قبل قرن من الزمن، تفاخر الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، بقوة العقوبات في التأثير على الناس العاديين، واصفًا لها بالقول: “شيء أكثر روعة من الحرب” بسبب قدرتها على إعادة “أمة إلى رشدها تمامًا كما يزيل الاختناق الذي يتعرض له الشخص أية قدرة عنده على القتال”.
لو قرأنا بتمعن هذه الجملة، لوجدنا السيد ويلسون يدعو إلى خنق الأمم باعتباره وسيلة لإزالة قدرتها على المواجهة. وإن كان له الأمانة في ذكر الغرض النهائي من أية عقوبات، فهو يعتبر العقوبات وسيلة خنق جماعية لمن يختلف مع بلاده سياسيا أو عسكريا. لحسن الحظ، لم تنجح الولايات المتحدة الأمريكية يوما في تحقيق أهدافها المعلنة عبر العقوبات. ولسوء الحظ، فقد أدخلت واشنطن معظم دول الناتو، وبشكل أساسي غربي أوربة، في هذا المنطق منذ نشأته كتحالف عسكري دولي.
في رسالة وجهتها بوصفي المتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان في 10/12/1999 للمنظمات الدولية غير الحكومية بعنوان: “من أجل تحالف دولي ضد العقوبات”، كتبت: “إننا نتوجه نحو شكلين للهيمنة والسيطرة في المنطقة، الشكل الأول هو الحرب العسكرية بالمعنى التقليدي ولكن على قاعدة صفر خسائر. ولعل ما جرى في الكوسوفو يعطينا المثال على ذلك. والثاني، هو استراتيجية الخناق الاقتصادي والعقوبات، كما نرى في العديد من الدول من ليبيا إلى العراق إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة إلخ. لقد بدأت بالتشكل نويات قوية لحركة مدنية دولية ضد الحرب، ولكننا حتى اليوم وعلى صعيد العقوبات لم يتشكل بعد تحالف دولي صلب وعابر للقارات، لتعزيز الوعي العام وتنبيه الرأي العام الدولي لخطورة هذه الجريمة، التي تمارس تحت أنظارنا، بل ويعتبرها البعض بكل أسف، وسيلة مخملية مشروعة لتحقيق أهداف سياسية محددة”.
وقد استجاب لهذا النداء عشرات المنظمات الحقوقية غير الحكومية. وباستثناء منتدى السياسات العالمية (الذي أسسه المفكر الأمريكي جيمس بول في نيويورك)، قلة ممن استجاب لهذا النداء كان من دول الشمال، بل جرى الضغط على عدد من المنظمات الجنوبية من قبل الاتحاد الأوربي للانسحاب من التحالف. ثم مع نجاح حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، بدأت سياسة العقوبات بالتصعيد لتصل إلى مستوى “الإغلاق” في قطاع غزة، وجرى الترويج غربيا لأن كل من يطالب برفع الحصار والعقوبات عن قطاع غزة، إنما يدعم الإرهاب.
ولن أنسى في مطار القاهرة، حين تقاطعت مع الدكتورة بسمة قضماني في الترانزيت، وكانت في طريقها إلى تشيلي، وسألتني: وأنت إلى أين ذاهب، فقلت لها في “بعثة تحقيق إلى غزة”، كان جوابها: أي تريد الدفاع عن الإرهاب؟ فأجبتها بنشافة: مهمتي كشف الجرائم الإسرائيلية بحق أطفال غزة. كانت وقتها مديرة مؤسسة فورد الأمريكية في القاهرة، وكان ثمة تعميم أمريكي رسمي يحظر على جميع المؤسسات الأمريكية التعامل مع من له علاقة أو تواصل بالمنظمات “الإرهابية” في فلسطين.
أثناء البعثة، وفي لقاء مع رئيس الوزراء إسماعيل هنية بوجود خمسة محامين من النرويج، همس في إذني: هل تظن بأن الحملة لرفع العقوبات عن غزة ستنجح قريبا؟ أجبته بمرارة وألم: “لا أظن ذلك قريبا، سنبذل ما نستطيع لكسر الحصار، ولكن الجبهة المقابلة تفتقر إلى الأخلاق والإنسانية ولا يهمها حياة الطفل الفلسطيني كثيرا”.
لا أدري كيف تقرر برلمانات “ديمقراطية” منع نشاط حركة مقاطعة بضائع المستوطنات الإسرائيلية، وتستمر في “شرعنة” حصار شعب بأكمله؟
طيلة عقدين من الزمن، كانت العقوبات تستعيد مكانتها في مراكز القرار الغربية، رغم قناعة الخبراء بمحدودية جدواها ونتائجها الكارثية على المجتمعات التي تتعرض لها. ورغم النفاق والكذب وازدواجية المعايير من الدول التي جعلت منها سياسة عامة، كانت العقوبات في ازدياد، تعاني منها مجتمعات بأكملها، باسم معاقبة حكامها؟ وكون شيطنة أي بلد في المنطق النيو ليبرالي تعني شيطنة كل سكانه، تمر هذه الجريمة بسلاسة، بل وتجد مأجورا سوريا أو إيرانيا هنا أو لاجئا فنزويليا أو كوبيا هناك، يعتبرها عملا بطوليا وصارما ضد الدكتاتورية أو الإرهاب أو..
