العزوف عن المشاركة السياسية والعامة ليس مشكلة سورية بقدر ما نلاحظ إشكالياتها وإن اختلفت أسبابها في المنطقة العربية والعالم. وإن كان من المجحف مطابقة عزوف الشبيبة عن الفعل السياسي في المغرب مع سورية، إلا أننا بالتأكيد أمام ظاهرة فوق وطنية تعود لأسباب عديدة ويصعب حصرها في الفضاء السياسي المسموح به أو المناطق المتنازع عليها بين الدين العام والأمن العام أو حالة اليأس من إمكانية الفعل والتغيير إلخ. ومن الملاحظ أن العديد من فضاءات العزوف ليست بالضرورة رغبة بالإبتعاد عن وصمة سياسية أو الدفاع عن قضية. ولعل من المفيد التساؤل:
1- هل نحن أمام جيل ولد في ظل الحالة الاستثنائية وأتقن قواعد اللعبة فيها وأصبح يعرف الوسائل العملية لتحقيق مطالبه الخاصة وتلك الضرورية للعيش بهدوء بعيدا عن أزمة اللقمة وعلقم الكلمة؟
2- هل كانت الهزات التي عاشتها المنطقة منذ مطلع القرن فوق طاقة الشبيبة ومستويات تحملها بحيث آثرت أشكالا سلبية ترتكب عبرها أقل ما يمكن من أخطاء في عالم ارتفعت فيه وتيرة الجرائم وضربت فيه مكاسب هامة لليشرية ودخل العنف السياسي بقوة لعبة الكبار والصغار؟
3- هل يمكن الحديث عن ممارسات جديدة تقوم على توسيع هامش الحركة والتصرف ونمط العيش في تقاسم أدوار واضح بين الحاكم والمحكوم؟
4- هل بالإمكان تأييد الرأي القائل بأن وسائل التعبير الافتراضية أصبحت طرفا في الإبتعاد عن وسائل النضال الميدانية، وأن المجتمعات المغلقة تؤثر التعبير غير المباشر وتروج له؟
5- هل بالإمكان التعامل مع الشأن العام بشكل طبيعي عندما يكون العسف هو القاسم المشترك الأعظم لكل مفاصل الحياة السياسية ويكون غياب التناسب بين الفعل والعقوبة سياسة منهجية؟
6- لماذا يوجه السؤال للشبيبة ولا يوجه لحركة سياسية هرمة أو قيادة سياسية مفلسة ما زالت تعلن انتصاراتها الوهمية على الملأ؟ لِمَ يُطلب من الشبيبة البحث عن أشجار مزهرة في صحراء قاحلة؟
7- ما هي تداعيات احتلال العراق على الالتزام السياسي في سورية؟ ألم يتراجع عدد كبير من الشباب عن الهم الديمقراطي بعد المأساة العراقية وضياع البوصلة عند عدد غير قليل من المعارضين والمثقفين؟
8- هل استطاعت الشبيبة السورية سبر مواقع الحركة السياسية في السلطة والمعارضة؟ أليس من واجبنا تفهم ضياعها عندما نشهد حالة الضياع النظري السياسي وهزالة الثقافة السياسية في البلاد؟
هذه الأسئلة، وأخرى كثيرة تزاحمت على الرأس في هذا الصيف الدمشقي الحار والمرء يتساءل عن أسباب عزوف الشبيبة عن الشأن العام، ولعل رجعة قليلة للوراء تظهر بعض مواطن الخلل عند السائل والمسؤول.
شكلت الأعوام الخمسة الأخيرة من القرن الماضي نهاية حقبة بكل معاني الكلمة، عاد معظم قياديي المعارضة غير الدينية إلى المجتمع بعد اعتقالات ماراتونية يكتشفون مآلاته ويكتشف جديدهم، لا يوجد أي جديد لأكثر من عامين على صعيد السياسة الرسمية، وكأن التاريخ قد توقف ويحتاج إلى شرارة تعيد له الحياة.
