سبتمبر 18, 2024

إعادة التأهيــل

H13الحلقة الثالثة عشر : إعادة التأهيــل

ينسب للسيد المسيح توصيته بالسجناء والغرباء والفقراء، وقد أكد القرآن الكريم هذه الوصية في الآية:”ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا” أقر الإمام علي بن أبي طالب في العراق صدقة لأهل السجون، ويمكن القول أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كان من أول من طالب بإصلاح السجون وتأهيل السجناء أثناء وبعد الاعتقال. ومن مأثوراته في ذلك قوله : “إنما يكثر أهل الحبس لقلة النظر في أمرهم، إنما هو حبس وليس فيه نظر. فمر ولاتك جميعا بالنظر في أمر أهل الحبوس في كل الأيام”.

رصد مخصصات للسجناء أثناء فترة اعتقالهم وبعدها قديمة إذن، وقد عادت بقوة مع وجود منظمات غير حكومية للدفاع عن حقوق الإنسان وإصلاح أوضاع السجون والسجناء والاهتمام بإعادة تأهيلهم. ويمكن القول أن تعبيرات المساعدة الاجتماعية والنفسية المختلفة قد ساهمت في تقدم ما يمكن تسميته النظرة المتعددة الميادين لإعادة التأهيل التي تعتبر أكثر التوجهات فهما وقدرة على التدخل في هذا الواقع المعقد والصعب. فليس ثمة حل سحري صالح لكل زمان ومكان، ولكن بالتأكيد ثمة استراتيجيات عمل عامة تنير العمل الميداني في مجال إعادة التأهيل. 

لا بد لأية عملية إعادة تأهيل بالمعنى العام للكلمة، سواء لمعتقل أو ضحية تعذيب أو اعتداء على سلامة نفسه وجسده من اتباع نهج متعدد الأبعاد يشمل، أولاً،

 الوقاية من الاعتقال والتعسف. وذلك يعني احترام الحريات الأساسية ومحاسبة المسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان،

ثانيا القيام بحملات تثقيفية تعرف الناس بحقوقهم وبالحقوق التي يتمتع بها نظرائهم في دول العالم الأخرى،

ثالثا برامج تسمح للسجين بالتأهب لعودة اجتماعية ومهنية مقبولة، ورابعا إعادة التأهيل عبر مساعدات طارئة ودعم واحتضان للضحايا عبر نظرة تعتبر الفضاء غير الحكومي هيكلا مركزيا في عملية إعادة الدمج في المجتمعات,

وأخيراً، التعويضات التي تساعد على إعادة الاعتبار وتحديد المسئوليات.

جاء في المادة 14 من اتفاقية مناهضة التعذيب:

“1- تضمن كل دولة طرف، في نظامها القانوني، إنصاف من يتعرض لعمل من أعمال التعذيب وتمتعه بحق قابل للتنفيذ في تعويض عادل ومناسب بما في ذلك وسائل إعادة تأهيله على أكمل وجه ممكن، وفي حالة وفاة المعتدى عليه نتيجة لعمل من أعمال التعذيب، يكون للأشخاص الذين كان يعولهم الحق في التعويض”.

وتميِّز وثائق لجنة حقوق الإنسان  بين خمسة أشكال من الإنصاف هي: رد الحقوق، والتعويض، وإعادة التأهيل، والإرضاء، وضمانات عدم التكرار. وسنتوقف هنا عند موضوع الحلقة حصرا أي إعادة التأهيل:

ينبغي أن تتضمن إعادة التأهيل “العناية الصحية والنفسية، وكذلك الخدمات القانونية والاجتماعية. أما في ما يتعلق بالأطفال، فتنص المادة 39 من اتفاقية حقوق الطفل على أن “تتخذ الدول الأطراف كل التدابير المناسبة لتشجيع التأهيل البدني والنفسي وإعادة الاندماج الاجتماعي للطفل الذي يقع ضحية أي شكل من أشكال الإهمال أو الاستغلال أو الإساءة، أو التعذيب أو أي شكل آخر من أشكال المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة، أو المنازعات المسلحة. ويجري هذا التأهيل وإعادة الاندماج هذه في بيئة تعزز صحة الطفل، واحترامه لذاته، وكرامته”.

عندما اجتمع عدد من الأطباء في أثينا بعد سقوط نظام الكولونيلات العسكري للحديث في عقابيل التعذيب على الضحايا  تبدت لهم حقيقة ناصعة: إن التعذيب يعذب لزمن طويل بعد وقوعه.

انطلاقا من هذا المعطى نشأت رغبة المعالجة لضحايا التعذيب وبدأت هذه الرغبة تأخذ أشكالا محددة  رغم عدم إمكانية تلمس خطوات المعالجة بشكل واضح كوننا أمام حالات باثولوجية (مرضية) قليلة الوصف في الأدبيات الطبية أو غير معروفة بشكل كاف.