جاءت الحرب الأوكرانية لتصل إلى أرقام قياسية لا سابق لها في التاريخ البشري المكتوب. لكن كما تقول الحكمة الشعبية البسيطة: حذار من ارتداد السحر على الساحر؟ اجتماعات شبه دائمة لمجموعة السبع والاتحاد الأوروبي ودول الناتو لإقرار المزيد من العقوبات على الاتحاد الروسي. كل اجتماع يحمل قائمة بعقوبات جديدة، حتى ظهور مجموعات بحث وعصف ذهني للتنقيب عن عقوبات فاعلة.
في حالة الهيجان هذه، تواصلنا مع العديد من المسؤولين والمسؤولات الأوربيين، وفي أحيان عدة، رافقنا اقتصاديين غربيين من أبناء المنظومة والمدافعين عنها، للتحذير من أن هذا الطريق غير سالك، حتى لا نقول: مسدود. كانوا يخرجون لنا قصة الاقتصاد الروسي لا يتجاوز 3 بالمئة من الاقتصاد العالمي، وإن لم ينهار، فعلى الأقل لن تقوم لروسيا قائمة بعد اليوم.
مشكلة الدول الغربية التي تعاني تراجعا حضاريا وليس سياسيا فقط، أنها على قناعة تامة بأنها الأذكى والأكثر حكمة والأكثر ديمقراطية، وبالتالي فما تتوصل إليه أو تتخذ قرارا بشأنه، هو لخير البشر بالضرورة. ومشكلتها أيضا، أن ربان السفينة الأمريكي يدرك نقاط ضعفها ويستثمر بها.
بدأت أزمة الحبوب بالظهور، ووقفت القارة الإفريقية ضد العقوبات لأنها ضحيتها الأولى، وبدأت بعدها أزمة الطاقة، وتبين سريعا، أن العقوبات على الغاز والنفط الروسيين عقوبات شاملة تشمل من يعلنها وليس فقط من هو موضوعها. ولأول مرة منذ حرب الكوسوفو، يتصدر الأخبار استبيان رأي يبين أن 74 بالمئة من الفرنسيين لا يعتقدون بأن لهذه العقوبات أي جدوى؟ أي ما كنا نصرخ به منذ ربع قرن. ولا أظن فرنسا حالة خاصة، فالطليان لا يبتعدون كثيرا عن هذه النسبة.
يحاول “فلاسفة” الاتحاد الأوروبي تفسير ذلك بصعود اليمين المتطرف حينا، والبروباغندا التسلطية الروسية. جميعنا يعلم أن وسائل الإعلام الروسية لا يمكن متابعتها إلا من أقل من 1 بالمئة من سكان الدول الغربية، أي مراكز الرصد والمراقبة الغربية والمعنيين مباشرة بما يجري ويقال على الشاطئ الآخر. وجميعنا يعلم أن أي حلقة نقاش خاصة أو عامة، يحضرها أكثر من أوكراني (ة) ومنشق روسي على الأقل ويغيب عنها الرأي الآخر.
وجميعنا يعلم أن مارين لوبن وتجمعها الوطني لا تنال في استفتاءات الرأي أكثر من 25 بالمئة من الفرنسيين؟ وجميعنا يعلم أيضا، حالة التذمر من سياسة إطالة الحرب بكل الوسائل، عل وعسى تحدث معجزة عسكرية يسترجع بفضلها زيلينسكي شبه جزيرة القرم؟
لا أدري كيف تدافع الحسناء الخضراء التي أمضت شبابها في مظاهرات تطالب بإغلاق مصادر الطاقة الملوثة للبيئة في ألمانيا عن فتح مناجم الفحم من جديد؟ أو تصوّر أن الرئيس الروسي بوتين سيرسل باقات الزهور لمن يرفض تسليم التوربيدات الضرورية لخط أنابيب الغاز؟ أو أن تحديد سقف لثمن النفط الروسي من قبل مجموعة السبع، يمكن أن يمنع وصوله لأوربة عن طريق الهند والصين، بأسعار أعلى؟
لم يعد لدى أنصار سياسة العقوبات أية حجة مقنعة للاستمرار في هذا الطريق.. في بداية هذا القرن، كنا نُتهم بالأخلاقيين السذج، يمكننا اليوم القول إن كل من دافع عن العقوبات كسلاح، كان مجرما بحق الشعوب التي عانت منها.
*مفكر وناشط حقوقي
نشرت في موقع عربي21
عربي 21 : ما مشروعية اعتماد العقوبات سلاحا؟ وجهة نظر حقوقية (arabi21.com)