جاء استلام الدكتور بشار الأسد رئاسة الجمهورية ليسجل قطيعة رمزية مع أبناء الجهازين العسكري والحزبي، وبعكس الموقف الجمهوري المبدئي عند قطاع واسع من الطبقة السياسية والمدنية الرافض لفكرة التوريث، بمن فيهم كاتب هذه الأسطر، كان ثمة ترحيب عند الشبيبة لاستلام رئيس ينتمي لجيل قريب من دائرة أعمارهم وطبيعة همومهم ومشاكلهم. وكان للهوامش المدنية التي أتيح لها التنفس في الأشهر الأولى من حكم الرئيس الشاب أن عززت فكرة الإصلاح والتحديث في البلاد، إلا أن بالإمكان القول اليوم، أن جوهر الحوار كان ينتمي أكثر إلى حقبة مضت منه إلى زمن آت. ففكرة النضال المدني التي حملتها “لجان إحياء المجتمع المدني”، والتي كانت برأينا الأقوى والأفضل لتهيئة انتقال هادئ وسلمي نحو دولة المشاركة والقانون، لم تكن ناضجة في أحزاب الجبهة الحاكمة أو في ما عرف بأوساط ربيع دمشق. ثمة من يفكر بإعادة بناء حزبه، وآخر ببناء تنظيم جديد، وثالث يتخندق في المتاريس القديمة عينها. ولعل هذا التخبط قد أعطى قرار المواجهة الأمنية الغلبة على قرار الحوار. بحيث جاءت اعتقالات “ربيع دمشق” بقرار داخلي محض، وسبق آخرها أحداث 11 سبتمبر 2001 بيومين، وقد تركت هذه الواقعة أثرها البليغ على اهتمام الشبيبة بالسياسة في العهد الجديد. وزاد في البلبلة وقوع أحداث سبتمبر وانطلاقة “الحرب على الإرهاب”، الأمر الذي أعاد رهاب التدخل الأجنبي بقوة تفوق تلك التي عرفتها المنطقة في حرب الخليج الثانية قبل قرابة عقد من الزمن. كذلك تمكن الإعلام الجديد من منح المواجهة الجديدة قوة السبق الإعلامي والمشهد السائد، الأمر الذي ساهم في تهميش الاعتدال السياسي ووجه الأنظار نحو حرب مباشرة بين تطرف المحافظين الجدد والتطرف الإسلامي.
إلا أن الصدمة الكهربائية الأساسية كانت يوم احتلال العراق. فقد حطم هذا الحدث كل التحليلات التقليدية والمقاربات النظرية-السياسية المعروفة. وبعد الجرح النرجسي للصدمة، الذي يعبر عنه موقف محامية سورية شابة توعدت بوش وبلير باللقاء في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، تبين لبعض من اكتشف النضال المدني حديثا والليبرالية في الكتب، أن التغيير يمكن أن يكون من فوق ومن الخارج، وليس بالضرورة بالبناء المدني والمواطني من الداخل. فبدأ الترويج لفكرة أن الاحتلال ليس أصل الداء، وهو مؤقتٌ يُمكن الخلاص منه إذا تفككت الدولة المستبدة. في وقت تهاطلت فيه على سورية جموع اللاجئين العراقيين من كل الملل والنحل كمثال عملي عن ما تقوم به قوات الإحتلال.
كان الاختيار الرسمي السوري صعبا ومكلفا، فلم يكن من السهل مواجهة ثماني سنوات من حكم المحافظين الجدد، خاصة وأن الحكومة السورية لم تتأقلم مع معطيات ما بعد انتصار المقاومة اللبنانية في الجنوب بقرارات سياسية مناسبة تحمي بها نفسها وحلفاءها أولها الانسحاب العسكري من لبنان. كما أنها وجدت نفسها بين ليلة وضحاها بدون حلفاء عرب، فقد انحنت الحكومات العربية لإدارة بوش-شيني، بل توسل إليها الرئيس القذافي أن تأتي لأخذ ما عنده من “فراقيع” نووية. وصار المطلوب من سورية أكثر مما يتحمله المجتمع والحكم معا. فالحساسية الوطنية السورية لم تتراجع رغم كونها جزء لا يتجزأ من الدعاية الرسمية، وهناك مليون نازح من الجولان ونصف مليون فلسطيني وأكثر من مليون عراقي لم تقدم لهم الإدارة الأمريكية أية بارقة أمل ولم يسعفهم الاتحاد الأوربي ولو بموقف غير ملزم. وقانون العقوبات الأمريكية على سورية يحمّل المواطن السوري أولا عقوبات قاسية تنعكس مباشرة على لقمة عيشه ومستواه التعليمي العالي وسفره من البلاد وعلى المستوى التقني للصناعات والأبحاث السورية.
