما سمته صحيفة “الموند” الفرنسية بعد ثلاثين عاما مع صدور طبعة جديدة لكتابها: “حرية النبرة والفكر التي تثير الفضيحة”، كلها لا تنسي الباحثة أن هذه المحاكمة واحدة من مثيلات لها منذ نورنبرغ (سيتبعها عدة حالات في فرنسا وأوربة).

إن كانت معضلة الحاضر قد تم تفكيك عناصرها، من الضروري التذكير بجملة الإشكاليات التي طرحتها هذه القضية، وبشكل أساسي ثلاثة اعتراضات توردها أرندت :

1-  الاعتراض الذي واجهته محاكمات نورنبرغ وتم الوقوع فيه من جديد، حيث يحاكم آيخمان وفقا لقوانين صدرت بعد الوقائع وأمام محكمة الغالب.

2-  الاعتراض على محكمة القدس بوصفها كذلك، فهي لا تملك صلاحيات المحاكمة ولم تأخذ بعين الاعتبار أن المتهم قد وقع خطفه.

3- الاعتراض الأهم يتعلق بلائحة الإتهام، حيث كان من المفترض أن يحاكم آيخمان لارتكابه جرائم ضد الإنسانية وليس لارتكابه جرائم ضد اليهود. أي مرجعية القانون الذي حوكم بموجبه. هذا الاعتراض يقودنا، تقول أرندت، مباشرة إلى الاستنتاج التالي: لمحاكمة هذا النوع من الجرائم، وحدها محكمة دولية تملك الصلاحية.

 ليوم، وبعد أن أعادنا منطق الحادي عشر من سبتمبر إلى الوراء عقودا زمنية بالمعنى الفكري والحقوقي، يشعر المرء بعظمة الكبار وحجم الكارثة التي أصابتنا مع عولمة حالة الطوارئ.

فبعد كل المخاضات الفلسفية والسياسية والحقوقية التي جعلت فكرة إقامة العدل، باستعارة تعبير محمد حافظ يعقوب، “بالتعامل مع الإنسانية كلها بما هي وحدة متكاملة أو متضامنة، وليس مع فئة مخصوصة منها فقط. أي تأصيل فكرة تجاوز العدالة تخوم الحدود السياسية وكل الإشكاليات التي تتصل بها”. بعد قيام محكمة جنائية دولية- لم تستجب لدواعي الحلم، ولكن بالتأكيد تشكل حالة تجاوز نوعي للماضي-، ها نحن أمام إدارة أمريكية تجعل من هذه المحكمة عدوا لا يقل خطره عن تصورها لمخاطر الإرهاب. ذلك في عملية إعادة اعتبار منظمة للتسلط. التسلط بمعنى كسر العهد الأخلاقي والعقد الاجتماعي والأعراف الحقوقية الدولية.

ينخفض هنا النقاش من مستوى هاجس الأنسنة إلى مستوى الحسابات السياسية الآنية والمصالح الاقتصادية القصيرة النظر واستراتيجيات الهيمنة. وندخل في تفاهة الإخراج المسرحي لاعتقال صدام حسين، تقديمه للمشهد الإعلامي شبه مخدر يبحث عن القمل في رأسه، احتفاظ القوة المحتلة به، تنصيبها لقضاته، واختيارها لمواضيع مقاضاته، تصويره في الزنزانة شبه عار في تمزيق لحرمة السجن والسجين. يضاف لذلك مطالبة الحقوقيين والديمقراطيين بالتحول إلى شهود زور في حلبة اغتيال الضمانة الأقوى للديمقراطية (القضاء!)..

المهرج، بالمفرد والجمع، لم يعد في قفص الاتهام وحسب، بل في أعلى مناصب القرار لمستقبل العالم. البحث يجري في تعليمات تصدرها وزارة الدفاع لتحل محل اتفاقيات جنيف، عن قرارات لمجلس الأمن تستثني جنود دولة واحدة من المثول أمام العدالة الدولية، واتفاقيات ثنائية تلزم أشباه الدول الواقعة في فلك القوة الأعظم بوضع الولايات المتحدة الأمريكية خارج نطاق المحكمة الجنائية الدولية.

الدرس الذي خرجت منه حنا أرندت في مشهد آيخمان هو ضرورة قيام محكمة جنائية دولية وكذلك فكرة “ابتذال الشر“. أما أول دروس المأساة التي أوصلتنا لها حروب الحادي عشر من سبتمبر، فهو ضرورة بناء جبهة عالمية للدفاع عن مؤسسة فكرتها الرئيسة ومصدر شرعيتها أنها ولدت من أجل أعضاء الأسرة البشرية جمعاء. كذلك، فكرة أخرى تقول بأن زمن الأقزام يمسخ الأحلام الكبيرة لحساب رداءة الغالب lamédiocrité du vainqueur.

D’Adolf  Eichmann à Saddam Hussein Plaidoirie pour une justice internationale

 ملاحظات

1)  أوري أفنيري، لا عليكم، كلوا الشوكولا، 22/2/2003. الترجمة العربية للمقال.

2)Max Horkheimer, Notes critiques sur le temps présent, Payot, 1993, pp. 188-189

3)Ibid, 190-191.

4)Hannah Arendt, Karl Jaspers, Briefwechel,Hans Saner, 1985. Traduction française (Correspondances) Payot et Rivages, 1995. Toutes les citations de la traduction française.

5)Ibid, voir l’introduction  p. 14.

6)Ibid, p. 426.

7)Ibid, p. 430.

8)Ibid, p. 432.

9)Ibid, p. 555-556.

10)Ibid, p. 562

11)Ibid, p. 562

12)Ibid, p. 564

13)Hannah Arendt, Eichman à Jérusalem, Rapport sur la banalité du mal, Gallimard, 1997, P. 93-94.Ibid, pp. 410-411

11/9/2005