الحلقة الثامنة: المحكمة الجنائية الدولية
إن كان القرن العشرين قد أرخ لرسم المعالم الأولية وقدم الوسائل الأساسية للوصف والتحليل والتقييم والنقد والبحث عن سبل الحماية في مجال حقوق الإنسان، فإن الطموح في القرن الواحد والعشرين يتجه نحو جعله قرن الانتقال من مجرد الشجب إلى المحاسبة.
نوقشت فكرة محكمة جنائية دولية مؤقتة منذ قديم الزمان، ووفقا لمعارفنا الحالية ثمة آثار تعود للقرن الخامس قبل الميلاد. ولم يصل البشر لصيغة واسعة متعددة القارات والثقافات حتى القرن العشرين، وبعد المحاكم الجنائية الدولية ad hoc أي المحدودة في الزمان والموضوع، التي كانت حصيلة قرار من الأمم المتحدة في التسعينات، لم يسدل الستار عن القرن الماضي إلا باتفاق أغلبية دول العالم على قيام محكمة جنائية دولية دائمة في حدث مس في الصميم، الأبعاد الفلسفية والقضائية والأخلاقية والسياسية لموضوعة الإفلات من العقاب.
لقد ترافقت هذه المسيرة الطويلة بظروف حرب وسلم، صراعات دولية وأخرى إقليمية، تناقضات في المدارس القضائية الجنائية ومحاولة البحث المشترك عن قواسم عالمية، ويمكن القول، أنه وحتى اليوم، مازال الكيان السياسي العسكري الأقوى في العالم (الولايات المتحدة) والكتلة البشرية الأكبر (الصين الشعبية) خارج نطاق التصديق على المحكمة الجنائية الدولية ومازالت معركة ولوج فكرة العدالة الدولية في الوعي العام في خطواتها الأولى الباحثة عن النفس.
ليس على أنصار المحكمة الجنائية الدولية أن يتصورونها أو يصورونها مهدي العدالة المنتظر، فهي تخضع للخطأ والصواب بالضرورة وقد حمت الدول نفسها بوضع مجلس الأمن طرفا متربصا في إجراءاتها. وبحكم كل الملابسات التي أنجبتها وظروف الولادة، فهي تشبه حالة طفل شبه مرفوض شبه اضطراري ولا يمكن التقليل من قوة خصومها فهم أصحاب الخلل الأساسي في عملية صياغة العلاقة بين القوة والعدالة في عصرنا. لذا لا يحق لنا امتلاك أي إحساس بقوة العدل الدولي مادام كل شياطين “النظام القديم” وتعبيرات الهيمنة الأحدث تقف بالمرصاد لهذه الحقبة التاريخية الجديدة الواعدة في القانون الدولي التي تسمح، ولو نظريا، بوضع ملفات المحاسبة في الجرائم الجسيمة والفساد على طاولة البحث.
إن ظروف إعادة رسم موازين القوى على الصعيد العالمي تخلق وضعا صعبا وحساسا يبرز فيه التناقض بين ازدياد الوعي الحقوقي الجنائي الدولي وآليات المحاسبة، كذلك يطلق العنان، بشكل مباشر أو غير مباشر، لأطراف قوية حريصة على تثبيط سيرورة بناء منظومة محاسبة دولية تنسجم مع حجم الإنجازات المعاصرة. ورغم كون العالم العربي من أكثر بلدان العالم حاجة لتطوير منظومته الجنائية الدولية، مازالت الحركة الحقوقية لدعم مفهوم المحاسبة في القانون الدولي ضعيفة ولم يصادق حتى اليوم على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية سوى الأردن وجيبوتي. ومازال الإفلات من العقاب قاعدة عامة.
لا بد من قواعد سليمة لأية محاسبة محلية أو دولية، ومن الضروري احترام حقوق أعداء الحقوق لكي تصبح هذه الحقوق القاسم المشترك الأعلى للناس، بضمان المحاكمة العادلة للجلاد كيلا تتحول الضحية إلى جلاد جديد. لا بد من امتلاك النظرة النقدية التي تسمح ببناء منظومة مرنة تتعلم من الخبرة الإنسانية وتطلق العنان باستمرار لكل فكرة خلاقة وممارسة أرقى ودرس جديد من دروس الحياة.
