الحلقة العاشرة: حق العودة
تعتبر العلاقة بين الإنسان والأرض من أقدم أشكال الارتباط المادي والمعنوي. فالهوية كمفهوم، أية هوية، كانت في أشكالها البدائية الأولى ابنة روابط القربى أو روابط الأرض. وقد نشأت روابط الأرض أو الإقليم على الأغلب بعد روابط القربى، إلا أن مفاهيم الحمى والتملك قد حملت معها أساس التعلق بالجغرافيا وربط هذه الجغرافيا بمواصفات إنسانية محددة.
باعتبار ممارسة البشر للإبعاد عن الأرض قد ارتبط بالتهديد على أمن الأشخاص أو حريتهم أو حياتهم وغالبا بالاستعمال المباشر للعنف، فقد نوقش حق العودة في المحاولات الأولى والآراء الأولى المتعلقة بالقانون الإنساني الدولي، وبدأت فكرة تأصيل هذا الحق منذ اجتماعات جنيف في 1864 وإن لم تأخذ الاهتمام الذي تستحق قبل الدخول في الحرب العالمية الأولى.
تعطي اتفاقية جنيف الرابعة سلطة قانونية للحق في العودة. وتنص المادة على: “يحظر الترحيل الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أية دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، مهما كانت الدوافع.” ويقول المعلقون على اتفاقية جنيف بأن هذا الحظر “هو مطلق ولا يسمح بأي استثناء..” ويعتبر الأخصائي رايت كوانسي أن رفض الإعادة والتعويض رفض صارخ للقانون الإنساني الدولي.
أما بالنسبة للشرعة الدولية لحقوق الإنسان، فقد أيدت المادة 13 الفقرة 2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حق العودة بالنص على: “يحق لكل فرد أن يغادر أية بلاد بما في ذلك بلده، كما يحق له العودة إليه”. وتؤكد تقارير الأونروا بشكل متكرر بأن رغبة اللاجئين في العودة إلى ديارهم لم تتناقص بل عل العكس “تعززت ” بقرارات الجمعية العامة حول الإعادة
ومهما كان دور موازين القوى في احترام الناس لحقوق الناس، فإن السماح بالعودة الاختيارية للاجئين شكل عبر التاريخ، ليس فقط الرد الأخلاقي والحقوقي الأفضل، وإنما أيضا الحل البراغماتي الأنجع لمشكلة اللجوء والنفي والإبعاد. سواء كان ذلك بجنسية أحادية أو متعددة، بدور سياسي مباشر أو تدريجي، مع أو بدون قبول مبدأ التعويض.
الاستثناء الفلسطيني ومعاهدة 1951
هل يمكن الحديث عن حق العودة دون التوقف عند القضية الفلسطينية؟ وهل يمكن القول بأمانة أنه لو انتزعت مشكلة فلسطين من رأس الحقوقيين الدوليين لكان حق العودة يصنف ضمن الحقوق والمفاهيم التي تشكل موضوع خلاف واحتجاج؟ وهل كان التعامل مع هذا الموضوع سيتم بالطريقة نفسها؟ إن حق العودة هو المثل، إن كنا بحاجة لمثل، على أن هناك مرجعية تاريخية ومرجعية جغرافية، مشكلات ذات جذور حضارية وأخرى جيو سياسية تؤثر على العديد من خبراء وتقنيي الأمم المتحدة في مفاهيم مركزية وتصورات أساسية لحقوق الإنسان.
لقد وضع الدكتور محمد حافظ يعقوب الإصبع على الجرح عندما وضع فكرة حق العودة في صلب مفهوم حركة التحرر الفلسطينية حين قال: “لا تمثل المطالبة بحق العودة أساس الهوية الوطنية الفلسطينية ونقطة الكثافة فيها فقط، بل وتمثل فوق ذلك أسّ شرعية منظمة التحرير الفلسطينية ومحور تاريخها في آن. فمنذ حزيران (يونيو) 1967 بشكل خاص وحتى نهايات الثمانينات، انتزعت منظمة التحرير الفلسطينية شرعيتها التمثيلية الفلسطينية من تواجدها في أماكن اللجوء الكثيفة، وهي المخيمات في الأردن وسوريا ولبنان أساساً، ومن التفاف اللاجئين حولها ومن انخراطهم، كمناضلين وفدائيين ومثقفين، في قلب جسدها التنظيمي الذي كان يتعزز مع الأيام والمعارك والصعوبات. كان الخارج الفلسطيني، الجسم اللاجئ من فلسطين، هو مركز هذه الوطنية الفلسطينية التي كانت تشق طريقها الخاص في قلب عالم عربي كان، هو بدوره كذلك، يعيد تنظيم نفسه وهوياته على شكل وطنيات محلية أو قطرية تتطابق إلى هذا الحد أو ذاك مع الدولة القطرية القائمة. ولم يكن ممكناً أمام منظمة التحرير الفلسطينية، والحال كذلك، ألاَّ تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع مقتضيات السيادات التي تستلزمها كل سلطة دولتية على الإطلاق. هكذا ولدت الوطنية الفلسطينية أو “الكيانية “الفلسطينية كما يطلق عليها بعضهم، ولادة مفارقة طبعت في الوقت نفسه ملامحها العامة التي اتسمت بها في الشتات، وقاعدتها قضية العودة0
من الضروري التذكير بأن الفلسطينيين هم الفئة الوحيدة الموضوعة خارج نظام ومعاهدة 1951. فالطابع السياسي للقضية الفلسطينية اعتبر خارج صلاحيات المفوضية العليا للاجئين التي تصف نشاطها وفعالياتها بغير السياسية.
