الحلقة الرابعة: في مفهوم العقوبات
شكلت التسعينات من القرن الماضي أهم سنوات التأمل الحقوقي والمدني حول مفهوم العقوبات. فهذا المفهوم، الذي نشأ بادئ الأمر باعتباره العقوبة الأقل عنفا لم يلبث أن تحول، مع العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على العراق، إلى إجراء لا إنساني ليس له أية فاعلية تذكر في بقاء أو سقوط السلطة السياسية المستهدفة. من هنا جرت نقاشات عميقة وواسعة في صفوف المجتمعات المدنية في العالم، كانت محصلتها فك الارتباط بين المنظمات الجدية والمستقلة لحقوق الإنسان وبين مفهوم العقوبات الاقتصادية إلا في حالات جد خاصة، لا تترك هذه العقوبات فيها أثرا على الحقوق الأساسية للناس. وبالتالي أصبحت العقوبات عند التيار الأهم والأعمق في الحركة الدولية لحقوق الإنسان، قبل سقوط بغداد، مرفوضة حقوقيا وأخلاقيا.
يمكن تعريف العقوبات بالقول : هي قطع أو التهديد بقطع العلاقات الاقتصادية بين الدول بهدف التوصل إلى تغيير في تركيب أو مواقف أو سياسيات البلد أو المجموعة المستهدفة. ويمكن للعقوبات أن تأخذ صيغا عديدة تشمل : حظر الاستيراد أو التصدير أو كلاهما، تقييد المبادلات المالية، وقف المساعدات العسكرية أو الاقتصادية، تقييد السوق المالية، الخ. وهي تطبق من جانب دولة واحدة أو عدة دول عبر هيئة إقليمية أو دولية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوربي، جامعة الدول العربية..). والعقوبات على نحو “نموذجي” توقف التجارة والاستثمارات وتمنع البلد المستهدف من بيع و شراء البضائع في السوق العالمية. كما أنها قد تستهدف سلعاً معينة كالسلاح والنفط، ويمكن لها أن توقف الملاحة الجوية، أو أن تقطع مؤقتاً أو أن تقلص بشكل حاد العلاقات الدبلوماسية، أو أن توقف حركة الأشخاص، أو أن تمنع الاستثمارات أو أن تجمد الأرصدة في المصارف الدولية.
عرفت البشرية العقوبات الاقتصادية منذ ثلاثة آلاف عام على الأقل، سواء في ظروف المواجهة الداخلية أو كسلاح للضغط والهيمنة تستعمله الدول في سياستها الخارجية. ورغم أن العقوبات هي إجراء يتخذ من حكومة أو حكومات بحق دول أو أطراف متمردة، فالأمر لا ينحصر بالسلطات السياسية فقط. إن العديد من وسائل الضغط في الصيغ الأدنى من الدولة (لوبي معين، تعاطف شعبي مع قضية، قوى اجتماعية وسياسية الخ) أو الأوسع من حدود الدول (الشركات المتعددة الجنسية، البنك الدولي، الهيئات بين الحكومية) تؤثر في اتخاذ أو استمرار قرار بالعقوبات.
لقد استعملت عصبة الأمم استنادا إلى المادة 16 من ميثاقها، سلاح العقوبات الاقتصادية بحق إيطاليا لغزوها إثيوبيا عام 1935، وهو المثل الأهم في تجربة العصبة مع العقوبات. من ثم تبين أن العقوبات جزئية وغير فعالة. وفي 15/7/1936 اجتمعت لجنة العقوبات في العصبة لتوصي برفع كافة الإجراءات المفروضة بموجب المادة 16 رغم ضم موسوليني للحبشة في 9/5/1936. ويعتبر جيف سيمونز والعديد من مختصي العقوبات انهيار قرار الحظر ضد إيطاليا من عناصر زوال عصبة الأمم.
بعد عصبة الأمم شكّلت هيئة الأمم المتحدة التي تنص بما يخص موضوع العقوبات في المادة 41 من ميثاقها على أنه “يحق لمجلس الأمن الدولي دعوة الدول الأعضاء وفرض إجراءات لا تتضمن قوة السلاح لتفعيل قراراته”. وفي المادة 39 من الميثاق : “يقر مجلس الأمن وجود أي تهديد للسلم أو انتهاك للسلم أو عمل عدواني ويتخذ التوصيات أو يقرر الإجراءات الواجب اتخاذها”.
فرض مجلس الأمن الدولي خلال الأربعين سنة الأولى من عمر الأمم المتحدة العقوبات على نظامين : الأول: روديسيا الجنوبية أي “زيمبابوي اليوم” والثاني نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا، حيث كان على رأس كلا النظامين أقلية بيضاء مستوطنة. في حالة روديسيا فرضت عقوبات “إلزامية” عام 1966 بعد إعلان الأقلية البيضاء للاستقلال من جانب واحد، ورفعت عام 1969 بعد مباحثات أدت إلى وصول حكومة أغلبية سوداء.