إذا تصورنا أن تطبيق الاختصاص الجنائي في بروكسل أو مدريد أو المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية قد أرخ لحقبة جديدة بكل معاني الكلمة فنحن ضحية تفاؤل مبسط: ففي عالم ينتمي بتقاليده لما قبل الحقبة التي تمثلها المحاسبة العالمية، سنواجه كل يوم مشاكل أساسية مثل هشاشة وضع الضحايا وعدم توفر الحماية اللازمة لهم، قوانين العفو المحلية الكريمة بحق الجناة، كون الدولة بمنطقها حريصة على نجاة من خدمها، فكرة رفض تسليم المجرمين، مبدأ زوال الجريمة بالتقادم أو وقوعها قبل مفهومنا الحالي لها، أي عدم سريان القانون بأثر رجعي، الحصانة السياسية والدبلوماسية المثبتة في أكثر من نصف دساتير العالم لأصحاب القرار في الحرب والسلم، مشكلة التعويضات.. أمام كل هذه المشاكل “العادية” في حقبة الانتقال التي نعيشها، ثمة أيضا مشاكل جيو سياسية تزيدها تعقيدا: فتحديد المسئولية الجنائية لمرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان يمس في الصميم النظام العولمي الحالي. وهو يعني رفض مبدأ تربع الأقوى فوق القانون. الأمر الذي يناهضه هذا الأقوى ببناء منظومة موازية قائمة على الاتفاقيات الثنائية التي تهمش صلاحيات وسقف وامتداد المحكمة الجنائية الدولية. الكل يذكر كيف أصرت الأطراف الأقوى على أن لا تعتمد المحكمة الجنائية الدولية وحسب على مبدأ القضاء الواقف والقضاء الجالس، الإدعاء العام والمحاماة. بل وضعت بينهما ما يمكن تسميته بالمقرفص المتربص (أي مجلس الأمن)، لكي يكون هناك نوع من “حق الفيتو” في الوقت المناسب للحؤول دون ذهاب العدالة إلى آخر الشوط الذي سينال بالتأكيد مقومات الظلم المعاصرة، وليس فقط صغار الحيتان. الأمر الذي يعيدنا إلى السؤال الأزلي حول محاسبة الدول ومحاسبة المجتمعات، ومبدأ مقاضاة الغالب والمغلوب. فكما أن ظلم الناس من قبل أجهزة الدولة استلزم البحث عن آليات عقاب لمن هو مسئول عن الجرائم، طرحت المجتمعات البشرية حلولا عديدة من قبل المجتمع للرد على الظلم أو الفساد. وقد تداخل الأمر بين العقيدة والمحاسبة فعرف التاريخ الإسلامي مبدأ الحسبة والتاريخ المسيحي مبدأ المحاسبة، وعرفنا في الأزمنة الحديثة أفراد وجماعات تطرح على نفسها مهمة إقامة العدل، من فرد ينصب نفسه “روبن هود المحاسبة” إن صح التعبير le justicier إلى جماعات تستعمل الفكرة بشكل مشوه يخلق حالة حذر عامة من مجرد العودة للفكرة الجبارة لمحكمة برتراند راسل.
مع إعلان حالة الطوارئ على الصعيد العالمي إثر 11 أيلول (سبتمبر)2001 ، أدخلنا منطق “الحرب ضد الإرهاب” في ثنائيات مدمرة للمحاكمة العقلية والمنطق الحقوقي، وصرنا من جديد بحاجة لإعادة اكتشاف ليس فقط المفهوم القضائي للإنسانية والحرب والعدوان، وإنما أيضا، الهامش الذي سمح ويسمح البشر لأنفسهم باستعماله في ظل القاعدة اللاتينية الشهيرة “الضرورة لا تعرف أي قانون” necessitas legem non habet. فما من حرب إلا وشرع أصحابها لها من منطلقاتهم الذاتية، ومنذ لحظة الاكتفاء بمبدأ إدارة الظروف الإنسانية للحروب، وليس رفضها من حيث المبدأ، ثمة قبول ضمني باستمرار لما يعرف منذ 1899 بجرائم الحرب. إلا أن قانون نيوتن لا يعمل فقط في العلوم التطبيقية بل يتعداها للأوضاع الإنسانية، وكما يقول جيورجيو أغامبن Giorgio Agamben “في حق المقاومة كما في الحالة الاستثنائية، الرهان الأساسي يتمركز حول إشكالية المعنى القضائي لمجال الفعل خارج نطاق القانون“. بهذا المعنى، لا يمكن للحالة المسماة بالأمن أن تكون وليدة المعالجات القهرية، ولا يمكن للحلول الواقعة خارج نطاق القانون الدولي إلا أن تعزز أوضاعا خارجة عن القانون والعرف الدوليين.
في هذه الضبابية، لا يمكن للمحاسبة أن تعزز كرامة وحقوق الإنسان، إلا إذا أسهمت في تحرير الناس من عمى السلطان وعنجهية القوة والرؤى الذاتية الضيقة. باعتبارها خطوة ضرورية، لتحررهم من ثقل الإيديولوجية والثأر وتصفية الحسابات التاريخية والمعاصرة والحرص على بناء الغد عبر المعالجة العقلانية، العادلة والحكيمة لجرائم الأمس واليوم.