إن الصعوبة الأساسية في تحديد الوضع القانوني للاجئين الفلسطينيين وحقوقهم، كما يقول محمد أبو حارثية، تكمن في كونهم كجماعة، يتحدون التعريف السهل. ونتيجة لذلك، نشأت عدة مشكلات مفبركة اقتادت على الأقل حقوقي واحد للقول: “الفلسطينيون أنفسهم يرفضون تعبير اللاجئ”(8). وكما يصف البسيوني: بين 194 8 و 1969، كان الفلسطينيون ينعتون من قبل المتحدثين باسم دول أوربة الغربية وأمريكا الشمالية “باللاجئين” ومنذ ذاك التاريخ بدأ “سوء الفهم” بالحدوث. حتى في الأمم المتحدة كان يتم في كل عام التأكيد على القرار الذي يضمن “للاجئين” حق العودة إلى منازلهم والتعويض على من خسروا ممتلكاتهم. ولم يكن هناك إقرار بأن هؤلاء اللاجئين يشكلون “شعبا”. من الضروري التذكير بأن النعوت الغربية وليدة تأثير اللوبي الموالي لإسرائيل على التصورات الرسمية التي بقيت لعهد طويل ترفض مفهوم كيان فلسطيني، خاصة وأن فكرة دولة فلسطينية علمانية ديمقراطية كانت تقوض الفكرة الصهيونية القائمة على دولة دينية ذات طابع إثني وطائفي.
ليس ثمة شك في أن الفلسطينيين في المنفى هم حقيقة لاجئين، إلا أنهم وحيدين في إبداء رغبتهم بالعودة إلى وطنهم رغم أن الظروف السياسية العامة التي أدت إلى رحيلهم مازالت قائمة. وكما يقول السيد عسقول Askoul: “يختلف اللاجئون الفلسطينيين عن كل اللاجئين بكونهم أصبحوا لاجئين كنتيجة لأعمال تتنافى مع مبادئ الأمم المتحدة..”(10).
ووجود اللاجئين من جهة ثانية، هو النتيجة المباشرة لقرار اتخذته الأمم المتحدة نفسها عن سابق معرفة بالنتائج التي يمكن أن تنجم عن هكذا قرار. من هنا فإن اللاجئين الفلسطينيين هم المسؤولية المباشرة للأمم المتحدة ولا يمكن وضعهم في التصنيف مع باقي اللاجئين الأمر الذي يضعف، أو يلغي، هذه المسؤولية الدولية هذه.
إن أوضح وأكثر النصوص مباشرة في القانون الدولي فيما يتعلق بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة هي الفقرة11 من القرار 194 (3) الذي أقر في كانون الأول/ديسمبر 1948، إلا أن الفقرة الثانية تنص على قضية مركزية تضع موضوع العودة خارج أي نقاش سياسي عندما تقول
1- يملك اللاجئون وحدهم حق الاختيار بين العودة إلى بيوتهم داخل حدود إسرائيل وعدم العودة.
القانونيون الإسرائيليون يعتبرون حق العودة للفلسطينيين تدفقا لعنصر عدائي يقوض الأمن الوطني الخاص مما يسمح للدولة العبرية بتجميد ما هو خاص بسفر وحركة الأشخاص لحماية الأمن الوطني أو النظام.
نعلم جيدا كيف يتم استعمال جدل الأمن الوطني في أي وقت للتهرب من الالتزامات الدولية. وإلا لماذا يسمح بحركة اليهود من وإلى إسرائيل في ممارسة واضحة للتمييز الطائفي والعنصري ؟ السؤال مطروح على الحقوقيين الغربيين، ولعله يشكل اختبارا حقيقيا لمصداقية دفاعهم عن حقوق الناس؟
حقوق الناس / قناة الحوار 15 نوفمبر 2006