أبريل 19, 2024

محاكمة في ظل الاحتلال

H11الحلقةالحادية عشر: محاكمة في ظل الاحتلال

سنتناول اليوم موضوعا في غاية الحساسية ليس فقط على الصعيد القانوني والحقوقي وإنما أيضا على الصعيد المجتمعي والنفسي بكل مايمكن أن يحمل من اختلاجات  انفعالية وعاطفية، إنه موضوع صدور الحكم بالإعدام على الرئيس العراقي السابق  صدام حسين في الخامس من شهر نوفمبرعام  2006

ومهما كانت عاقبة الأمور والى أين ستجري، وفيما إذا كان هذا الحكم سينفذ أم لا.. فيما إذا كان سيصدر عدة أحكام أخرى بالإعدام في قضايا أخرى كقضية الأنفال وقضايا الحروب التي خاضها الرئيس العراقي السابق، فالمشكلة اليوم أننا أمام أول حدث تاريخي  خارج عن التاريخ القضائي الجنائي بعد  قيام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة.

نحن أمام محكمة غير دولية، غير شرعية، محكمة أقامتها قوات الاحتلال وفرضتها على المجتمع العراقي وعلى الحكومة العراقية بالشكل الذي أرادت وبواسطة مكتب تجاري قانوني غير مختص كلفته من أجل تحديد قوانينها وتحديد قواعد العمل بل تحديد قواعد اللعبة وتأطير الجريمة التي يتم فيها المحاسبة،  أول الأمر وفق اعتبارات للأسف كانت تأخذ بعين الاعتبار الجوانب الطائفية بما يحمل ذلك من أحقاد وضغائن يمكن أن تترك أثرا عميقا على الشعب العراقي والوحدة العراقية في المستقبل.

قضية الدجيل ولو أننا أبناء ثقافة تعتبركل ضحية جريمة ضد الإنسانية، قضية الدجيل بالنسبة لنا لم تكن الأهم في سجل الرئيس العراقي صدام حسين

فهذه القضية تحمل عدة أبعاد وترتبط بعدة قضايا سياسية وحزبية محددة, هذه القضايا لم يكن هناك اتفاق حولها في المجتمع العراقي ولم يكن هناك توافق حتى على الأشخاص والشهادات ووسائل الدفاع والمراقبة القضائية

نقطة الضوء الوحيدة التي كانت في هذه المحكمة في بدايتها وجود قاضٍ عراقي يحمل في ضميره فكرة العدالة وضرورة أن تكون المحكمة عادلة رغم كل ما هو غير قانوني في إجراءات تشكيلها (القاضي رزكار محمد أمين)، قاض يعتقد بأن المحكمة تكتسب الشرعية ليست من الإجراءات وإنما من صيرورتها نفسها واحترامها للمتهم من كان وحقوق هذا المتهم, هذا القاضي تم إبعاده  لكي تتحول المحكمة بكل معاني الكلمة إلى محكمة  للمنتصر بالمعنى العسكري والسياسي للكلمة وإلى محكمة تشّفي الغليل  بالنسبة للضحايا أكثر منها تقيم العدل بالنسبة للجميع.

هذه المحكمة أولا محكمة قامت في ظروف الاحتلال أي أنها غير شرعية وفق نص اتفاقية جنيف الرابعة التي وقعتها الدول المحتلة والدولة المحتلة كلاهما، ثانيا هي محكمة جزئية وترفض تناول حقبة بأكملها هذه الحقبة هي التي كانت على الأقل السبب الثاني بعد سقوط  أطروحة وجود أسلحة دمار شامل: أي إسقاط نظام ديكتاتوري. هذا النظام الديكتاتوري لم يكن في حادث محاولة اغتيال والرد عليها، وإنما كان في منظومة استبدادية تمارس العسف وانتهاكات حقوق الإنسان بكل المعاني ولا يمكن لمحاكمة جزئية تتجنب العلاقة بين العالمي والعراقي، بين الإقليمي والعراقي، بين جملة ما أدى إلى استشهاد  وخسارة أكثر من مليون ونصف المليون  إنسان سواء في الحروب الصدامية أو في العقوبات الدولية التي أصرت عليها الولايات المتحدة وبريطانيا أو في الاحتلال الذي أودى بحياة عشرات الآلاف العراقيين حتى لا نأخذ الرقم الأخير الذي يتجاوز نصف المليون في تقدير بعض المنظمات. كل هذا لايمكن اختصاره بقضية تناولت أكثر من 140 شخصا هم بالتأكيد ضحايا ويجب المحاسبة في موضوعهم، ولكن لايمكن أن نعتبرهم القضية الأساسية التي تمثل حقبة كاملة للنظام الاستبدادي في العراق.

