الحلقة الثانية:ما هو المقصود بالقانون الدولي لحقوق الإنسان
في كل عام تصدر المنظمات الدولية والإقليمية مثل منظمة العفو وهيومان رايتس وتش والمنظمة العربية لحقوق الإنسان تقريرها السنوي، وكأنها أصبحت سنة متبعة، تركز هذه التقارير على الحقوق المدنية والسياسية كحق التنظيم والتظاهر والتجمع والتعبير. وإذا كانت بعض المنظمات منذ النصف الثاني للتسعينات قد تجاوزت الشكل التقليدي الذي يعتمد على تناول الانتهاكات الخاصة بالاعتقال التعسفي والمفقودين والتعذيب وعقوبة الإعدام، فهي لم ترتق بعد للأسف لجملة الحقوق التي تعرف اليوم باسم القانون الدولي لحقوق الإنسان. ويمكن القول أن التقارير الحكومية مثل تقرير الخارجية الأمريكية أيضا لم يعط مجموع الحقوق حقه بشكل متوازن ونظرة شاملة وتكاملية، ناهيكم عن التوظيف السياسي للحقوق المدنية. وإن كان موقف الإدارة الأمريكية يجد تفسيره في رفضها للاعتراف بالعهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلان الخاص بحق التنمية وتصديها لسيرورة بناء منظومة دولية لحماية البيئة، فالأمر غير مفهوم من منظمة غير حكومية.
لقد كان تأكيد مؤتمر فيينا عام 1993 على النظرة الشاملة والمتكاملة للحقوق نصرا لأبناء الجنوب لم يترجم للأسف على الصعيد العملي لأن واحدا من أشكال دكتاتورية الإعلام اليوم هيمنة المفهوم الليبرالي الغربي الذي يركز على الحقوق المدنية والسياسية ليس فقط باعتباره قد قطع شوطا فيها على الصعيد الداخلي، وإنما لأن اتجاهات هامة فيه تعتبر حق العمل والصحة والضمان الاجتماعي هدية من بابا نويل للكسالى. وكأن هذا النقص غير كاف، عولمت مترتبات أحداث الحادي عشر من سبتمبر حالة الطوارئ لتعود الدول الشمالية إلى المربع الأول السياسي والمدني مع عودة القوانين الاستثنائية وقوانين مكافحة الإرهاب، وترافق هذا مع تراجع في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ضمن التنافس الوحشي للهيمنة الاقتصادية على العالم. من هنا أصبح من الضروري اليوم، أكثر من أي وقت مضى التركيز والتذكير بأن حقوق الإنسان اجتماعية وبيئية وثقافية واقتصادية ومدنية وسياسية.
لا يمكن لنصوص صادرة عن الأمم المتحدة أن تدخل في الثقافة البشرية دون أن تجد مرجعيتها في الثقافات المحلية والحاجة الإنسانية لها. لذا دافعنا باستمرار عن تكّون حركة حقوق إنسان في العالم العربي تنطلق من الحاجة الوجودية لتأصيل أفكار مركزية تخرجنا من الطريق المسدود الذي أوصلتنا إليه السلطات التسلطية, من أهم هذه المحاور الانتقال من الرعية للمواطنة ومن الانتماء الأحادي المغلق إلى الانتماء المتعدد ومن فكرة المكارم والأعطيات التي يهبها الحاكم إلى الحقوق البديهية للمحكوم ومن الاستسلام لقواعد الطاعة إلى الانتقال الواعي للمشاركة الكاملة في الحياة العامة. من أجل ذلك يجب رفع القداسة والكمال عن فكرة ومواثيق حقوق الإنسان حتى لا تصبح إيديولوجية أو معتقد جديد. فهذه الحقوق الإنسانية بالضرورة ناقصة وغير منجزة وهي مشروع يواكب حياتنا ويسعى للرد على كل ما يشكل إذلالا أو إهانة أو انتقاصا من الكرامة التي تتقاسمها البشرية كمعطى عالمي للثقافات الكبرى. من هنا أهمية التعامل النقدي والخلاق معها والبحث باستمرار عن إجابات على سؤال حاضر ناضر: لماذا لم تتراجع انتهاكات حقوق الإنسان رغم إنجاز البشر في النصف الثاني من القرن العشرين لأهم ترسانة لحمايتها في القانون الدولي؟
لا ندعي القدرة على الإجابة بكلمات، كما أن هذه الإجابة تخرجنا من النظرة السياسية أو القانونية إلى نظرة متعددة الميادين والآفاق. فإن كان بالإمكان الحديث عن فلسفة عامة للكرامة الإنسانية تشكل السلف التاريخي لحقوق الإنسان بمفهومها المعاصر، فإن هذه الفلسفة تجد جذورها في بضع كلمات رافقت مختلف الثقافات البشرية وشكلت قاسما مشتركا لها في مقدمتها : سلامة الكائن البشري ، الحرية، المساواة، التضامن والتسامح. إلا أن هذه الأصول التي نتناولها في نهاية القرن العشرين بتجميع منـطقي سواء في محاضرة أو درس جامعي، لم تطرح يوما على بساط البحث بهذه الصورة، فالدور الذي تلعبه كلمة التضامن في المجتمعات الإفريقية القديمة يترك آثاره على جملة ما يعرف بالحقوق الفردية و القبلية، في حين يعتبر اكثر من مؤرخ فكرة التسامح الأب الروحي للديمقراطية الغربية، وتبقى المساواة هاجسا عاما وعالميا تقاسمه بوذا مع مزدك ويسوع مع النبي محمد ومدارس الاشتراكية المختلفة في حين شكلت قضية سلامة الكائن البشري النفسية والجسدية لأكثر من خمسة آلاف سنة مضت موضوع ترهيب وترغيب، حق يكتسب أو مادة عقاب. ويمكن القول أن الإسلام الذي كرم بني الإنسان، قد زرع مجموعة حقوق في الوعي الجماعي استظلها بمفهوم العدل. وفي حين أبدع الخليفة عمر بن الخطاب مفهوم حالة الضرورة كرد على الفـاقة و الجوع في القرن السابع، طرحت مسألة التعذيب والتحرر من الاعتقال التعسفي في القرن السابع عشر في أوربة الغربية وفيها تقدمت الحقوق السياسية والمدنية بشكل بارز منذ الثورة الفرنسية.
