الحلقةالثالثة: أزمة حقوق أم أزمة نظم ؟
رغم أن خطاب حقوق الإنسان أصبح يقر الحقوق الخمسة وأحيانا يقبل بإضافة حق البيئة، مازال محور الحقوق الاقتصادية والاجتماعية يتعثر ولا يأخذ حقه الكامل ومداه الحيوي الضروري لا في نطاق المنظمات غير الحكومية ولا في المؤسسات المعنية به محليا وإقليميا وعالميا، وليس من المبالغ القول أن الشلل الذي ينتاب هذا الجزء من الحقوق يترك آثاره على مصداقيتنا وصلتنا العضوية ببناء مجتمع أقل بربرية وأكثر إنسانية.
ما هي أسباب هذا الخلل؟ وهل يمكن فعل شئ لتجنبّه؟
للإجابة على هذين السؤالين من الضروري استعراض بعض الأسباب الذاتية والموضوعية التي جعلت نضالنا اليومي يتوجه نحو الحقوق السياسية والمدنية ويهمش إن لم نقل يغفل تماما الحقوق الأخرى:
1 – من أهم العوامل الموضوعية الخارجة عن إرادتنا بالمعنى المباشر للكلمة، غياب أنموذج ينســجم مع الحقــوق التي نطالب بها. ففي حالة الحقوق السياسية والمدنية، شكلت الديمقراطية الغربية مرجعا اعتباريا أو نقديا، وكان بالإمكان دائما الانطلاق من تجربة عيانية للمطالبة بحق معين ضمن هذه المنظومة، في حين لم ينجح الأنموذج السوفييتي أو الصيني في الاستجابة للركن الاعتباري من هذه الحقوق، أي الركن الذي لا يتعامل مع المنتج باعتباره وحسب قوة عمل عضلية أو ذهنية، وإنما أيضا قوة إنسانية ذات خيار حر في السياسة الاقتصادية والاجتماعية وليس فقط موضوعا لهذه السياسة المفروضة من فوق.
2 – في الواقع أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لا يتم انتهاكها فقط من السلطات الفاسدة المحلية وإنما أيضا من قبل نظام اقتصادي عالمي جائر، مقسوم بشكل فاضح إلى دول غنية وأخرى فقيرة، وفي غياب أي ناظم ملزم، فان عولمة اللبرلة الوحشية للاقتصاد، التي اثبتت فشلها كأنموذج للتنمية لن تؤدي إلا إلى اتساع الهوة بين الشمال والجنوب. وليست اتفاقيات الغات وأسواق البورصة وأشكال التبادل غير المتكافئ بقادرة برأينا على وقف تدهور اقتصاد العالم الثالث بل دفع هذا التدهور نحو الأردأ. ولو عدنا إلى مؤتمر القمة الاجتماعية في كوبنهاجن مثلا، لوجدنا تأكيد الطرف الرسمي على قيام الدول بحلول 1996 بوضع سياسات وطنية للقضاء على الفقر ومعالجة أسبابه الهيكلية ووضع غايات وأهداف ذات أطر زمنية للحد بدرجة كبيرة من هذه الآفة. والتأكـيد على اعتماد سياسات لإنهاء الديون الثنائية على الدول الأقل نموا في موعد لا يتجاوز 1996.
نحن اليوم في 2006، فمن يستطيع مطالبة الدول الغنية باحترام التزاماتها وحكومات الدول الفقيرة برفض برامج التكيف الهيكلي التي فرضت من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مع ما يترتب عليها من تحجيم للسياسات الاجتماعية وانتشــار للفقر والجهل والمرض والبطالة والتمزق الاجتماعي ؟؟ من كان يتصور أن ولفوفتز، المهندس الخلفي للحرب على العراق سيكون على رأس البنك الدولي؟
إن قبول بعض الدول مبدأ اتباع سياسات تأخذ بعين الاعتبار التقييم العياني لتحديد أوليات التنمية، مبدأ سيادة الشعب والاستثمار المسئول وضمان حقوق الجماعات المستضعفة (من نساء وأجانب وأطفال وسكان أصليين الخ) لا ينجيها من عنجهية اقتصاد السوق التي تترك بصـماتها على كل تحرك يستهدف ضمان حد أدنى للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية.
3 – وجود ممارسات للأمم المتحدة والدول الأقوى في تناقض واضح مع مبدأ الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة، والذي يعتبر ألف باء الحقوق الاقتصادية. كمثل الحصار الذي تمارسه الولايـات المتحدة على كوبا والحصار الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق وصربيا والطوق الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني. أليس من المضحك المبكي أن تتحدث مندوبة الولايات المتحدة عن عقوبات نموذجية في العراق رغم كل ما سببته من مآس للشعب وبشكل خاص الأطفال، ثم أن يطلع علينا نفس الذين أصروا عليها (الولايات المتحدة وبريطانيا) بمشروع للعقوبات الذكية، أي مشروع يعتبر الأولى النموذجية غبية؟ ثم تأتي دولتا الاحتلال لرفع هذا الحصار بعد مصادرة موارد البلاد في اتفاقيات تم تفصيلها قبل الاحتلال ووفقا لمصالح المحتل.