 ثانيا: هذه المحكمة التي تدعي بأنها تحمل قيما للعدالة تأتي بعد 1998 أي بعد قيام المحكمة الجنائية الدولية وتحمل الموقف الأمريكي من هذه المحكمة الذي يرفض تعريفات هذه المحكمة لجرائم الحرب والجريمة ضد الإنسانية ويفرض تعريفا خاصا متفق عليه سياسيا، هذه المحكمة هي محكمة على نمط نورنبيرغ أي محكمة استثنائية يصنعها الغالب لكنها لم تراع الحدود الدنيا التي يمكن أن تمنحها شرعية الأمر الواقع وشرعية الإجراء وشرعية التحقيق الدقيق في الجرائم الذي يسمح باحترامها, هذه المحكمة أخيرا جاءت لتخلق سابقة أخيرة هي موازاة المحاكم الدولية التي أصبحت مكلفة بجرائم كهذه خاصة وأن المحكمة الجنائية الدولية مثلا يمكن أن تكون طرفا بمجرد توجيه رسالة من رئيس الوزراء العراقي إليها ليشمل تناولها لجرائم ارتكبت في العراق إلا أن الدخول من هذا الباب يعني فتح ملفات الحكومات العراقية في ظل الاحتلال الأمر الذي يعني فتح ملفات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم التعذيب التي ترتكب في كل يوم من قبل المحتلين والميليشيات والأمن ناهيكم عن المسلحين خارج الفضاء الموالي للولايات المتحدة.

منذ اليوم الأول في محكمة الدجيل حتى يوم صدور الحكم أكثر من 80 ضعف كان عدد ضحايا العراقيين الأبرياء الذين ذهبوا في ظل الفوضى والخراب الذي يعيشه العراق اليوم، ورغم أن الرئيس العراقي الحالي (الطالباني) يتبجح في كل يوم بالقول بأنه ضد حكم الإعدام لم نسمعه يتكلم بعد صدور هذا الحكم وكأن المسألة لم تعد مبدئية وإنما مسألة شعبوية  يمكن أن تكسب جمهورا يخشى من خسارته من يحكم اليوم بالعراق وأقصد للأسف مايسمى بالجمهور الشيعي..

نعم نحن اليوم أمام مأساة كبيرة هذه المأساة اسمها اغتيال العدالة في منطق الثأر ومنطق الاستعمال الرخيص للمحاكمات من أجل غايات سياسية سريعة  تحاول فيها الإدارة الأمريكية  الخروج  من مأزقها فتطالب بإصدار الأحكام قبيل الانتخابات النصفية  في الولايات المتحدة تطالب بأن تكون هذه الأحكام مؤثرة بالرأي العام ولو كان ذلك بحكم الإعدام الذي ترفضه المفوضية الأوربية بكل مكوناتها بما فيها بريطانيا ترفضه الشرعة الدولية لحقوق الإنسان ترفضه في بروتوكولات إقليمية وترفضه كل المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان.

نحن اليوم أمام تحدي كبير هذا التحدي اسمه:

– نعم للمحاسبة

– نعم لمحاسبة كل طاغية وكل مستبد مهما كان موقع المسئولية التي يحتلها

– لاحصانة في الجرائم الجسيمة، ولكن لا لمنطق الثأر أيضا

 لايمكن أن نقبل بأن يكون بديل البربرية والاستبداد، الاستعباد والبربرية

22-11-2006