أبريل 19, 2024

حرية التعبير

H7الحلقة السابعة: حرية التعبير

حققت حادثة الرسوم المسيئة للرسول الكريم تعبئة شعبية لا سابق لها في العالم الإسلامي وخارجه. ويحتاج تقييم الكتابات والمنتديات والمؤتمرات التي وقعت حتى اليوم لتناول مستقل لمناقشة موضوع في غاية الأهمية هو قدرة العرب والمسلمين على الاستفادة من الهبات التلقائية والتعبئة في صفوف العامة للحصول على مكاسب تتناسب مع التحرك، بحيث يمكن الربط بين القضايا والانتقال من الرمز إلى الجوهر. بتعبير آخر، هل تمكن الدعاة الكبار من ربط قضية الرسوم المسيئة بقضايا مسيئة لا يمكن فصلها عنها، تمس العقيدة كما تمس كرامة الناس( مثل احتقار القرآن الكريم في غوانتانامو، حصار المسجد الأقصى وتهديد بنيانه، الاعتداء على الأماكن المقدسة في العراق، الربط بين الإساءة للعقيدة والإساءة لحاملها/الإنسان،..) إلى غير ذلك من أسئلة تضع على المحك القدرة على عقلنة وترشيد عمليات التعبئة بحيث لا تنحصر ثم تنحدر إلى استجواب حول الموقف من اعتذارات هذه الشركة أو ذاك المسئول؟

من جهة ثانية، لا تقل أهمية بحال، جاءت حادثة الرسوم المسيئة هذه، لتعيد فتح النقاش واسعا حول مفهوم الحريات الأساسية والحقوق على الصعيد العالمي. ونسبية المفاهيم والصلة الوثقى بين الحق والواجب، وبين حق الذات واحترام الآخر. فهل يقبل المسلمون باسم ما حدث تقييد حرية التعبير المكبلة أصلا في البلدان العربية والإسلامية؟ وهل نعطي ذريعة للأنظمة التسلطية بإبقاء أنظمة رقابتها وسيطرتها على وسائل المعرفة والإعلام؟

 لكل حادثة معان ودلالات تتعدى مجرد المقاربة التآمرية.  فلا يمكن صناعة قضية من العدم. وحتى عندما يحدث ذلك، لا بد من متابعة الأسباب والآليات التي حولتها إلى قضية وقضية مزمنة كما أوضحت ذلك مؤخرا محاضرة بابا الفاتيكان والجعجعة الدانمركية الأخيرة.

هل هي الغيرة على حرية التعبير؟ أين كانت هذه الغيرة عندما أغلق تلفزيون أكراد تركيا أو محطة المنار؟ أين منّا تلك الغيرة التي تصمت بشكل مخجل عن اعتقال صحفيين أبرياء كسامي الحاج في غوانتانامو وتيسير علوني في مدريد؟ لم لا يحتج أنصار المفهوم الغربي للحرية على الاعتقال الدوري لعصام العريان في مصر

أين هي الغيرة التي لا تعطي في الصحافة الأوربية والأمريكية حيزا يذكر لكارثة اغتيال واختطاف الصحفيين العراقيين من كل الأطراف المشاركة في الصراع على العراق.

 أمام قراءة المزايدات اللفظية في حرية التعبير لا يمكن إلا استحضار جملة الصديق منصف المرزوقي حين يقول: “يخايل إليك وأنت تقرأ من يلعب ورقة هذه الحجة أنهم يسخرون من ذكائك …أو من إطلاعك على جملة المبادئ التي أسست  لحرية تؤطرها قوانين تمنع الثلب والتحقير والافتراء وتعاقب عليها. فلا وجود في أي من البلدان الديمقراطية لمبدأ حق في المطلق وحرية غير مشروطة”.

حققت ثورة الاتصالات تواصل العالم مع العالم بلا حدود. ففي أكثر المناطق محافظة واحتشاما يمكن لمراهق أن يتابع على الفضائيات أفلاما جنسية خليعة، وفي أكثر المناطق علمانية يمكن متابعة البرامج الدينية الأكثر محافظة دون الخروج من المنزل. العالم يكتشف في كل يوم نقاط تشابهه واختلافه، بشكل فوضوي وعشوائي، دون ضوابط ونواظم، قانونية كانت أم أخلاقية. وفي هذه الفوضى ومنها، يشعر كل مشارك بأنه طرف كامل العضوية في الفعل الثوري ألمشهدي, وبالتالي قادر على استعماله وتوظيفه، إن لم يكن كمالك لوسيلة الإعلام، ففي الحد الأدنى كموضوع لها.