لقد أعادت الأفكار الاشتراكية الاعتبار والمكانة لضرورة توافر حقوق اقتصادية اجتماعية مع الحقوق المدنية موازية وأحيانا مناهضة لحـق الملكية ( الحق الوحيد الذي جاء ذكره في مناسبتين في إعلان حقوق الإنسان والمواطن) ولم تلبث الحركة النقابية والسياسية والحقوقية التقدمية منذ نهاية القرن التاسع عشر أن تطرح على بساط البحـث حق العمل وحالة الضرورة وقضية وجود ضمانات اجتماعية باعتبارها المقيدات الضرورية لحق الملكية.
وبعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بدأت لجنة حقوق الإنسان أعمالها من أجل المعاهدات الخاصة بهذه الحقوق. وقد تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 421 في ديسمبر 1950 القاضي بصياغة عهد واحد للحقوق الخمسة، ثم عادت الدول الغربية وضغطت باتجاه إعداد عهدين منفصلين: الأول للحقوق السياسية والمدنية والثاني للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية والثقافية الأمر الذي جرى التصديق عليه بالقرار 543 في الخامس من فبراير 1952. ونتيجة لذلك، اصبح من المتعارف عليه أن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان تقوم بالأساس على قطاعين متميزين لحقوق الإنسان. وقد نالت الحقوق السياسية والمدنية باستمرار حصة الأسد في النظرية والتطبيق عند الحديث عن حقوق الإنسان .
في مؤتمر فيينا في 1993 ، جرى التأكيد على ما دعت إليه المنظمات غير الحكومية من رفض للتجزئة ولفكرة الأفضلية ولقطع الروابط بين الحقوق الخمسة. وقد أقرت 171 دولة هذه المبادئ الأساسية، على الورق على الأقل، الأمر الذي يتطلب من جميع المنظمات غير الحكومية إعادة بناء استراتيجية عملها بشكل يجعل من هذه الحقوق مجتمعة مادة لعملها اليومي والبحثي والاستراتيجي. وقد وعت لجنة حقوق الإنسان ومؤسسات الأمم المتحدة هذه الوحدة الجدلية بين الحقوق في آخر معاهدة صدرت عنها ( اتفاقية حقوق الطفل 1989 ) التي جمعت بينها في نص واحد، حيث يمكننا تكثيف هذا الجمع بالعناصر التالية :
اتفاقية حقوق الطفل
حق التعبير ( مادة 13) الحماية من الاستغلال الاقتصادي ( مادة 32 )
الاعتقاد و التفكير و الدين (مادة4) التعليم ( مادة 22 )
حق الصحــة ( مادة 24) مستوى معيشة مقبول ( مادة 27 ) الضمان الاجتماعي ( مادة 25)
كذلك نجد على الصعيد الإقليمي مواثيق موحدة كما هو الحال في إفريقية وأوربة.
في تكثيف يقدمه سيغارت Sieghart يمكننا تكثيف الحقوق الأساسية بشكل يفصلها من الناحية الشكلية :
1- سلامة الجسم، 2 – مستوى الحياة، 3 – الصحة، 4 – الأسرة، 5 – العمل، 6 – الضمان الاجتماعي، 7 – المساعدة والرفاه، 8 – التعليم والتأهيل، 9 – الملكية، 10 – الأمان القانوني، 11 – سلامة العقل والنفس، 12 – النشاطات العامة ( تجمع و تنظيم .. ) 13- الســـياسة و الديمقراطية، 14 – الحقوق الجماعية.
إن قراءة مبسطة في هذه الحقوق تظهر مدى جسامة مهمة نشطاء حقـوق الإنسان ، فإن كان ثمة حقوق سهلة القوننة كحق العمل والشروط الإنسانية له والضمان الاجتماعي، فإن هناك حقوقا تتطلب تحديدات أساسية تسمح بجعلها جزءا من قانون البلد أو سياسة حاكميه. فما هو الحد الأدنى للحاجات الغذائية وكيف يترجم حق الصحة على الصعيد الوقـائي وكيف يمكن احترام حق العمل في منظومة اقتصادية تعتمد الأتمتة واستبدال الإنسان بالآلة وسيلة أنجع للربح من قوة العمل البشرية وهل من معنى لحق الملكية العقاري في غياب حق السكن مع وجود مساكن شاغرة ؟ وهل من الضروري قوننة الحقوق في غياب إجماع على الأسلوب الأمثل لتحقيقها الخ؟
كل هذه الأسئلة تثير نقاشات واسعة جعلت البروتوكول الملحق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يتأخر عن الصدور في حين أصبح بالإمكان ترسيم معالم الحقوق السياسية والمدنية الأساسية بالمعنى القانوني والمعياري بشكل أفضل. وعلنا نتوسع في هذا الجانب في حلقة قريبة قادمة إن شاء الله
19-01-2009