وفي فترة زمنية وجيزة تم تبلور عدة مبادئ:

إن الناجين من التعذيب بحاجة إلى إعادة خلق الثقة مع الآخرين وبشكل أولي، مع الشخص الذي سيتناول معهم مشكلاتهم.  من هنا يجب تجنب استقبال الضحايا في أماكن ذات طابع طبي مبالغ فيه الأمر الذي يمكن أن يبعث بذكريات جد مؤلمة ناجمة عن ربط المكان بصالة الفحص الطبي التي مر بها المعّذب.

يمكن للعقابيل الجسمية أن تزول بسرعة بل وأن يكون من الصعب وجود آثار لها فيما إذا حرص الجلاد على عدم ترك آثار. أما العوارض النفسية فتبقى زمنا طويلا، بل أن تترك بصماتها طيلة حياة الشخص المعني.

في معظم الأوقات، هؤلاء الأشخاص لديهم القدرة على التأثير في الرأي العام (صحفيون، معلمون، نقابيون، طلبة، مسئولون سياسيون..) وهم يحاطون بدوائر صمت تعزلهم. هذا الصمت يفرضه عليهم بشكل أرعن المحيط الذي يظن أنه يفعل خيرا بعدم طرحه للموضوع. والصمت الذي تخلقه الرقابة والرقابة الذاتية في مجتمع خائف.

ويتضمن دور العاملين الصحيين، إضافة إلى المعالجة الطبية التي تتطلبها الحالات الباثولوجية المشخصة عبر فحص سريري (كلينيكي) دقيق ومعمق، يضمن أيضا إعادة تكوين فضاء التواصل بين الضحايا والمجتمع. بتعبير آخر، مجابهة الوضع الذي تحاول السلطة إيجاده عبر اعتبارها للتعذيب كوسيلة سيطرة ووسيلة لإخراس كل ما يمكن أن يشكل نقطة ارتكاز للمعارضة.

لقد شهد ربع القرن الأخير قيام فرق متعددة الميادين في كل القارات، فرق مكونة من أطباء وعلماء نفس ومساعدين اجتماعيين يحاولون توحيد جهودهم للخروج من الطريق المسدود المؤلم الذي يمر فيه ضحايا التعذيب.

ويبدو في الواقع أن التعاون الوثيق والثقة المتبادلة بين الذين سيتابعون مشكلات الجسد وبين الذين سيوجهون اهتمامهم للاضطرابات النفسية والعقلية وبين من يقوم دوره على تسهيل إعادة الاندماج في المجتمع الذي يجد المصاب نفسه معه في حالة مواجهة. هذه الطريقة هي الأجدى للوصول إلى نتائج فعالة. بشرط أن تكون عند الطبيب القدرة على الاستماع وعند المعالج النفسي إمكانية التفكير بالآلام العضوية وعند المساعد الاجتماعي خاصية اكتشاف مواطن الخلل الوظيفي الذي يمكن أن يفوق معالجي النفس والجسد.

ومهما كانت الثقافات أو المستوى الثقافي، فإن العوارض النفسية تتشابه: فالسمات المشتركة للإنسانية تبدو واضحة في حالات الضيق العميقة.

وفي أغلب الأحوال، فإن الإحساس بالمهانة وفقدان الكرامة هو الذي يبقى زمنا طويلا. ويمكن اعتبار الاعتداءات ذات الطابع الجنسي أو الماسة بشرف العائلة مسئولة عن استمرار المعاناة وكما تقول الدكتورة هيلين جافيه، “الصبر والفطنة والحصافة تمكن غالبا من التفريغ المهدئ للشحنة العاطفية، تفكيك طبيعة التصرف، الكلام والوضع الذي خلق هذا الإحساس بالتدهور الاعتباري للذات. ومن الضروري هنا السماح للمعالج بالاحتفاظ بسره، تجنبا لعيش وقائع غنية عن الوصف واستعادة حالات أرادها الجلاد: أن تصبح الضحية عارية أمامه لا حق لها بأي شيء خاص”.

المزيد من رحابة الصدر والمرونة والتعمق يمكن أن تكون الهدية غير المقصودة التي زرعتها منظومة العسف في نفس الضحية.

من الضروري التذكير أن دولا عربية مثل السعودية وسورية وتونس وليبيا ما زالت تمنع وجود مراكز لإعادة تأهيل قضايا التعذيب  تأسس في عام 1981 صندوق الأمم المتحدة التطوعي لضحايا التعذيب بغرض تلقي مساهمات طوعية “لتوزيعها، عبر قنوات ثابتة للمعونة، على شكل مساعدات إنسانية وقانونية ومالية على الأشخاص الذين تعرضت حقوقهم الإنسانية لانتهاكات قاسية نتيجة للتعذيب، وعلى أقرباء هؤلاء الضحايا”.. للأسف لا يحصل هذا المشروع على ثلث ما يحتاج للقيام بمهماته الأساسية.

  حقوق الناس / قناة الحوار  24 كانون الثاني 2007