عالم جعلنا حتى أمسٍ قريب نعيش مع عقدة اسمها الرقابة، باتت في أعماق كل مفكر حر أقوى من عقدة أوديب، ومع نظم رأي الآخر وموقفه في ثنائية الأفضل والأسوأ، الخير والشر، الديمقراطية والإرهاب، الثورة والثورة المضادة، الخ..  ثنائيات جعلت العدو شرطا من شروط الدينامية الثقافية والسياسية والاقتصادية بالمعنى الأسوأ للدينامية. هذا العالم يجعلنا نضطرب اليوم في هذا التشابك الحاد بالسلاح الأبيض والأسود بين أزمة الحضارة وطموحات من هم خارجها بهدف إعادة صياغة العلاقة بين الحضارات والثقافات.

لم يكن لهذا العالم أن يقدم لنا خيرات ثورته المعرفية ببراءة الأطفال ومثالية ثوريين أصبحوا جزءا من رومانسية التاريخ. لذا توظفت ثورة الاتصالات لخدمة منظومة اقتصادية سائدة ومنظومة معرفية مهيمنة. كما وأصبح الدفاع الثقافي الذاتي يحمل معالم مقاومة الهيمنة الثقافية والاقتصادية ورفض الخضوع لصورة نمطية للعالم تفرض على الجميع.

في كتابه “الروح الطارق” يذكّر الشاعر المصري جورج حنين بأوربة البائسة مرتين. يعنينا هنا أن نتوقف عند المرة الأولى، عندما كافحت أوربة هذه الشرق وهو يمثل فرصة سانحة للعظمة.. يدوّن مؤرخو الأديان أن أوربة التي فضلت قرونها الوسطى على حضارة العرب كانت تقّدم رسول الإسلام في صورتي نبي العنف ونبي الشهوة. هل بالصدفة أن تتكرر هذه الصورة في مسابقة تنظمها صحيفة لقرائها من أجل رسم تعبيري عن شخصية الرسول الكريم وفي استشهاد السيد البابا؟ هل هي الوعكة المعاصرة للحضارة الغربية التي بدأت بالرغبة الجامحة لعالمية قيمها وتكاد تعد نعشها بانتكاس مصادر إلهامها إلى الصورة السلبية المتعالية في التعاطي مع الآخر.

الآخر ليس، ولا يمكن أن يكون حتى في أحسن أحواله، كتلة بشرية متجانسة ومتماسكة تعبر عن الوحدة الأسطورية للأمم. نحن أمام صهاريج ثقافية هائلة. وهي إن كانت تحمل عناصر مشتركة ومختلفة عن النسق التقليدي الذي تسير فيه العولمة الثقافية، فلا شك بأنها تضم كل عناصر الخضوع والثورة، التلقيح والعقم، التأثير والتأثر، التعبئة والانفجار العشوائي، القوة والضعف.. أليس من المثير للتساؤل أن تكون المناطق الأكثر تأزما بالمعنى الجيو سياسي هي المناطق الأكثر عنفا في رد فعلها وتعاملها مع أزمة الصور المسيئة؟

لكن كيف يمكن أن ندخل في منطق مواجهة رمزية بين الكل الإسلامي والكل الأوربي في فترة لا يمكن لعاقل أن يبصر مخرجا عمليا من الهيمنة الأحادية القطب للعالم بدونهما؟

في الدين كما في السياسة، لا ضير من توظيف حدث للدعاوة والتبشير، وليس لأحد الحق في مواجهة ذلك. الخطر الذي نحاول التنبيه إليه، هو أن يسقط البعض في منطق صراع الحضارات الذي يجعلنا نخسر معسكرا واسعا من غير المسلمين يناضل معنا كل يوم من أجل التكامل والتفاعل والحوار البناء بين الحضارات والتضامن بين المجتمعات المدنية على الصعيد العالمي.

21-02-2009