من مفارقات التاريخ، أن بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية هما الدولتان اللتان عارضتا عارضت العقوبات ضد نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا بالرغم من الضغوطات الشديدة عليهما في مجلس الأمن. أخيراً وبعد إجراءات تطوعية ( كان قد تم التصويت عليها عام 1963 ) كان لها نتيجة ضعيفة محدودة، وافقتا على مقاطعة إلزامية Arms Embargo عام 1969. لكنها عارضت كل الجهود التي بذلت من خلال الأمم المتحدة لتشديد هذه العقوبات من ضمنها مشروع قرار استعمل ضده العضوان الدائمان في مجلس الأمن حق النقض في 8 آذار 1988 (S / 19 / 585 ). بالرغم من ذلك أرغمت حملة دولية الحكومات والمستثمرين على تبني إجراءات المقاطعة. ويعتقد العديد من المختصين أن المقاطعة ساعدت في إجبار نظام التمييز العنصري على الانهيار وفي انتقال سلمي نسبياً للسلطة.
الملفت للنظر هو تضاعف ظاهرة العقوبات منذ انتهاء حقبة الحرب الباردة إثر زوال الاتحاد السوفياتي من الساحة الدولية وحلول نظام القطبية الأحادية بانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالسيطرة على مقاليد الأمور في العالم. مما يشكل تهديدا لأسس القانون الدولي الذي يفترض فيه تنظيم العلاقات بين الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول أو تهديدها أو استعمال القوة في مواجهتها أو التعدي على سيادتها واستقلالها السياسي. لقد فرضت هذه الدولة العظمى على الأمم المتحدة وبالأخص مجلس الأمن قراءتها الخاصة للميثاق بما يتفق مع مصالحها السياسية والاقتصادية. فبإيعاز من الولايات المتحدة، لجأ مجلس الأمن منذ عام 1990 إلى استعمال عقوبات دولية بحق عدة بلدان ( العراق 1990، يوغسلافيا السابقة1991، الصومال، هايتي وأنغولا 1993، رواندا 1994، ليبيريا 1995، السودان وبروندي 1996)، مستندا في قراراته على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
بالطبع، لم تقتصر العقوبات على غطاء مجلس الأمن فقط حيث هناك عقوبات فرضتها الولايات المتحدة منفردة على ما يقارب خمسين دولة. هذا بالإضافة إلى عدد مماثل من العقوبات الثنائية التي في غالبها أنجلو-أمريكية، والتي طالت في غالبها دول العالم الثالث بما فيها دولا عربية وإسلامية.
تدخل الاعتبارات السياسية في تحديد حجم ومدى العقوبة المفروضة. وعليه، تراوحت هذه العقوبات من استخدام القوة المجردة إلى حظر بيع السلاح ووقف الطيران ومنع تصدير النفط والحرمان من المساعدات الدولية وتخفيض التمثيل الدبلوماسي ومنع سفر المسئولين الحكوميين. وبما أن فرض العقوبات يستلزم مناخا دوليا توافقيا بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، فقد لجأت الولايات المتحدة لاستعمال كل الوسائل المتاحة من ضغط وتهديد ورشوة واستعمال القوة لفرض العقوبات التي شاءتها، كما حاولت إبرازها وكأنها قضية المجتمع الدولي. لكن أين هو “المجتمع الدولي” الذي أدان مثلا بأغلبية ساحقة (117 صوتا مقابل 3) الحظر التجاري غير المشروع على كوبا الذي ينتهك مواثيق الأمم المتحدة، أو على ليبيا حيث استمرت المقاطعة 7 سنوات قبل أن تعلّق العقوبات بعد تسليم المتهمين بحادث الطائرة في قضية لوكربي المعروفة ؟
إن مجلس الأمن المحكوم بالقانون الدولي ينتهك مهامه والتزاماته القانونية في حماية حقوق المدنيين العراقيين وبالأخص الفئات المستضعفة من نساء وأطفال الذين يتمتعون بحماية خاصة بعدم ربطه بين العقوبات الاقتصادية والحقوق الأساسية للناس. فالحق في الحياة هو “الحق الأعلى الذي لا يسمح بالمساس به حتى في ظروف الطوارئ العامة”. يؤكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والمدنية والسياسية والاتفاقية الدولية لحقوق الطفل على حقوق الحياة والرعاية الصحية ومكافحة الأمراض وسوء التغذية وخفض وفيات الرضع والأطفال وعلى الحق بالتعليم وبمستوى معيشة لائق وغيره مما أسهم الحصار في انتهاكها. كما نصت المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة على حفظ السلام والأمن الدوليين وإنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المساواة بين الشعوب وحقها في تقرير المصير وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان دون تمييز. فأين ما حصل في العراق ويحصل في فلسطين من كل هذه المواثيق ؟ وكيف يجوز أن يكون تحقيق السلم والأمن الدوليين انتهاكا لحقوق الإنسان وحقوق الشعوب في تقرير المصير والمساواة بينها ؟
02-02-2006