أبريل 24, 2024

الباثولوجيا واللا عقلانية أم الاغتيال كأداة سياسية

Pierrejumailلأول مرة يقف المرء أمام اغتيال أثيم ينال فقيدا دخل المعترك السياسي شابا ليطرح أكثر الأسئلة سذاجة وبداهة بآن: من المستفيد من الجريمة؟ وإن كنت قد قررت، منذ طلبت مني لجنة تابعة للمنظمة الأممية استشارة قانونية في تقرير ديتليف ميليس الأول ورفضت ذلك، قررت أن أحتفظ  لنفسي بكل ما يختلجها من تساؤلات وخواطر في الوقت الحاضر، خاصة وأن من الممكن حدوث خلط بين رأي شخصي لي وموقف اللجنة العربية لحقوق الإنسان التي أتحدث باسمها. لكن استفزني في الحقيقة هذا الصباح الصحفي الفرنسي مارك كرافتس على إذاعة “فرنسا الثقافة” حيث سمعت تحليله المخصص للصحفي السوري إلياس مراد رئيس تحرير صحيفة البعث الحكومية. كانت المداخلة ساخرة محتقِرة تهزأ بمجرد التفكير بأن القاتل يمكن أن يكون إسرائيلي الدوافع أو يعمل لصالح المحافظين الجدد. والحقيقة أنني في مواجهة إلياس مراد متأكد من براءة الأمن السوري من كل عمليات الاغتيال في لبنان وخارجه، ومارك كرافتس المتأكد من براءة إسرائيل من أية جريمة اغتيال باعتبارها ليست وضيعة وقمعية وأمنية. شعرت بأنني في ظلال حرب باردة جديدة. وكون الإدارة الأمريكية قد نجحت بجدارة في وضع حد للمشروع الإمبراطوري الأمريكي فاتحة المجال للصراع الإقليمي لتعبئة فراغاتها. فقد آثر عدد كبير من الصحفيين الفرنسيين القراءة الإسرائيلية لما يحدث (وهي لحد كبير تتوافق على القراءة الأمريكية الحالية) على الاحتفاظ بهوامش تسمح بالنقد أو مجرد طرح الأسئلة، وتركونا نحن “العربان” بين خيار أنظمة أمنية قمعية عربية وأعجمية ودولة عبرية شرّعت القتل الفردي والجماعي أمنا وطنيا.

وقعت حادثة اغتيال الفقيد بيير الجميل في وضح النهار، ولم تكن بمتفجرة بل برجل دون نقاب من دم ولحم، وقد نفّذ الاغتيال بعد أسبوع من التصريحات السياسية التي تتحدث عن اغتيالات للوزراء والنواب. كان مجلس الأمن قد أخّر جلسته للموافقة على المحكمة الدولية بعد رسالة من رئيس الجمهورية عن لا شرعية اجتماع الحكومة، وفي لحظة سوداوية، شعر أكثر من مؤيد للمحكمة الدولية بأنها على كف عفريت (اتصل بي نائب رئيس سابق للاتحاد الدولي للمحامين من اسكوتلندا صباح الثلاثاء يوم الاغتيال  ليسألني: “هل اشترت السلطات السورية ملف المحكمة بزيارة المعلم لبغداد؟”).

بيروت ليست بغداد، والحديث عن تحقيق جدي يصل إلى نتيجة ليس فقط ضرورة منطقية وعقلانية بل هو واجب حكومي وشعبي بعد قرابة عام على اغتيال الفقيد جبران التويني. ولا يمكن باتهام الأمن السوري أو الموساد أن يتم تغييب عنصر أساسي هو أجهزة الأمن ووزارة الداخلية اللبنانية المفترض أنها قد تخلصت من “الدولة الأمنية” التي شارك في بنائها الفقيد الحريري وعدد هام من نواب الأغلبية الحالية والتي أعطت المشروعية السياسية لتيار 14 آذار. لنقرأ هذا المقطع من مقابلة لجيزال خوري مع رئيس الوزراء اللبناني:

جيزال خوري: دولة الرئيس فؤاد السنيورة مين استلم الأمن هلأ؟

فؤاد السنيورة: هلأ فيه أجهزة أمنية ولكن في مجلس وزراء في وزراء، فبالتالي نحنا يعني هذه الحكومة أساساً جاية لتزيل ما يسمى الدولة الأمنية.

جيزال خوري: طيب فينا نقول نظفتوا هالدولة الأمنية ولا لأ؟

فؤاد السنيورة: هلأ نحن نخطو خطوات ونحن نتقدم على هذا الصعيد.