هل من الضروري التذكير بالفقرة الثانية من المادة الأولى للعهد الخاص بالحقوق الاقتصـادية و الاجتماعية والثقافية : “لا يجوز بحال من الأحوال حرمان شعب ما من وسائله المعيشية الخاصة”
4 – الفكرة الشائعة بأن هذه الحقوق من اختصاص النقابات والأحزاب اليسارية وليست من نطاق اهتمام نشطاء حقوق الإنسان .
5 – الأهمية المعطاة للحقوق السياسية من قبل المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية . وواقع أننا شئنا أم أبينا، ضحايا تعميم فكرة حقوق الإنسان عبر البعد الإعلامي للمنظمات الشمالية-العالمية التي ركز معظمها على الاعتقال التعسفي والتعذيب وحكم الإعدام والاختفاء كما سبق وذكرت. إن وسائل الأعلام الغربية التي تسيطر على اكثر من 90% من المعلومات المقدمة على سطح البسيطة تجد في لغة الحقوق السياسية قاموسا سهلا ومفهوما ولا تجد في الحقوق الاقتصادية مادة قابلة للاستعمال السلعي إلا ببعدها الكارثي، أي غيابها. لماذا نستغرب والحال كذلك أن يطالب ضحايا الجوع بالمعونة الإنسانية وليس بالحقوق الاقتصادية وهم لم يسمعوا يوما بهذه الحقـوق.. وكأنهم مسخوا إلى ما دونها.
ليس الانتقال من تشخيص المشكلة إلى البحث عن حلول لها بالسهل ، فهذه الإشكاليات تجعلنا نطرح على أنفسنا أسئلة عديدة منها :
– هل هناك قابلية لترجمة قانونية متماسكة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ؟
– هل يمكن الخوض جديا في تصور شامل للحقوق الستة دون حركة توعية ثقافية تدخلها في الوعي الجماعي في المجتمع، أي بتعبير آخر تخرجها من نطاق نخبوي ضيق ؟
– هل من واجبنا طرح تصورات للترجمة السياسية لهذه الحقوق ؟
– هل بالإمكان الخوض في مشروع طموح على صعيد هذه الحقوق دون تعاون بين النشطاء والخبراء، بين من يعد الخطط ومن يقترح الخطط البديلة، بين المحلي والإقليمي والعالمي ؟
هذه الأسئلة مطروحة علينا جميعا، ونحن بحاجة لمراجعة منهجية لأسلوب عملنا للتمكن من إعطائها حقها، وبحاجة إلى التنسيـق مع مراكز البحث والمنظــمات المختصة بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية وتبادل الخبرات فيما بيننا.
لو تناولنا موازين القوى في استعراض الأجيال الثلاثة لحقوق الإنسان لوجدنا أن الإعلان العالمي في 1948 قد شكل انتصارا للآراء الغربية، في حين أعاد العهدان في 1966 نوعا من التوازن بين الشـرق والغرب والجنوب والشمال أما الجيل الثالث للحقوق، وبشكل خاص حق التنمية وحق التضامن، فقد أعادا الاعتبار لهموم الجنوب. ولا غرابة و الأمر كذلك أن لا نجد ترجمة لحق التضامن وأن تبقى الولايات المتحدة ضد حق التنمية منذ إعلان 1986 حيث كانت وحدها ضده إلى عام 1994 عندما طالبت لجنة حقوق الإنسان بإنشاء آليات دائمة لتقييمه ويومها وقفت الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان ضد القرار وتغيبت 8 دول أوربية عن التصويت. هذا المثل وحده يكفي لتوضيح أهمية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لبلدان الجنوب.
بقي أن نذكر بضرورة التركيز على مفهوم أساسي لكل مدافع عن حقوق الإنسان: هناك نواة صلبة من الحقوق نرفض أن يتم المس بها مهما كانت الظروف الداعية لتحديد الحقوق والحريات لأسباب طارئة، هذه النواة تشمل سلامة النفس والجسد، الحريات الأساسية، حق الحياة والحق الأدنى للتمكن من العيش والتعلم والمعالجة. ومن المفترض للدفاع عن هذه النواة الصلبة جمع أكبر انتماء مجتمعي نقابي وجمعياتي وسياسي لأن هذا الأساس هو الذي يضمن اكتمال البنيان عبر النضال الطبيعي لبشر يعاملون بوصفهم كذلك، وهو الذي يكفل عدم لجوء الناس إلى التمرد، كما تذّكر ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كطريق للخروج من مآسيهم بعد إغلاق الباب أمام الطرق السلمية للدفاع عن الحريات والحقوق.
28-01-2006