في هذا الظرف الإقليمي المعقد، جاء اغتيال رفيق الحريري في 2005 ليخلق حالة انعدام وزن عامة في الوعي والممارسة، وينقل المشاركة السياسية إلى حالة تشبه تعويم العملة. فالاضطراب على أشده في الأوساط السياسية كافة، في السلطة كما في المعارضة، المجاهيل كثيرة، وسيناريوهات التغيير الخارجي عادت لتُطرح من جديد مع تشكل محكمة دولية خاصة. وقد تداعى أحد أقطاب السلطة السابقين (الخدام) إلى تشكيل جبهة للخلاص مع الإخوان المسلمين، وبدأ الحديث عن تاريخ توقيف ومحاكمة الرئيس السوري يجتاح المواقع الالكترونية المتكاثرة كالفطر. ولعلها من أكثر لحظات التخبط السياسي التي شهدتها سورية منذ مأساة حماه في 1982. في هذا الخضم، نجحت المقاومة الإسلامية في لبنان صيف 2006 في صّد العدوان الإسرائيلي بأوامر أمريكية، ووقف الشباب السوري (الذي ظنه الناس منعكفا في العبادة أو الغناء) موقفا تضامنيا كبيرا مع اللاجئين والضحايا. لكن على عكس ما توقع البعض، لم نشهد انضماما لهذا الالتزام التلقائي لأي من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية التي تشكو في مؤتمراتها من انخفاض نسبة الشبيبة (في مؤتمر الحزب الشيوعي عام 2006 لم تتعد نسبة الشبيبة “3.7%” من المؤتمرين). فالشبيبة الملتزمة بالقضايا الوطنية الكبيرة، لا تتعرف على نفسها في تنظيمات سياسية غير ديمقراطية الأداء والممارسة، كذلك تجد نفسها خارج منطق الخطاب السياسي التقليدي للطبقة السياسية: بعد فترة اكتشاف قصيرة لحزب الشعب الديمقراطي عاد اندفاع الشبيبة وتراجع، ويمكن القول أن الخطاب الكلاسيكي لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي لا يترجم البرنامج الوحدوي الديمقراطي الضروري لإعادة تشكيل تيار وحدوي جديد وأصيل، أما إعلان دمشق، فقد دفع مبكرا ثمن صراع القيادات لتحديد هوية مشتركة لم تعد ممكنة بعد حرب 2006. وبالتالي تحول إلى أيقونة ضرورية تدعمها الأوساط الغربية أكثر منه طموحا شعبيا محليا. ولم تتمكن الحركة الشيوعية من استلهام الفكر الاشتراكي الديمقراطي المدني الجديد ومازالت تتخندق في مواقع تم تجاوزها. أما الحركة الإسلامية السورية، فقد حافظ جناحها الإخواني في الخارج باعتزاز وحزم، على الإسم والرسم والرعيل القديم. وانهار قسمها الخارجي غير الإخواني أمام تسهيلات التمويل الأجنبي وانقسمت أجنحتها داخل البلاد بين تطرفٍ نائمَ الخلايا واعتدالٍ محاصر أمنيا.
عن أية مشاركة يجري الحديث؟ وهل يتعدى الوسط المشارك في أحيان كثيرة، رابط العائلة أو الوفاء لنضال الأهل أو احترام تاريخ الأشخاص. في حين تشهد البلاد حالة تضخم غير عقلانية للمظاهر المؤشرة على التدين حولت الشخص في أهم خياراته ومسلكياته إلى تَبَعٍ لشيخ أو شيخة، في عملية استلاب طوعية هي في مفهومها الأعمق استقالة من مفهوم البالغ المبادر المسؤول.
لا شك أننا أمام أزمة عميقة جدا، يزيد في فداحتها، ضعف الثقافة المدنية والمواطنية في الحركة السياسية حاكمة ومحكومة، والتي اختزلت الشأن العام في خطاب وطني ضحل أو روجت لأوهام تغيير سريع اعتبرته الشرط الضروري لبداية جديدة. ولعل الإنكفاء الهادئ، في أكثر من جانب، نوع من الحماية الذاتية من عواصف عاتية لم يسمح غياب الفضاءات الحرة للمواطنين بالإستعداد لمواجهتها وخوض غمارها كما يجب.
لابد برأينا من استعادة البوصلة المدنية، أي أن يكون الإنسان-المواطن مركز وقف الاستلاب العام والتخبط الحزبي والتشاجر الكيدي. المواطنة باعتبارها أهم ما يجمع كل السوريين، والنضال المدني باعتباره الدواء الشافي لنقص المناعة الوطنية واستعادة الكرامة بالمعنيين الذاتي (ابتداء من الشخص الواحد) والموضوعي (إعادة تكوين التجمعات والهويات على أساس حديث وديمقراطي) يشكلان نقطة الارتكاز لأي تواصل مع الشبيبة. لم تنجز سورية بعد مهماتها الوطنية، يوجد أراض سورية محتلة، وحقوق فلسطينية يشكل الاعتداء اليومي عليها عدوانا على كل شعوب المنطقة، وما من مثلٍ في التاريخ لبرنامج ديمقراطي صرف أنجز مهمته دون برنامج اجتماعي و/أو وطني.
هناك تغييب للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عند معظم كتابات الطبقة السياسية. ولا تعوض حركة حقوق الإنسان السورية، التي اختزلت معظم عملها في “بيان عاجل” هذا النقص بل تساهم فيه. وتتجنب العديد من التحالفات السياسية طرح مشكلاتها البنيوية والتنظيمية خوفا من أن يتم توظيف ذلك ضدها من طرف السلطة. كذلك ثمة مساحات اجتماعية-ثقافية واسعة مهجورة عن سابق عمد وتصميم حرصا على الجمع الحسابي لتحالفات هشة (الأحوال الشخصية، الدين العام، القضية الكردية وتعقيداتها، العلمانية..). الحديث في الفكر النقدي لا يتجاوز مثقفيه أصابع اليد الواحدة. والباقي يعيش حالة شعور بالرضا والكمال، رغم العفن المستنقعي السائد.
لا شك بأن التجميع المواطني لعناصر الحاملة المجتمعية للتغيير الوطني الديمقراطي، بشكل يُعيد الفعل السياسي قوةَ جذبٍ للشبيبة، يتطلب فيما يتطلب، ثورة في الذات وعلى الذات، وقدرة على إبصار وتشريح كل مواطن الخلل التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم.
عدد مجلة مقاربات الجديد 14-15 والجزيرة نت 29/8/2010