جيزال خوري: وين صرنا؟

فؤاد السنيورة: أعتقد إن التعيينات الأخيرة اللي قمنا فيها وبعدين هذا العمل اللي عم نقوم فيه وأنا عم تابعه شخصياً مع وزيري الدفاع والداخلية، ومع قادة الأجهزة الأمنية ومع قائد الجيش..
جيزال خوري: أي وزير دفاع؟

فؤاد السنيورة: يعني مع وزير الدفاع الوكيل، ولكنه أيضاً مع قائد الجيش ومع كل عم يصير في هناك تنسيق أفضل، معنويات أفضل أداء أفضل..

جيزال خوري : قائد الجيش.

فؤاد السنيورة: وقائد الجيش حتماً، يعني في كل..

جيزال خوري:  قائد الجيش يعطيك التقرير لك أو للرئيس لحود؟

فؤاد السنيورة: عم يعطيني أنا إلي شو يعني شو علاقته مع الرئيس لحود أعتقد إنه كمان فيه هناك حسب الأصول كمان بتتم، لكن أنا هذه العلاقة من خلال علاقة مباشرة بيني وبين قائد الجيش، وأنا عندي ثقة بقائد الجيش وأيضاً برؤساء الأجهزة الأمنية الموجودين” (انتهى المقطع)

لن أدخل في الجدال اللبناني- اللبناني حول دور المحكمة الدولية في استقالة الوزراء أو تحمل أوزار الطريق المسدود للوفاق السياسي في لبنان، فالوضع الدولي لم يعد مثل ذي قبل بكل المعاني. الإدارة الأمريكية تترنح والحكومة الإسرائيلية تتطرف لتغطية عوراتها، وفرنسا بدأت الحملة الانتخابية الرئاسية، ولا تشارك عائلة الحريري حتى الآن في تمويل أي من المرشحين للرئاسة الفرنسية. ولعل من آخر هموم الطبقة السياسية الصاعدة في اليسار واليمين ارتباطات والتزامات جاك شيراك الشخصية. من هنا فإن الدوافع الإستراتيجية التي كانت وراء تدويل “القضية اللبنانية” تمر في طريق وعرة، حيث يمكن أن يعود هذا البلد للصفوف الخلفية في الاهتمامات الغربية لأسباب داخلية (في فرنسا والولايات المتحدة) أو إقليمية (تسرطن المستنقع العراقي).

عدت إلى الصحف في أسبوع اغتيال الفقيد رفيق الحريري لأقرأ التصريحات السياسية واخترت منها تصريحات السيد وليد جنبلاط. أكد السيد جنبلاط في تصريحاته أن الأجهزة الأمنية السورية اللبنانية مسئولة مباشرة عن اغتيال الحريري. وبعد أيام عندما أحرجه أحد الصحفيين بالقول: وإن ثبت غير ذلك، أجاب: “الأجهزة الأمنية إذا لم تكن الفاعلة فهي لم تقم بواجبها في حماية الشهيد الحريري وفي الحالتين يجب عزلها ومحاسبتها”.

هذه المرة، السيد وليد جنبلاط يتهم الرئيس السوري مباشرة. ولا يطرح السؤال فيما إذا قامت الأجهزة الأمنية اللبنانية التي عينتها حكومة السنيورة بدورها أم لا؟ ولا يطالب باستقالة أي عنصر أمن؟ ولا يوضح لنا كيف حصل على الأدلة بهذه السرعة.

ولكن كيف ولماذا يتصرف الرئيس السوري بهذا الشكل اللا عقلاني والاعتباطي.

التفسير موجود: الرئيس السوري مريض ولذا لا يمكن عقلنة تصرفاته. وليس من الغريب وهو يفكر بالعودة إلى لبنان ليلا نهارا، أن يفعل كل شيء من أجل ذلك. طبعا لم يعد هناك معنى لتوجيه السؤال: لماذا لم يؤجل الاغتيال 24 ساعة خاصة وأن مجلس الأمن لم يقبل آليا موافقة حكومة السنيورة على المحكمة الدولية؟ كذلك لا معنى لطرح السؤال كيف يمكن وقف حملة المعارضة ضد الحكومة؟ كذلك السؤال هل يمكن طرح إسقاط الحكومة اليوم بالحدة التي طرح فيها الموضوع بالأمس؟ طبعا بمجرد تحويل القضية إلى الباثولوجيا ليس هناك معنى لطرح السؤال عن المستفيد، ففي الدين كما في السياسة، ليس على المريض حرج.

إن جل ما أخشاه، من هذا الأسلوب السهل للتعامل مع الموت والقتل، هو تحويل الاغتيال السياسي إلى قضية عادية في الحياة السياسية اللبنانية. أي إمكانية قتل أي شخص في أي صراع باعتبار أن القاتل معروف مسبقا. والحال هكذا، لن يكون لأية محكمة دولية، دائمة أو خاصة، أي دور في إنقاذ المجتمع اللبناني من بداهة القتل السياسي.

22/11/2006